(السوداني) تُحاور الدبلوماسي خالد موسى حول "مجتمعنا وأزماته المعاصرة" المجتمع السوداني هارب من الحرية ... الأزهري أول من سدَّدَ طعنةً نجلاء في قلب الضمير الوطني لهذه الأسباب (....) الأهرامات في السودان أكثر عدداً من مصر السودان حسب سجلات المُستَعمِر كان تركة مادية خاسرة ستحدث نكسة وطنية إذا فشلت حكومة المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية في هذا الأمر (....) سادت روح المكاجرة والخلافات في الأحزاب السودانية والنخب أثناء فترة الاستعمار هذه (....) أول خيانة تاريخية للمثقف السوداني في عصره الحديث فقر النمو الاقتصادي وأمراض التطور السياسي والاجتماعي والثقافي تكمن في "النخبة، والطائفة، والقبيلة، والسلطة" وجود ما يفوق المائة حزب مسجل دليل على تفشي فوضى سياسية السودان الحاضر فَقَد الخيط التاريخي الذي يربطه بحضارته المزدهرة نمط التعليم التلقيني في السودان هو أحد مُعيقات النمو والتطور جموع الشباب العائدة إلى الدين إذا لم تجد من يُوظِّف طاقتها الفكرية ربما ترتد ثمة سؤال بات لا يفارق أذهاننا. نرددهُ كثيراً. إن سمعنا بمن" قتل صديقه لأجل جنيهات، فتاة انتحرت، فتى قذف بنفسه من أعلى الجسر، بقضية اغتصاب، أو بفئات تتجه نحو الإلحاد". نتساءل: ما الذي حدث للمجتمع السوداني؟ وإلى أين نتجه؟ فهل وجدنا الإجابة؟ أم أننا نطرح السؤال الخطأ؟ هل علينا أن نتساءل أولاً؛ من نحن؟ كيف نعيش؟ أسلوبنا في الحياة؟ هل نتجاذب بين أسلوب التملك والكينونة كما وصفه إريك فروم عن أزمة مجتمعاتنا المعاصرة؟ هل بات مجتمعنا تملكي استهلاكي، بقدر ما نملك نحن موجودن "مال، نساء، أبناء"؟؟. أسئلة جديرة بالبحث عن إجاباتها. طرحناها على الكاتب الصحفي والدبلوماسي بوزارة الخارجية خالد موسى. حوار: إيمان كمال الدين * كيف نُصنِّف أسلوب المجتمع السوداني عموماً في الحياة؟ إذا كانت الأمثال السودانية هي مستودع الحكمة الشعبية فغالب أمثالنا القولية تُعلِّي من شأن القدرية وهو ما أسماه إريك فورم (الميل للتلقي)، وهي تكشف عن عقل إذعاني تسليمي لاجدلي. وهذا بفعل الثقافة الصوفية السائدة التي تُعتبر أكبر المنابع المؤثرة في تشكيلات الثقافة والهوية السودانية، إضافة إلى عدم الاحتفاء بالحياة؛ فالمجتمع السوداني يعتبر من أقل المجتمعات الإنسانية احتفاءاً بالحياة واهتماماً بالرفاه المادي، لانعدام سقف الطموح وضعف نزعة التجريب والمغامرة. وفي المجتمعات الهجين مثل السودان تعلو العواطف على التقديرات العقلية، ويتضخم الجانب المعنوي على المادي. * إذاً بِمَ يمكن وصف المجتمع السوداني؟ إريك فروم في كتابه (الهروب من الحرية) يقول أن الإنسان في نموذجه الأول دفع ثمن تأسيس نظام قيمي مستقل عن عالم الطبيعة ونظامها الأخلاقي الموروث، مستخدماً العقل والإرادة الذاتية. وبهذه الخلفية نستطيع أن نقول أن المجتمع السوداني حسب تعريف فروم يمكن وصفهُ بأنهُ هارب من الحرية لا يستطيع الأخذ بناصيتها والوفاء باستحقاقاتها، لأنه ارتضى، بحكم تكوين عقله الجمعي، أن يَخضَعَ لسلطات معنوية ومادية؛ كسلطة شيخ الطريقة والطائفة والفكي والناظر وست الودع، مما أفقدتهُ حرية المبادرة والمغامرة والتجريب. وهذه الثقافة السائدة تنتظر ظهور (البطل أو المنقذ) فتحمل عنها مسؤولية الاختيار ووعثاء السفر ويقدم لها الحلول، ومع التحولات التي حدثت مؤخراً في نسيج المجتمع أصبح بعض الشباب، واختصاراً لطريق المثابرة الطويل، يختار الارتكاز على قوة العنف وسلطة السلاح بعد أن فقدت أدوات المساومات التاريخية فعاليتها وتأثيرها؛ فبدلاً من الزعيم الديني والطائفي والتميز الجغرافي أصبح الالتجاء إلى بطش السلاح وسلطة العنف هو أقرب الطرق إلى قلب السلطة الاجتماعية والسياسية لا التعليم والمثابرة. * نعود للوراء كثيراً بالنظر لتاريخنا، أسلوب مجتمعنا الآن هل لهُ جذوره التاريخية؟ السودان الحاضر فقد الخيط التاريخي الذي يربطه بحضارته المزدهرة في العصور السابقة، ولم تعد روح ذلك التاريخ تمثل أحد مصادر الهوية الخلاقة لإنسان السودان اليوم، والحضارات السودانية القديمة تعكس خيطاً متفرداً كامناً في روحها، وهي أنها لم تكن مجتمعاً طبقياً بغيضاً لكن توجد تراتيبية دينية وملوكية محفوظة، لذا فالأهرامات في السودان أكثر عدداً من مصر لكنها أصغر حجماً لأن مفهوم الإله الفرعون المالك والمسيطر لم يكن جزءاً من الثقافة السودانية القديمة. الملك في الثقافة السودانية القديمة هو أقرب لصورة الناس في المجتمع، وهو من يقدم التضحيات مثلما فعل المك نمر في المتمة. ولا شك أننا نفتقد فضيلة الوعي بالتاريخ، الذي أصبح مجرد مرويات شفاهية وطقوس تمجد الأسلاف وانتصاراتهم على من عداهم. * هل غرس الاستعمار فينا مفهوم الضحية؟ في ظني أن السودان ضحية عزلته الجغرافية، وثقافته الرعوية، عزَّ عليه الاتصال بأصول الحضارات العالمية إلا عبر مصر والشام والمغرب، وقال العلامة وليمز آدمز في سفره الهام (النوبة رواق إفريقيا) أن السودان لم يُغرِ الغزاة بالبقاء؛ إذ سرعان ما يقيمون التحالفات ويرفضون من يحكم باسمهم ثم يخرجون. هذه العزلة ترتبت عليها ميزات جمة؛ منها أصالة واستقلالية المجتمع السوداني وضعف التأثير الأجنبي عليه وتفرده بذاته، ولكن من سلبيات ذلك أنها جعلت من السودان جزيرة معزولة من أضواء الحضارات الغربية اللاحقة، فلم يجد التنوير والتحديث موطئ قدم في السودان إلا بمجيء المستعمر، كما حرمته أيضاً من أصول العلم الديني إذ لم ينزل بديار السودان فقيه، أو مقريء أو عالم أو محدث من أهل الطبقة الأولى، وجاء غلام الله بن عايد من اليمن، وجاءت الطرق الصوفية من المغرب والحجاز ومصر والعراق. لذا كثر الشطح وتناسلت الخرافات كما تعكسها القصة المشهورة بين القاضي دشين والشيخ الهميم كما صورها كتاب الطبقات لود ضيف الله. والاستعمار حمل مشروع التحديث إلى السودان، وما تزال البنيات التحتية الأساسية ونظم الإدارة الحديثة في الدولة من صنع المستعمر، ولكن يبقى السؤال: لماذا فشلت النخبة السودانية في دولة ما بعد الاستعمار؟ كما سقط الشعار التاريخي (تحرير لا تعمير) ولكن لم تتحرر العقول ولم تُعمَّر البلاد. * رؤيتك لواقع السودان ما قبل الاستقلال؟ دولة ما قبل الاستقلال وضعت أسُس الثورة المضادة بالدم والقرطاس لمحو تراث المهدية من الوجدان السوداني، والسودان حسب سجلات المستعمر كان تركة مادية خاسرة، فقد كان يُمَوَّل من الخزينة العامة المصرية، والناظر لفترة تشكل الأحزاب السودانية وتكوينات النخب أثناء فترة الاستعمار يكاد يتنبأ بما ستؤول إليه الأوضاع في العهد الوطني؛ إذ سادت روح المكاجرة والخلافات غير المجدية، ورهن المثقفون ولاءاتهم لزعماء الطائفية في أول خيانة تاريخية للمثقف السوداني في عصره الحديث، لأن السادة كانوا ولا يزالوا هم المعبر للسلطة، ورغم إنجاز الأزهري للاستقلال بحنكة وذكاء سياسي عُرِف عنه، لكنه أول من سدد طعنة نجلاء في قلب الضمير الوطني وهو يعيد تحالفه مع الطائفية، فباع أزاهير وجوه الحركة الوطنية الواعدة للولاء الطائفي، وكان يمكن إذا استعصم أن يغير وجه السياسة في السودان لأنها كانت الوتد الذي يشد حركة الوسط. * السودان ما بعد الإستقلال؟ ما تزال متاعب الدولة ما بعد الاستعمار كامنة في التراب السوداني، ولعل أكثر ما يرمز لها هي النكتة الشهيرة التي رواها الدكتور أليكس دِي وال، وهي أن السودان تحدث فيه كثير من الأحداث والمتغيرات والحراك والفوران والثورات وبعد سنين وعقود تجد أنه لم يحدث شيء. بما يعني أن الأحداث متغيرة بوتيرة متسارعة وعنيفة ولكن الحال باق والجوهر ثابت. وهو ما يلخصه المثل العربي: (أسمع جعجعة ولكن لا أرى طحناً). * كيف ذلك؟ مثلاً إذا تحدثنا عن فقر النمو الاقتصادي وأمراض التطور السياسي والاجتماعي والثقافي فهي تكمن في أربع مفردات هي: "النخبة، والطائفة، والقبيلة، والسلطة". وبغض النظر عن الأقوال الجاهزة لوصف وتبرير أسباب تخلف الواقع السوداني ومعيقات النهوض فإن الصراع التاريخي حول السلطة والثروة هو أهم أسباب الفشل الوطني، ودون معالجات جريئة وشاملة تخاطب أبعاد هذه القضية بمساومات تاريخية محسوبة فإن الخرق سيتسع وسيظل استخدام العنف سيد الموقف مستنزفاً موارد الدولة البشرية والمادية. لذا لا بد من عقد اجتماعي جديد بين "النخبة، الطائفة، القبيلة والسلطة". ولا شك أن الناظم والمنسق لمفردات العقد الاجتماعي الجديد هي حكومة المؤتمر الوطني وقطاعات الحركة الإسلامية التي إن فشلت في إدراك متطلبات اللحظة التاريخية والشجاعة السياسية والأفق الاستراتيجي والمشروع الكلي الشامل فسيؤدي إلى نكسة وطنية تُكلِّف الجميع ثمناً باهظاً. * برأيك هل فشلت الأنظمة المتتالية في امتلاك زمام الأمور؟ في مقام الوصف نعم فشلت الأنظمة السياسية المتعاقبة في حل إشكالات البلاد المتراكمة منذ عشية الاستقلال، وأضيفُ إلى مفردات الأزمة الوطنية المستفحلة من الطائفة والقبيلة والسلطة والنخبة بُعدَاً آخر وهو انعدام مشروع إصلاحي جامع؛ فقد ابتلى الله السودان بكثرة السياسيين ولكن حرمنا من بروز زعامات إصلاحية مؤثرة تعلو على الإقليم والطائفة والنخبة والسلطة مثل المهاتما غاندي في الهند. فشلت التجربة السياسية السودانية لغيبوبة النخب التي أدمنت احتكار الامتيازت التاريخية على حساب الكتل والجماهير، فشلت الأنظمة لأنها لا تملك الرؤية الإصلاحية الشاملة، وستفشل الأنظمة المتعاقبة على حكم السودان إذا ظل همها هو احتكار بيضة السلطة مقابل تقديم الأساسيات والاحتياجات الضرورية، وإذا ظل مشروع المعارضة هو استخدام العنف والحرب لإسقاط النظم بالقوة. * كثرة النزاعات الحالية ما هي دلالتها؟ تفشِّي هذه النزاعات دالة على الفقر. والفقر ليس فقط نضوب المال ولكنهُ أيضاً يدل على فقر التخطيط والإدارة والخيال لحل الإشكالات القائمة، وعدم الاكتراث لمهددات بقاء المجتمع، وهو فقر يقود إلى شل العقول ويكرِّس لروح الانتقام القبلي نتيجة للصراع على الموارد المحدودة. * كثرة الأحزاب، وانقساماتها، دلالته؟ وجود ما يفوق المائة حزب مسجل في السودان دليل على تفشي فوضى سياسية وتطلعات غير واقعية، لأن الحزب هو وسيلة من نظم المشاركة في الحياة السياسية العامة والتنافس للوصول إلى السلطة. لكن الأحزاب الراهنة التي يفتقد جلها للأرث التاريخي والتوجه الفكري الواضح والبرامج العملية والرؤية السياسية الجامعة جاءت لسد الفراغ في الفضاء السياسي وانسحاب بعض الكيانات التاريخية عن الساحة السياسية. لذا فإن انقساماتها وانشطاراتها تعتبر غير مقلقة لأنها لا ترتكز على كتل تاريخية مؤثرة أو تيارات فكرية فاعلة ولكنها تعبير عن ظاهرة الهشاشة في بنية الأحزاب السودانية. وحتى الانقسامات الشهيرة التي أثرت على الساحة السياسية تمت على مستوى القيادات العليا ثم تبعتها القواعد، مما يؤكد أن الأزمة دائماً في النخب وليست القواعد. * برأيك هل لنظامنا التعليمي أثر في هذه الفوضى؟ نمط التعليم التلقيني في السودان هو أحد معيقات النمو والتطور المستقبلي في السودان، لأنه يقوم على حشو التلاميذ بالمحفوظات ويطلب منهم استعادتها في أوراق الامتحانات، وهو تلقين يعتمد على الذاكرة التي تساوي 60% من مكونات الذكاء الإنساني. وتغفل مناهج التعليم في السودان تنمية وتطوير المهارات وتكوين الشخصية وتكريس استقلالها النفسي والاعتماد على الذات. كما أن جرعة الدراسات الإسلامية والدينية يجب أن تتوجه إلى صنع الحياة وتوظيف القيم الدينية في إصلاح الأخلاق والمجتمع والفرد وليس مجرد دراسة مرويات تاريخ ازدهار الحضارة الإسلامية. * البنية الدينية أثرها في توجيه سلوك المجتمع؟ السودان يعاني في الوقت الراهن من مخاض صراع المشروعات المتضادة، وهي مشروع الخلاص الفردي للتصوف والنزعة التطهرية للمدرسة السلفية ومدرسة التدين بالسياسة للحركة الإسلامية وأخيراً مشروع الجهاد بالسنان لا اللسان وهي مدرسة السلفية الجهادية. وأصبح نصيب السودان من نزعة التدين الناهضة في المنطقة العربية والإسلامية كبيراً وملموساً، والبعض يردهُ إلى أنه تدين شكلي يهتم بمظاهر الشعائر التعبدية ولم ينعكس على السلوك الجمعي للمجتمع في الأخلاق ومحاربة الرذيلة وحماية الحق العام، والخوف في تقديري أن جموع الشباب العائدة إلى الدين إذا لم تجد من يوظف عاطفتها وطاقتها الفكرية والدينية لنشاطات ومشاريع حيوية في بناء المجتمع وإعمار الحياة فستنصرف إلى مقتضيات أخرى وربما ترتد إذا شابتها نزعات تطرف إلى نحر المجتمع أو إلى مناطق الجهاد الإسلامي حول العالم. * من خلال متابعتك، هل تساهم دراسة البنية التاريخية للمجتمع في تطوره؟ أعتقد أن المجتمع السوداني لم يصل بعد إلى مرحلة الحراك الاجتماعي الناضج والحيوي الذي يولد التغيير ويصنع المؤسسات. لا نحتاج إلى مزيد من الدراسات التاريخية لمعرفة تكوينات بنية المجتمع السوداني لكننا نحتاج لتفكيك شفرة الحراك الاجتماعي الحيوي والناضج لأنهُ أس التغيير.