حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    يرافقه وزير الصحة.. إبراهيم جابر يشهد احتفالات جامعة العلوم الصحية بعودة الدراسة واستقبال الطلاب الجدد    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    البرهان يصدر قراراً بتعيين مساعد أول للنائب العام لجمهورية السودان    راشفورد يهدي الفوز لبرشلونة    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خَجَّلْتنا يا خال
نشر في السوداني يوم 12 - 05 - 2012

هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته
خَجَّلْتنا يا خال
على عزَّة المحبِّين.. فقدت محبَّاً عظيماً
كان خالي "إسحاق" "يساريَّاً" في صباه.
وهو من الذين التمسوا في "اليسار" قيمة العدل والمساواة، إذ هناك – فيما أظنُّ – من قصد "اليسار" بغية لذَّة التَّمرُّد على الله، وهي لذَّةٌ شيطانيَّةٌ رئيسها "إبليس" ("قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً؟")؛ ولكن "إسحاق" كان عميق النَّظر في قضايا الإيمان، وهذا شأن الكبار. كان "شيخ الإسلام" "ابن تيمية" يقول: "والله إنِّي إلى الآن أجدِّد "إسلامي" كلَّ وقتٍ وما "أسلمت" بَعْدُ "إسلاما" جيداً"، وهذا من ذُرَى التَّواضع، لا سيَّما مِمَّن كان في مثل مقامه، ذلك أنَّ كثيراً من النَّاس لا يعلم أنَّ "إسلامه" الذي فتح عينيه عليه معلَّقاً في "مشلعيب" "تُكُل" البيت لن يغني عنه شيئاً ما لم يفق من "إسلام الوراثة والتَّقليد" ويقف تلك الوقفة، ويبدأ يسأل نفسه الأسئلة المصيريَّة الحارقة، ويبحر في رحلة البحث عن ذاته إلى أن يحطَّ زورقه على شاطئ اليقين. لذلك تجد الذين اختصروا هذا "المشوار" هم من المتنطِّعين أصحاب الهجوم المتَّصل على الآخرين، إذ إنَّهم يذوقون طعم إيمانٍ كاذبٍ عندما يشتمون إنساناً أو يقتلونه بدعوى الإيمان.
قال لي "إسحاق" – على غزارة ما قرأ من أطروحات "الفلاسفة" والعلماء – إنَّه على كثرة ما بسط منكرو وجود الذَّات العليَّة (أو منكرو "الرِّسالة المحمديَّة"، لست أذكر) من أطروحات، فإنَّه ولا واحدٌ فيهم استطاع أن ينفي إمكان وجود الله (أو صدق "النَّبيِّ")؛ وحدَّثني ضاحكاً عن صديقه "المحسي" الذي لامه بعض المنكرين أولئك عن "صَلاته"، فقال لهم إنَّه لا توجد مشكلة، فإن كان ثمَّة "بعث"، فستنفعه "صَلاته"، وإن لم يكن، فهم في العدم سواءٌ!
قلت له: هذا عجيبٌ، فهذا عين الشِّعر (الذي قرأته في "مدراج السَّالكين"، وقد ساقه "ابن القيِّم"):
زعم المنجِّم والطَّبيب كلاهما
لا تُحشَر الأجساد قلت إليكما
إن صحَّ زعمكما فلست بخاسرٍ
أو صحَّ زعمي فالخسار عليكما
و"الطَّبيب" المقصود هو على اصطلاح ذلك الزَّمان حين كان الطِّبُّ ممَّا يزاوله ال"فلاسفة" – أو "الحكماء" – ونُسب "البيتان" في موقع الشَّيخ "عبد الله سراج الدِّين" إلى "المَعَرِّي" وبروايةٍ أخرى قريبةٍ – وقد تعدَّدت رواياتهما في ال"نت" – وقال الشَّيخ "هذا أسلوبٌ أَوْلى في المجادلة مع المنكرين، وهو الأخذ بالاحتياط لدفع الإنكار، وهو من طرق الاستدلال العقليِّ على وجود "الآخرة" في مجادلة المنكرين"، وكلام "الشَّيخ" هذا عين ما قصدناه، ويعرف أصحاب الأذواق أنَّ تلك الدَّرجة بدايةٌ في سُلَّم التَّرقِّي الرُّوحيِّ.
قال "إسحاق": إنَّ هذا هو ذاته كلام صاحبه. ابتسم وسكت. وها هنا مزيَّة من أعظم مزاياه: ما رأيته مجادلاً قطُّ، وعلى كثرة ما دخلنا في كلامٍ ما تمادى معي ولا مرَّةً واحدةً، ولا مرَّةً! قد ترك "إسحاق" المراء – على كثرة ما كان محقَّاً – ف"المصطفى" زعيمٌ له ببيتٍ في رَبَض "الجنَّة".
ومزيَّة أخرى عظيمةٌ – بل عظمى – هي تركه الرِّياء. رجع من "المجر" منصوراً مظفَّراً، فسمع قريبةً لنا ظريفةً – بينه وبينها مواقف و"مقالب" – تباهي في غرفةٍ مجاورةٍ جاراتٍ لها بقريبها الطَّبيب الخرِّيج القادم من خارج البلاد، وجاءته " وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ"؛ فعمد إلى جلبابٍ قديمٍ مهترئٍ وقف به أمام الزَّائرات. "فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ" وبُهِتْن لا ريبَ (ومن حسن الحظِّ أن قريبتنا لم تكن "آتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ منْهُنَّ سِكِّيناً"!)، وتمَّ "المقلب" و"إسحاق" يضحك.
هذا الموقف – على طرافته – يدلُّ على شخصيَّته القويَّة، شخصيَّة بلغ من قوَّة صاحبها أنَّه ذوَّبها تذويباً، وإلاَّ فمن يجرؤ – ولو على سبيل المزاح – على الوقوف بتلك الهيئة أمام نسوةٍ مترقِّبات؟
رأى في "المجر" ما رأى من الجمال، من خُلاسيَّات "كوبا" إلى ربيعيَّات "هنقاريا" وخريفيَّاتها إلى غزلان "تشيكيا"، وهي أصقاعٌ شهد بجمال حِسَانها – على التَّوالي – الخبراء: "أنيس منصور" و"حنَّا مينا" و"مهدي الجواهري". فزهد في ذلك كلِّه، وانقلب إلى أهله وقتها وخطب أجمل فتيات الحيِّ: خالتي السَّيِّدة "إقبال"، فكان لها نِعْمَ الزَّوج، وكانت له كذلك.
كان خالي "إسحاق" – وسيظلُّ – "مفطِّر قلوب" ("هارت بريكر") من الطِّراز الأوَّل. حسبك أنَّه اجتمع على حبِّه "العُمدة" الأصيل النَّبيل "دهب محمَّد صالح" من "المؤتمر الشَّعبي" و"الدُّكتور" الوقور الرَّزين "عبد الله سيد أحمد" من "المؤتمر الوطني" والشَّيخ المهيب العفيف "شاكر محمَّد دهب" من خيريَّة "الأعراف" و"الدَّاعية" "المفسِّر" الماهر د. "محمَّد إسماعيل أيُّوب" من "السَّلفيِّين" والوزير السَّفير المحترَم "إبراهيم طه أيُّوب" من الوطنيِّين الشُّرفاء و"الدُّكتور" الحسيب الشَّريف "التُّهامي إبراهيم التُّهامي" من "الجبهة الدِّيمقراطيَّة"!
لو أراد الدُّنيا، وسعى لها سعيها وهو لاهث، لأتته راغمةً، كيف لا وهو اختصاصيُّ الأطفال النَّطاسيُّ. لم يحدث ولا مرَّةً واحدةً أن رأيته يخطئ في تشخيص حالةٍ طبِّيةٍ، ولو لم تكن في اختصاصه. ما من حالةٍ سمعته يشخِّصها –بناءً على الأعراض فقط دون تحليلٍ أو تصويرٍ – إلاَّ كان الأمر فيها كما قال.
وما من مرَّةٍ استدعيته إلاَّ وترك شواغله – مهما تكن – ووقف عليَّ في أعجل وقتٍ. ألَمَّ بي ذات مرَّةٍ التهابٌ حادٌ في الأمعاء، ولم ندر وقته ماذا يجري، فسبقتُه والوالدةُ الكريمةُ إلى المستوصفِ الخاصِّ عل أن يلحق بنا مع صاحبٍ له متخصِّصٍ، فدُفعت قبل مجيئهما إلى طبيبٍ مناوبٍ شابٍّ وعر الكلام والسَّجايا، وكم كانت دهشتي عظيمة أن أكتشف بعدها أنَّ لدى هذا – فوق ما سبق – شذوذاً سلوكيَّاً خطيراً. تعجَّبت: أيكون من الأطبَّاء مثل هذا؟
ولكن لماذا لا يكون؟ ونحن نحيط بعمِّي "أنور"، في عنبر مشفىً آخر – قبل عقدٍ من الآن – دخل علينا طبيبٌ مدوِّي الشُّهرة ومعه جمهرةٌ من طلبة الطِّبِّ. جاش السُّرورُ في صدورنا وفي صدر عمِّنا الرَّاقد يغالب الألم ونتشبَّث بالأمل. أمسك الطَّبيب بيده ورفعها. قال له عمِّي "أنور": "تشرَّفت بمقابلتك". هل قال له هذا: "بل أنا من تشرَّف يا حاج؟"، هل نظر في عينيه أصلاً؟ كلاَّ.
ما فعله الطَّبيب المشهور هو أن سأل طلبته ب"الانقليزيَّة": "قلنا البقع الصَّغيرة على الأظافر علامة على ماذا؟" وبعد صمتٍ أجابه واحدٌ منهم (إجابةً لم أتبيَّنها)، فأعاد أستاذهم يد عمِّي "أنور" وخرج يتبعه طلبته. لا أذكر أنَّ واحداً منهم كلَّف نفسه عناء تحيَّة العمِّ. ربَّما حفنةٌ منهم نظرت إليه نظرةً أخرى أخيرة، لا أدري بدافع الشَّفقة أم الفضول.
لا عجب إن رأى هؤلاء أساتذتهم يعاملون المرضى كذلك أن يصيروا مثلهم: غلاظ الأكباد.
لذلك عندما تناقل النَّاس مؤخَّراً مخالفةً خطيرةً ارتكبها ذلك الطَّبيب المشهور لم أعجب قطُّ، وما أؤمِّله من رحمة ربِّي في ردِّ ذلك الشَّخص إلى رتبته الحقيقيَّة (في دنيا القوارض) أكبر!
قطع "إسحاق" هجرته إلى "ليبيا"، ورجع طبيباً في "وادي حلفا" (قبل انتقاله إلى "الخرطوم"). ربَّما ورث شغفه ب"حلفا" عن أبيه، جدِّي "أبراس أيُّوب". أشبِّه هذا الرَّجل ب"غاندي"، من حيث صلابة المقاومة في سلامٍ. رفض الهجرة من "وادي حلفا"، وقاد معارضتها وسُجن، وظلَّ يشجِّع الباقين على المقاومة. ظلُّوا يتراجعون أمام خطِّ المياه إلى أن استقرَّ على ال"كنتور" المحدَّد له. سكنوا في أكواخٍ. قال لي "إسحاق" إنَّه بلغ من جرأة الضِّباع – لمَّا رأت قلَّة النَّاس – أن نزلت من الجبال وصارت تمشي بين الأكواخ مطمئنَّةً بالليل. طلب جدِّي "أبراس" النَّجدة، فجاء مفتِّشٌ طبيُّ بسمِّ قاتلٍ نادرٍ، وضعوا منه في لحمٍ، فالتهم منه ضبعٌ فقتله. كلَّما نهشت الضِّباع من لحم ضبعٍ نفق ماتت، إلى أن انقرضت بهذا "التَّفاعل السِّلسليِّ". في مثل تلك الظُّروف نشأ "إسحاق". ستشكِّل ندوب الهجرة حياته وحياة سائر من اختاروا البقاء، وحياة من اختاروا الهجرة، بل حياة من وُلدوا بعدها: مثلي.
أرسلني طبيبٌ (من "إخوان المذهب السِّياسيِّ") وزوجي إلى المشفَى الخاصِّ لإزالة علامة "زائد" ظهرت في تحليلاتها. لم أعترض، فالعلاج واجب، والمشافي الخاصَّة سمة العصر. دهشتي العظيمة كانت أنَّه عندما يحضر للمشفَى لا يمرُّ بنا، بل بمريضٍ آخر عرفت أنَّ بينهما ثمَّة مصاهرة. ولم أعترض. كنت أتربَّص به، وأنهض سريعاً قبل أن يخرج. يراني فيتذكَّرنا ويقول: "آه!". يجيء وينظر إلى مريضته، ويكتب دواءً ويغادر. ظننت بالفعل أنَّه سيعتذر عن نسيانه وعن أنَّه لم يمض معنا ما مجموعه أكثر من عشر دقائق بالتَّنازل عن أجرته (كان يجب أن أمضي فأظنَّ أنَّه سيهدينا – فوقها – هديَّةً مسواكاً من "أراك" "تِهامة"، إذ كان قد رجع من "عُمرةٍ" قريبةٍ). المفاجأة كانت عندما رأيت مطالبته الماليَّة "المئويَّة". أسرعنا فغيَّرناه، غير مأسوفٍ عليه (ونوشك أن نغيِّر "المذهب"—غير مأسوفٍ عليه كذلك).
قدح إنسانٌ ما (من "إخوان المذهب السِّياسيِّ" كذلك) في "الدُّكتور" عبد الله علي إبراهيم" بكلمةٍ ("انقليزيَّةٍ") نقلها لي صديق قبل سنوات. ولمَّا كنت أقرأ ل"الدُّكتور" "عبد الله" بانتظام في جريدة "الخرطوم" أيَّام "الدِّيمقراطيَّة" السَّابقة، معجباً بقلمه وبثقافته ومعترضاً على جُلِّ ما يذهب إليه، صرت أتَّخذ من كلِّ عمودٍ طوبةً في الجدار الذي يفصل بيننا، فاكتمل الجدار العازل بكلمة "صاحبنا" ذاك. تهيَّأ لنا بعد ذلك مخالطة د. "عبد الله" وذلك القادح له، لنجد أنَّ د. "عبد الله" خيرٌ من ملء الأرض من أمثال ذلك الذي وقع فيه!
قال "مذهب سياسي" قال!
بغير دعاوى الفضيلة الرَّفيعة، وبالمحبَّة غير المحدودة التي صدَّقها السَّهر والجهد، صنع أمثال "إسحاق" و"عبد الله" رصيدهما في قلوب النَّاس.
احتسب "إسحاق" صغيره "بسَّاماً" الذي صعد إلى بارئه بعد حادثٍ مروريٍّ، وكان ألمه عظيماً. لم يقل – وخالتي "إقبال" – إلاَّ ما يرضي الرَّبَّ. قال لي العمُّ-الخال "صالح سيِّد أيُّوب" إنَّه في عمليَّة المشفَى الحكوميِّ الكبير الجراحيَّة ل"بسَّام" انقطعت الكهرباء في غمرة الحاجة إلى "أوكسجين". طُلب من المرافقين إيقاظ الطَّبيب المناوب ليخرج لهم مضخَّةً يدويَّةً. دقَّ الشَّباب على حجرة الطَّبيب فخرج عليهم، وتبيَّن أنَّه كان يغطُّ في النَّوم. هل اعتذر عن انقطاع الكهرباء؟ هل اعتذر عن نومته؟ كلاَّ. ولا شيءٌ من ذلك حدث. ما حدث هو أنَّه وبَّخهم توبيخاً شديداً عن إيقاظه!
قال لي السَّيِّد "صالح": "قلت لهم كان يجب أن توسعوه ضرباً". جديرٌ بالذِّكْر أنَّ "صالحاً" من أكثر من لقيت سلاماً وهدوءاً، وأحياناً تبذل جهداً في الإنصات لتلتقط همساته وهو يتكلَّم معك. فإن كان ذلك رأيه في أحدٍ فهو يعني أنَّه يستحقُّ القتل!
هل هؤلاء أطبَّاء؟ هل هؤلاء – في المقام الأوَّل – بشرٌ؟
من حقِّك أن تعجب وتقول: سبحان الله! خالق هؤلاء وخالق "إسحاق أبراس" واحدٌ!
لولا "داود مصطفى خالد" و"لويس عبده تادرس" و"محمَّد آدم أدهم" و"محسن عوض شِبيكة" و"إسحاق أبراس أيُّوب"، وأمثالهم، لظنَنَّا بالأطبَّاء الظُّنونا!
نسأل الله أن يبارك في عقب "إسحاق": باشمهندس "فارس" ود. "فاتن".
فلو أراد "إسحاق" الثَّروة من طريق الطِّبِّ لجاءته راغمةً، لكنَّه رجع وتحصَّن بالوطن، ورفض أكثر من عرضٍ يسيل له اللعاب للعمل مقابل ال"بترودولار". وفي الوطن كان يعالج من لا يقوى على الثَّمن الزَّهيد لعيادته بالمجَّان!
كانت النَّتيجة أنَّه ركب سيَّارة لا أدري الآن ما "ماركتها": "داتسون" أم "كورونا" أم "كريسيدا"؟ ليس لها – على أيِّ حالٍ – من صفات سيَّارات اليوم سوى أنَّها تسير على أربع عجلاتٍ. ولم يكترث بذلك ولا ب"كلام النَّاس". لم يكترث "إسحاق" يوماً واحداً ب"كلام النَّاس". يا عزيز يا حبيب: من لي بمثل مشيك المدلَّل؟ تمشي الهوينَى وتجيء في الأوَّل.
في "مكتب القبول" وقف الخالان "إسحاق" و"يحيى" بجواري في غاية القلق من اختياري. أردت "الهندسة النَّوويَّة" لأصنع قنبلةً تقرُّ بها عيون "المسلمين" وتغيظ "الكافرين". سلَّم "إسحاق" و"يحيى" بوجاهة الفكرة، بَيْد أنَّهما أخذا يطلبان في إشفاق أن ألاحظ أنَّ سوق العمل في "السُّودان" لم يكن به ولا بقعة واحدةٌ لذلك الحُلُم، إضافةً إلى أنَّ ذلك التَّخصُّص لم يكن موجوداً ولا في كلِّيَّةٍ واحدةٍ! تظاهرت بأنَّني نزلت على رأيهما مرغماً، واخترت "الهندسة المدنيَّة". لبَّى ذلك غروري وأتاح لي خروجاً آمناً. هذه واحدةٌ من حكمة خلق الأخوال والأعمام والإخوان. لاحظت أمس "الاثنين" أنَّ دفء رفقتهما في ذلك اليوم المشهود يذكِّر بأحد أدعية "أوراد" "الصَّوفيَّة" المشهورة: ""جبريل" عن يميني و"إسرافيل" عن يساري". كنت في أمانٍ تامٍّ بصحبتهما، وما أستبعد أنَّ الملائكة كانت تحفُّنا فعلاً—وهما منها.
قبلها بعامٍ، في ضحوة "الاثنين" 26 "جمادَى أولى" 1402 للهجرة الموافق 22 "مارس" 1982 للميلاد، سلَّمني "بروفيسور" "النَّذير دفع الله" كأس بطولة "مسابقات المدارس". استدرت إلى الجمهور ورفعت الكأس. كان في الحاضرين إخوتي من "الخرطوم الجديدة"، وحِسَان "أم درمان الثَّانويَّة" (الفريق المنافس في النِّهائي) الباهرات وحِسَان من "الخرطوم القديمة" لسن أقلَّ إبهاراً، ومسؤولون وأساتذة وطلاَّبٌ مبدعون. من كلِّ هؤلاء لا أذْكُر من تلك اللحظة سوى أخي الكريم "طارق داوود قُرْناص". كان هناك – في الرُّكن القصيِّ للجمهور – رفع يديه معي بالضَّبط، وخرجت من فيه ابتسامة ملأت ال"استديو".
كنت أنا الذي في بقعة الضَّوء. ولكن أن يفرح نديدٌ بانتصارك هكذا – بل أن يتفوَّق عليك في الفرحة – فذلك يعني أنَّه من المصطفَين الأخيار.
بعد ذلك بثلاثة عقودٍ بدا لي "إسحاق" قلقاً من كيف سأبدو في زفافي ليل "الأحد" 9/10/11. أظنُّه خشي أن ألبس "كاجوال" فتصير فضيحةً في عُرسٍ لم يَخْل من بعض المناوشات والمساومات. من كلِّ مهرجان الصُّوَر في المسافة من باب الصَّالة إلى ساحة "العَرْضة"، لا أذكر سوى خالي "إسحاق" يقف أوَّل المصطفِّين. أعجبه اختيار العمامة والجلباب وال"بشت". كان يصفِّق بحرارةٍ خفَّضت من برودة الليلة ال"أكتوبريَّة"، وبابتسامةٍ عذبةٍ ستصير من أجمل ما سأحمل من ذكرياتٍ.
لذلك أنصحك: في غمرة انتصاراتك لا تنس أن تتفرَّس في الحاضرين، لتصطفي منهم أحبَّتك.
بعد رحيل "إسحاق" ليل أوَّل أمسٍ "الأحد" (8 "جمادَى أولى" 1433ه – 29 "إبريل" 2012م) اكتشفت اكتشافاً غريباً: مهما بلغ من حبِّي له، فهو قليلٌ بجانب محبَّته لي. تذكَّرت كلمات "عبد الرَّحيم حاج أحمد" عن العلاقة بين الشَّيخ "محمَّد وقيع الله" (والد الشَّيخ "عبد الرَّحيم البُرَعي") وبين أستاذه الشَّيخ "عمر محمَّد الصَّافي"، كما أوردها "عبد الرَّحيم" في "بُرَعي السُّودان" ("مركز الأسباط"، 2009م)، قال: "ومن فرط محبَّته لشيخه – كما قال [أي شيخ "محمَّد"] – تمنَّى لو وضع تلك المحبَّة على يديه ليدلِّل لشيخه على مدى حبِّه وتقديره له، ولكن لمَّا فتح الله عليه كما قال، ورأى محبَّة شيخه له، استحى من ضآلة محبَّته مقابل حبِّ شيخه له، فاطمأنَّت نفسه بعد ذلك".
فعجبت من ذلك. كنت أظنُّني عظيم الحبِّ ل"إسحاق"، فلمَّا رحل تبيَّنت أنَّ حبِّي له لا يُعَدُّ شيئاً بالإضافة إلى حبِّه لي.
واخجلتاه يا خالي يا "إسحاق"!
يقول "أحمد بهجت" في "الله في العقيدة الإسلاميَّة" ("مركز الأهرام"، 1986م): "فإذا فاتك يا سيِّدي أن تكون محبوباً، فلا يفُتك أن تكون محبَّاً؛ وإذا لم يكن حظُّك أن تكون "يوسُف"، فمن يمنعك أن تصير "يعقوب"؟".
ومع إنَّني ظللت ألاحظ دائماً أنَّ الحبَّ بين سيِّدَينا "يعقوب" و"يوسُف" ظلَّ دائماً ذا اتِّجاهين (بدليل "اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ") إلاَّ أنَّ وجهة نظر "بهجت" مفهومةٌ: إعطاء الحبِّ لا يقلُّ جمالاً عن أخذه—بل هو أجمل. لقد كان خالي "إسحاق" من العظمة بحيث ينطبق عليه الدُّعاء الجميل ل"علي شريعتي" (كما يظهر في كتابه "الدُّعاء"، ترجمة "سعيد علي"، نشر "حسينيَّة إرشاد"، 1415ه): "إلهي، وفِّقني للمحاولة في الفشل، وللصَّبر في اليأس، وللسَّير بلا رفيق، وللجهاد بلا سلاح، وللعمل بلا جزاء، وللفداء في صمت، وللدِّين بلا دنيا وبلا عوام، وللعظمة بلا شهرة، وللخدمة بلا خبز، وللإيمان بلا رياء، وللخير بلا نفاق، وللشَّجاعة في نضج، وللمناعة بلا غرور، وللعشق بلا هوس، وللوحدة بين النَّاس، وللمحبَّة من غير أن يعلم المحبوب".
و"كلُّه كوم" و"المحبَّة من غير أن يعلم المحبوب" "كوم تاني".
نعم. كان "إسحاق" من العظمة بحيث إنَّ قلبه أحبَّنا بأعظم ممَّا نعلم.
ومرَّة أخرى: واخجلتاه يا خالي يا "إسحاق"!
اللهمَّ قد كَلَلْنا (كلل تعبٍ وأدبٍ، لا كلل مللٍ وعَتَبٍ)، فاحمل عنَّا يا الله، واحملنا.
"إسحاق".. يا حبيبي ومحبِّي:
على عزَّة المحبِّين.. فقدت محبَّاً عظيماً.
ولم تَخْلُ الأرض من الشُّرفاء.. ولكن برحيلك فقد "السُّودان" شريفاً رفيعاً.
ما فَضَلْتَهم يا "إسحاق أبراس" بكثرة "صلاةٍ" ولا "صيامٍ"، ولكن بحبِّك وَقَرَ في قلوب النَّاس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.