في لقائه بالتلفزيون بدا رئيس الجمهورية أكثر تماسكاً وثقة في حديثه وطرحه وأقوى حجة في رده، في الوقت الذي تتحدث فيه أطراف عديدة، في السودان وخارجه، عن طرق عنيف لثورة الربيع العربي لأبواب حكومة الإنقاذ. ولقد كان الرئيس البشير أبلغ في حجته وأوضح في بيانه، فاق فيه كثيرا من قيادات الحكومة في شرح مستقبل الحكم ومآلات الأمور في السنين الثلاث القادمة. ولقد أبدى بصيرة ثاقبة تعرف كيف تتبصر في الحاضر وتقرنه بحادثات الماضي لتقرأ من كل ذلك اتجاهات الأحداث في المستقبل القريب الذي يتراءى للناس مظلماً ومخيفاً، فبدد أوهاما وطرح آمالاً في مستقبل زاهر. لقد تحدث الرئيس في مواضيع شتى تناولت ما يدور في الساحة الداخلية وما يحدث فيها من تجاذب وتفاعل نتيجة حتمية لتغيرات تطرأ على المجتمع السوداني جراء انفصال الجنوب وتغيرات المفاهيم والأفكار في السياسة والاقتصاد. ولقد حدد السيد الرئيس برنامجاً اقتصادياً متكاملاً، وهو ما يهمني في هذا المقال التعليق عليه، ليس من باب العلم بالاقتصاد، ولكن لجلاء بعض الأمور حول متطلبات تنفيذ هذا البرنامج. إن طموحات القيادة تتطلب من الجهاز التنفيذي تجهيز العاملين بالمعرفة المطلوبة وبالأدوات والأساليب والنظم والإجراءات وبطرائق العمل الفاعلة حتى لا يبدو مرادها هباء منثوراً، فالدولة في مرحلة تغيير تحتاج لتبديل كبير في خططنا وبالتالي في أهدافنا وغاياتنا. ولقد حدد الرئيس هدفاً رئيساً وهو زيادة الصادرات وإحلال الواردات، بغايات سبع تتمثل في زيادة إنتاج البترول وإنتاج الذهب والتوسع في زراعة القطن والاكتفاء من الزيوت النباتية والاكتفاء من السكر وإنتاج القمح وإنتاج الصمغ العربي. بعض هذه الغايات للسوق المحلي مثل الزيوت النباتية والقمح، ومنها للصادر مثل الذهب، والآخر للاستهلاك المحلي وما يفيض منه للصادر مثل السكر. يقع العبء الأكبر في تحقيق هذه الغايات الكبيرة على وزارات بعينها، هي وزارات الزراعة والصناعة والمعادن والنفط، كما تساهم وزارة الثروة الحيوانية في دعم الصادرات في جانب اللحوم الحية والمذبوحة. ولو أفلحت الحكومة في تحقيق هذه الغايات بنسبة عالية، لجعلت البلاد واحة من الخير والنماء، ولأوجدت بدائل متناوبة لكل مصادر الإيرادات، إن تعطل أو ضعف بعضها سد بعضها هذا الضعف. وهذه الغايات أو الأهداف التي حددها الرئيس يمكن وصفها بأنها أهداف هجومية aggressive targets تتطلب شحذ الهمم ورفع درجات الاستعداد وحسن القيادة الإدارية والعزيمة التنفيذية والتجويد والفعالية والكفاءة، ويجب أن توضع لها خطط واضحة تنتهي بأهداف كمية نهائية ومؤشرات صارمة لقياس النجاح وترصد لها موارد حقيقية ويرفدها عاملون مؤهلون ومدربون ومحفزون بقيم عالية للعمل الجاد. إن التحدي الحقيقي لتحقيق هذه الغايات هو تكامل خطط الوزارات المذكورة ذات الصلة بهذه الغايات لتحقيق النتائج النهائية، ويجب أن تكون هناك خطط واضحة لكل وزارة تحدد نسبتها من النتيجة النهائية وتحديد عملها في تأهيل العاملين وبناء القدرات ورسم العمليات والبرامج والمشروعات التي تحقق عائدات تؤدي للتأثير المباشر في رفع قيمة الجنيه السوداني. ويجب أن تكون هناك جهة ما تتبع لرئاسة الجمهورية، تنسق جهود هذه الوزارات وترتب أولوياتها وتقسم الموارد بينها وفق الهدف المنشود لكل مرحلة، لأننا في كثير من الأحيان نعمل بطرائق مشتتة للجهود تحاول أن نحقق غايات لقياسات معزولة لا يجمع بينها رابط ولا تؤدي لهدف مشترك، فكل جهة تعمل في خط منفصل وموازٍ للأخرى مما يصعب معه تحقيق الهدف الواحد والكلي للحكومة. وكما قامت آلية للفساد في رئاسة الجمهورية، يكون قيام آلية مماثلة لهذا الدور ضرورة قصوى حتى لا تتبدد جهود الوزارات وتعمل كل وزارة في معزل من الأخريات فتضيع الأهداف. إننا في حاجة لحركة تفكير جمعي، فالتميز الفردي ليس له قيمة إن لم يدفع المجتمع كله في حركة فكر عميقة في جميع مناحيه وأركانه، ونحتاج لقدر كبير من التسامح وقبول الرأي الآخر حتى يُحس بالاطمئنان ويُساهم في حركة الفكر والبناء، وبذلك تعزز قدراتنا فنتطلع لنكون في مقدمة المنتصرين والفائزين. ويجب أن تتغير أساليب التحفيز والمكافأة والمتابعة بحيث يكافأ العاملون على مقدراتهم ومجهوداتهم وأدائهم وعلى نوعية وجودة القرارات التي تتخذها القيادات الإدارية في كل مستوى وعلى الأعمال التي ينجزونها ومدى مطابقتها للأساليب والنظم المقررة وللدرجة التي تتناغم فيها مع السياسة العامة للدولة وما تقود إليه من تحقيق أهداف البرنامج الذي أعلنه السيد الرئيس. وأنه في ظل ضعف الإيرادات الآن وما ينتج عنه من تباطؤ التنمية، وحتى نستطيع الاستمرار في تحسين الخدمات التي تقدمها الحكومة، علينا زيادة كفاءة التشغيل وذلك في كل الخدمات بتقليل الصرف وإعادة هندسة كل العمليات المفتاحية للتشغيل لتقليل التكلفة مع الاستعانة باستخدام مشغلين من خارج الجهاز الحكومي بطريق التعاقد لكثير من الخدمات التي تقدمها الحكومة. يتوقع علماء الاقتصاد أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة تزيد عن سبعة أضعاف حجمه الحالي، فيُتوقع زيادة كبيرة في قيمة الغذاء، وبالتالي يتوجب على خطتنا أن تُراعي دعم الزراعة وتصنيع الغذاء بكفاءة عالية وبنوعية تنافس في السوق العالمية. لا بد للخطة أن تضع سياسة استثمارية تُشجع الصناعة والزراعة للوصول للأسواق الخارجية وتحفيز الاقتصاد من خلال الصادرات، فالإنتاج بفكرة البديل عن الاستيراد يُنشئ صناعة أو زراعة قد تكون قوية ولكنها قد تكون حصناً ينكفئ فيه الاقتصاد فيركد. علينا تبني الميكنة الكاملة في الزراعة، ودورية المحاصيل وتعزيز الإنتاجية الزراعية بالتكنولوجيا الحيوية التي تتبناها كل الدول المتقدمة في الزراعة للخروج من مأزق قلة الغذاء الذي يهدد العالم خاصة في إنتاج الحبوب. كما علينا وضع خطة محكمة لضمان عدم تضخم النفقات العامة حتى لا تتأثر قيمة العملة وبالتالي تصبح المدخرات الوطنية بدون قيمة، وأن تكون هنالك إجراءات واضحة لكل مسئول تنفيذي بعدم استغلال المبلغ المتوفر له في الصرف الاستهلاكي، كما علينا تحديد حجم الاستثمار الأجنبي المطلوب بدقة ورسم خطة واضحة لاستقطابه. وعلينا تحديد كيف ستواجه أخطار تُحيط بالبلاد وغالب مصدر هذه الأخطار أسباب اقتصادية واجتماعية وبيئية. كيف نضمن صيانة مصادر المياه الجوفية والسطحية وتحسين البيئة بحفظ الغطاء النباتي وتعويض ما فقد منه؟ إن السودان يشهد تحولاً ديموغرافياً يتجه إلى أن تكون بنيته السكانية تشمل العديد من الأقليات التي قد تجنح في مطالبها، فلا بد من تقدير المخاطر التي قد تنجم عن ذلك ووضع المعالجات لها قبل حدوثها مما يفرض توازناً عادلاً في الطريقة التي توزع بها مشروعات التنمية، كما لا بد من بناء الجسر بين سوق العمل الرسمي والخاص ليستوعب العدد الكبير من العاطلين. إن مشكلة العصر القادمة هي قلة المياه الصالحة للشرب وللزراعة، فالإنسان يستخدم يومياً حوالى 4 إلى 5 لترات من الماء للشرب بكافة أنواعه، ولكنه يحتاج إلى 2,000 لتر لإنتاج طعام يوم واحد، ولذلك فإن أي عجز في كميات المياه ينعكس مباشرة في نقص المواد الغذائية، فالزراعة تستهلك حوالى 80% من المياه العذبة مما أدى إلى نضوب معظم مصادر المياه الجوفية في كثير من أنحاء العالم، فلذلك على خطتنا مراعاة المحافظة على المياه المتوفرة لدينا ما دمنا سنتوسع في الزراعة، وذلك باتخاذ أساليب الري الحديثة، وترك الري الانسيابى واختيار بدائل جديدة للري. فالري بالتنقيط (الدرب) أكثر فعالية من الرشاشات الدوارة، واستخدام النظم الالكترونية في الري يعطي كمية المياه الفعلية التي يحتاجها النبات وفي الوقت المطلوب. وتدل الدراسات على أنه باستخدام هذه النظم يقل استهلاك المياه بنسبة تزيد عن 50% مصحوباً بزيادة في الإنتاج في الحبوب. كما على الخطة أن تعمل على وقف هجرة العمالة الزراعية إلى المدن، لأن تكدس الناس في المدن له آثار سالبة على استهلاك المياه، ففي المدن يزداد استهلاك المياه الجائر مما يُضعف كميات المياه الصالحة للزراعة. إن ما طرحه السيد الرئيس يستدعي وضع خطة محكمة لتحقيقه، تخضع للمتابعة والتقويم ووضع البدائل وتوفير الموارد واستخدام التقنيات الحديثة ونشر الثقافة الزراعية مع إدخال التصنيع الزراعي وفنون التعليب والتغليف. إن التركيز على إضافة قيمة عالية على المنتجات السودانية المختلفة يكون بالاهتمام بالصناعة في كل مراحلها، فللصناعة دور رئيس في تحويل المواد الخام لمنتجات صالحة للاستخدام، كما أنها أكبر قطاع مشغل للبشر ولتدريبهم وتعليمهم المهارات الحديثة. إننا لن نرقى بحياتنا إذا ظلت صناعتنا متخلفة. نريد أن تُبرز لنا قيادات تُعلي قيم الإنتاج والادخار والتنمية والولاء للوطن وتوفير أحوال اقتصادية واجتماعية مستقرة تُتيح فرص عمل لجميع المواطنين، وتُقلل درجات الفقر وتُخفض معدله المتصاعد وتنهي صعود البطالة المتنامي. نريد أن نُعيد الحياة إلى مُثلها العليا في تكافؤ الفرص، وبذلك نضع استراتيجية لحل التضارب في المصالح بين الحرية والمساواة، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الذين يقيمون في الريف والذين يقيمون في المدن، بين أهل الشمال وأهل الجنوب، بين أهل الشرق وأهل الغرب، بين الموظفين وأصحاب العمل، بين الرجال والنساء. إن تكافؤ الفرص الحقيقي يزيل الضغط على المجتمع. إن تاريخ حكومة الإنقاذ في مبتدئه فيه مواقف أسيفة كثيرة، عداء وشماتة من الأقربين وتجهم وترصد من الأبعدين، ولقد أظهر الرئيس البشير مقدرة فائقة وقيادة مقتدرة في تحمل أعباء الرئاسة في هذا الوقت العصيب، أنقذ به البلاد من مخاطر عديدة وقاد معركة شرسة من أجل سلامة المواطن والبلاد. ولقد استبان من اللحظات الأولى للحكم أن لرئيس مجلس الثورة آنذاك كاريزما خاصة تختلف عمن سبقه من الرؤساء العسكريين، فهو قد صعد فوق ركام هائل من المشاكل والضعف الاقتصادي والسياسي، فأظهر تعاملاً حازماً وحازقاً مع كل مشكلات الدولة وأبدى قدرة فاعلة على التأثير في مجريات الأحداث المحلية والإقليمية. ولكي تكون هذه الأهداف ممكنة التحقيق يجب أن يتوافر للحكومة المناخ المعافى للتنفيذ، ولن يحدث ذلك إلا إذا توحدت نحوها رؤى كافة الوزارات وقامت على أساسها كافة الخطط والبرامج. وهذا يتطلب فعالية وكفاءة عاليتين من فريق الوزراء. ونعني بكلمة فعالية البرنامج الصحيح الذي يتوافق مع السياسة التي اختطها الرئيس في برنامجه، ولا يكفي أن يتميز الوزراء بالكفاءة العالية إذا ضعفت فعاليتهم، لأننا بذلك نزيد الهدم ونكرس الأخطاء.