اشرنا في الحلقة السابقة الى تصاعد الاهتمام بما يجري في اقليم شرق افريقيا من اكتشافات للنفط والغاز وجدت التعبير السياسي عنها في الزيارة غير المسبوقة لوزير الخارجية البريطاني وليام هيج الى الصومال، وهي زيارة لم تشهد مثلها البلاد لمسؤول غربي بهذا المستوى لاكثر من ثلاثة عقود من الزمان، ومع حقيقة ان ما جرى تداوله حتى الان يحتاج الى وقت يطول او يقصر وفق عوامل كثيرة ومتعددة قبل ان يصبح واقعا ملموسا، الا ان انعكاسات كل ذلك على السودان تطرح سؤالا مشروعا. اول الملاحظات التي يمكن ايرادها ان الشركات الاجنبية والغربية تحديدا ستبذل جهدا كبيرا لتحويل هذه الاكتشافات الى واقع من باب تاسيس منطقة جديدة لامدادات الطاقة يمكن ان تكون اقل تاثرا بعمليات التوتر التي تشهدها منطقة الخليج، خزان النفط الرئيس في العالم. واهم من ذلك موقعها الجغرافي الذي يجعلها تتجاوز مضيق هرمز، الذي تمر عبره نسبة مقدرة من تجارة النفط العالمية. تزايد احتمالات زيادة التوتر في ظل المواجهة المتصاعدة مع ايران يمكن ان تعطي شرق افريقيا اهمية اضافية، وذلك حتى اذا لم تشكل هذه المنطقة بديلا لنفط الخليج من ناحية الحجم كما يامل البعض مثل الامريكان الذين يودوا ان يروا ربع وارداتهم النفطية على الاقل تاتيهم من افريقيا. والامر كذلك فان احتمال التطوير للصناعة النفطية في شرق افريقيا يلقي بظلاله على السودان من عدة جوانب: اولاهما ان هذه المنطقة ستكتسب ثقلا سياسيا واقتصاديا اضافيا يتطلب نقلة نوعية في التعامل معها. والمؤشرات على هذا واضحة في الدور الاثيوبي المتعاظم في الشان السودان مثلا وفي التعامل مع قضايا مياه النيل حيث اصبح السودان ومصر اقلية بين دول الحوض العشر وليس بامكانهما فرض ارادتهما على الاخرين بل حتى ان قدرتهما على الحفاظ على الترتيبات القديمة والقائمة اصبحت محل تساؤل. حدوث طفرة في ميدان النفط والغاز في المنطقة سيعزز من هذا الوضع خاصة اذا اضيف اليه البعد المتعلق بالاستقرار النسبي للنظام السياسي في المنطقة، الذي وصل الى مساءلة البرلمان اليوغندي، الذي يسيطر عليه الحزب الحاكم، رئيس الوزراء ووزيري الخارجية والداخلية عن تهم فساد تتعلق بممارسات شركة "تللو"، ولو ان هذا النظام سيكون مواجها باختبار فيما اذا صدقت وعود ميليس زيناوي ويوري موسفيني في اعتزال العمل السياسي التنفيذي. الجانب الثاني ان فرص اقامة خط انابيب يكون بديلا للتصدير بدون السودان تصبح ذات جدوى اقتصادية افضل رغم العقبات اللوجستية والامنية التي يمكن ان تعترض مثل هذا الخط. ومن اكثر الاقتراحات معقولية التي طرحت لنقل نفط جنوب السودان من قبل شركة توتال الفرنسية ان يمر الخط المقترح عبر يوغندا قبل ان يتجه الى كينيا وذلك لضمان وجود احتياطيات كافية لتشغيل هذا الخط في المستقبل. اما الناحية الثالثة فتتمثل في انه في حال نجاح جهود الاستكشاف والتنقيب الحالية ووصولها الى منطقة الانتاج في كينيا ويوغندا مثلا، فانها ستحتاج الى منافذ اضافية للوصول الى الاسواق، سيلعب عامل الجدوى الاقتصادية والطبوغرافية فيها دورا رئيسيا، ووضعا في الاعتبار ان السودان اعلن عن برنامج طموح لزيادة الانتاج، وان الجنوب سيعود الى تصدير نفطه بصورة او اخرى مما يجعل الخطوط القائمة غير كافية للنقل مستقبلا حتى اذا تغيرت البيئة السياسية العدائية الحالية بين السودان وجنوب السودان. وهذا ما يتطلب نظرة مستقبلية ذات بعد استراتيجي تسعى للاستفادة من موقع السودان الجغرافي وطبوغرافيته التي تجعل الانسياب الطبيعي من الجنوب الى الشمال، ولهذا يتم استخدام محطتين او ثلاث فقط من كل محطات الرفع الست في خط الانابيب الناقل من هجليج الى ميناء بشائر على ساحل البحر الاحمر على مسافة 1610 كيلومترا. وضع السودان يمكن ان يجعله احد منافذ التصدير والاستيراد لاربع دول مغلقة تجاوره هي: اثيوبيا وتشاد وافريقيا الوسطى وجنوب السودان، بل ويمكن ضم يوغندا اليها، وهو حلم قديم قعدت به حالات عدم الاستقرار والاضطراب السياسي والامني وسيادة ذهنية التربص التي لا تزال قائمة بمختلف الاشكال. وفوق هذا بالطبع غياب البنية الاساسية خاصة بعد انهيار خطوط السكة الحديد في السودان التي تمثل ارخص وسيلة للنقل. تصاعد الصراع بين الخرطوموجوبا مما ادى الى وقف الاخيرة تصدير نفطها عبر السودان واعلان الخرطوم انها لن تسمح بمرور نفط الجنوب عبر السودان مستقبلا يضىء نورا احمر امام اية دولة راغبة في استخدام منفذ السودان البحري الى العالم الخارجي لانه يرهن المصالح التجارية الى التطورات السياسية المتقلبة. ويحتاج السودان الى بذل جهد ضخم لتثبيت حقيقة انه يمكن الاعتماد عليه منفذا للتصدير. جولة المباحثات المقبلة رغم انها تتم بضغوط من الاتحاد الافريقي ومجلس الامن، الا ان الضغط الاساسي ياتي من الوضع الاقتصادي في البلدين مما دفع المسؤولين الاقتصاديين في البلدين الى التصريح بابعاد الازمة كما في افادات وزير المالية علي محمود امام البرلمان عن فجوة (2.4) مليار دولار بسبب غياب عائدات رسوم العبور التي كانت مضمنة في الميزانية وارتفاع التضخم الى (21) في المائة في الربع الاول. محافظ البنك المركزي في جنوب السودان كورنيلو كوريوم ماييك ذكر لصحيفة الفاينانشيال تايمز في الخامس عشر من هذا الشهر ان الصين ابلغت جوبا انها لن تساعد في بناء خط الانابيب المقترح، وان الاحتياطيات الموجودة في حدود المليار ونصف المليار دولار تغطي فترة سبعة اشهر من الاستيراد. ويلاحظ في تصريحات المحافظ ان العون المالي الفعلي الذي حصل عليه الجنوب حتى الان من الصين وقطر، وهما اكبر داعمين للسودان. ولعل في هذا ما يعيد التركيز على حقيقة واهمية وضرورة الترابط بين البلدين. فالكلام في هذا الجانب الذي بني على حقائق الجغرافيا والتاريخ والاجتماع يكتسب له بعدا جديدا، ان العون المالي تحديدا للبلدين ياتي من مصادر واحدة مما يتطلب الخروج من العقلية المتخندقة وراء نظريات المؤامرة والاستهداف والنظر في تبعات التحدي الجديد حيث تتهيأ منطقة شرق افريقيا لاستقبال طفرة اقتصادية ونفطية فيما يتواصل الاستنزاف بين السودان وجنوب السودان.