في تلك الليلة مع وردي في الدوحة حدثنا الراحل المقيم عن الألحان - كيف تولد وأية صلة تربطها بالمجتمع ووجدانه –وجه انتقادا شديدا لما سماها الألحان الأكاديمية التي يتبناها نفر كريم ممن تاثروا بدراستهم في الغرب وغيره- مقابل من يلحنون بالفطرة والسليقة من خلال انسجامهم مع المجتمع وإحساسهم العميق به وبإرثه الوجداني. وليكون أكثر إيضاحا ضرب لنا مثالين أو لحنين أولهما "الرسائل" للراحل احمد الجابري – خاطبنا انظروا أية عبقرية هذه وهي تصدح من طرف الحبيب جات اغرب رسائل ... الخ الخ تنقل وردي من كوبليه الى اخر وفي كل مرة كان يثني على الجابري وخياله اللحني العريض – اما المثال الثاني فكان للراحل خليل اسماعيل واغنيته الاماني العذبة – اسهب وردي في الحديث عن لحن خليل اسماعيل وحلل جمالياته بصورة يصعب فهمها على غير المختصين – وهؤلاء تحديدا يحسون ويتفاعلون مع الالحان وليس مطلوبا منهم فهمها. التلحين احد الدعامات التي اشاد عليها وردي تجربته الفنية الى جانب حسن الصوت والثقافة العامة – فاللحن يتلبس الكلمات يلغي أية صلة لها بالخارج فنادرا ما يطرب احد لقصيدة مغناة وهي تلقى شعرا هكذا – والسبب عذوبة اللحن الذي يدمج موسيقى الشعر بالموسيقى. من هنا تسربت ألحان وردي وفرضت نفسها في الساحة في حركة يصعب تفسيرها او اخضاعها للدراسة والتقييم – دبت الحان وردي في شرايين الذائقة الشعبية وانعشت الوجدان السوداني ودفعت به الى مصاف التصالح مع نفسه والتواصل مع جذوره والانفتاح على راهنه سواء على المستوى العام او الخاص. الحان وردي – هي نفسها وافقت موهبته وذروة تفاعله مع محيطه منذ الميلاد وحتى الممات – لذا ستظل – نبراسا يهتدي به كل الباحثين عن الانسجام والسلام الداخلي – نعم - فسلام النفس حالة شعورية يصلها الفرد من خلال مصادر كثيرة ومتنوعة ليس الامر حكرا على الموسيقى وحدها – ومع ذلك ثمة حاجة متجددة لسماع وردي مرات ومرات لاكتشاف عمق الصلة التي خلقها بيننا وبين ذواتنا وبين الوطن المجرد من تشوهات السياسة ومزايدات السياسيين– الوطن القيمة والانتماء الذي يحب في ذاته ولذاته. يغادر وردي الحانه دون ان تغادره هي – ستبقى مرتبطة به – تنسب اليه وتعرف من خلاله – يغادر وردي الحانه ولا نغادرها نحن ولن تغادرنا هي ولن تفعل – فهي منا – أتتنا بتوقيع عبقري اختار اكثر الزوايا تأثيرا وأغزرها انتاجا وانتماء للبلد وانسانه فاخرج اجمل ما لديه - على مر سنين لم ينقطع خلالها عن التطوير والتجويد والابتكار والتنويع وفاء للفن ودوره واكراما للوطن واهله الطيبين. يغادر وردي دنيانا الفانية مصحوبا بالدعوات الصالحات وحب الناس وتقديرهم – يغادر الى الرفيق الاعلى الذي لا يظلم عنده احد – وكل العزاء لمحبيه وعشاقه الذين سيفتقدونه كما لم يفقدوا عزيزا من قبل. يغادر وردي ولا تزال كلماته الصيف الفائت في الدوحة في اذني خاصة عندما قال لنا – لقد بلغت الثمانين ولدي الكثير من الاسرار والذكريات اريد الكشف عنها قبل الرحيل فساعدوني بحكم عملكم الاعلامي وهذا ما فشلنا فيه بكل أسف.