السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    "واتساب" تحظر 7 ملايين حساب مُصممة للاحتيال    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    بيان من لجنة الانتخابات بنادي المريخ    كلية الارباع لمهارات كرة القدم تنظم مهرجانا تودع فيه لاعب تقي الاسبق عثمان امبده    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    بيان من الجالية السودانية بأيرلندا    شاهد بالفيديو.. السيدة المصرية التي عانقت جارتها السودانية لحظة وداعها تنهار بالبكاء بعد فراقها وتصرح: (السودانيين ناس بتوع دين وعوضتني فقد أمي وسوف أسافر الخرطوم وألحق بها قريباً)    شاهد بالصورة.. بعد أن أعلنت في وقت سابق رفضها فكرة الزواج والإرتباط بأي رجل.. الناشطة السودانية وئام شوقي تفاجئ الجميع وتحتفل بخطبتها    البرهان : لن نضع السلاح إلا باستئصال التمرد والعدوان الغاشم    وفد عسكري أوغندي قرب جوبا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحردلو.. في تشييع الزول (السمح والزين)


تصوير: سعيد عباس
برغم سخونة الأجواء داخل مقابر الصحافة نهار أمس، إلا أن ذلك لم يمنع العشرات من التدافع الحزين صوبها، وذلك لتشييع رمز من رموز الأدب والسياسة في السودان، وهو الشاعر الدبلوماسي سيد أحمد الحردلو، الذى وافته المنيه صباح امس..بعد معاناة طويلة مع المرض..ولعل الصورة داخل المقابر كانت تحتاج لألف تعليق وتعليق، حتى تصل إلى مستوى الإدراك والشفافية..فالحزن الذى خيم على المكان..والدموع التى كانت تسابق الكلمات في (هرولة) حزينة..كانت مشهداً يصعب وصفه بأي حال من الاحوال.
الطريق إلى القبر:
بعد تلقي الخبر الحزين..تحركنا مباشرة صوب منزل الراحل الكائن بمنطقة المعمورة بالخرطوم..حيث حمل الجثمان وانتقل به إلى مسجد (العصمة)..حيث مراسم الصلاة عليه..عقب صلاة الجمعة مباشرة..قبل ان يتوجه الجثمان والمشيعون لمقابر الصحافة لإكمال مراسم الدفن.
حزن عميق:
كان الحزن مسيطراً على كل الملامح..و(العبرة) حرمت الكثيرين من منحنا إفادة عن الراحل، لكن الشاعر الفاتح حمدتو الذى كان يقف بجانب قبر الفقيد..قاوم أحزانه وقال لنا بعد أن صمت لحظات: (إنه عام الأحزان.. ونحن نفقد الكثير من المبدعين ممن رحلوا بأجسادهم لكن أعمالهم لا تزال حية بيننا، وآخرهم شاعرنا الكبير سيد أحمد الحردلو)..وصمت (حمدتو) قليلاً قبل أن يضيف بصعوبة: (الحردلو قامة كبيرة في عالم الدبلوماسية والشعر..وقد قدم الكثير خلال عشرات السنوات.. ونحن ننعيه للأمة السودانية جميعاً..ونتمنى أن تكون هذه آخر الأحزان(.
رجل دقيق:
الشاعر مدني النخلي كذلك..كان في حالة شديدة من الحزن..لكنه تحدث "للسوداني" عن الفقيد وعن علاقته الخاصة به..وقال: (الحردلو هو قامة لا تخطئها العين.. وهو من رعيل جيل الوسط ..وسبق ان تغنى له كبار الفنانين مثل الراحل وردي في اغنيته الشهيرة بلدي يا حبوب.. والفنان سيف الجامعة في اغنيته طبل العز ضرب.. وهو رجل حبوب ودمث الاخلاق ..وانا التقيته في دولة قطر عندما جاء ليخضع لعملية زراعة كلية.. وامتدت العلاقة زمنا طويلا.. وهو رجل دقيق في علاقاته..وفي الفترة الأخيرة اشتد به المرض وبدأت حالته الصحية تتأخر كثيراً مما استدعى نقله لمستشفى السلاح الطبي.. حتى توفاه الله في هذا اليوم العظيم..ونحن نسأل الله له الرحمة..ومن هنا نناشد الجهات المختصة للعمل على التوثيق لأعماله..فهو له العديد من الدواوين مثل ديوان ملعون أبوك بلد..وديوان سندباد في بحر الرماد.
فقدناه في عز الحاجة:
قال الأمين العام لحزب الأمة الدكتور إبراهيم الأمين "للسوداني" إن البلاد فقدت الحردلو الرجل المتعدد القدرات فهو الدبلوماسي وصاحب الباع طويل في الأدب والشعر والنقد والصحافة.. ويكفي نصه الشهير (بلدي يا حبوب) الذى يعتبر (شامة) في الفن السوداني وأضاف: (الحردلو رجل خدم في عدد من الدول.. وتولى إدارة عدد من السفارات.. وله علاقات واسعة على المستوى الاقليمي والدولي.. وكان وجوده في أي تجمع سواء كان رسميا أو شعبيا أو فنيا يعتبر إضافة يستفيد منها البلد، ونحن اليوم نفقده في هذه الأيام الحالكة السواد..ونحن في أمس الحاجة إليه.
تباين سياسي:
أشار د. كمال عمر القيادي بالمؤتمر الشعبي في حديثه "للسوداني" إلى التباين السياسي الكبير في هذا اليوم، وأشار إلى الجموع الغفيرة داخل المقابر وقال إن هذا أبلغ دليل على محبة كل الناس للراحل، وأضاف: (الحردلو رجل أعطى السودان كل جهده وحياته حتى رحيله عن هذه الدنيا..وهو فقد حقيقي للبلاد..وقال: (في هذا اليوم تشاهد تنوعا سياسيا ورجالات الدين والصوفية وكلهم جاؤوا ليودعوا الحردلو..وهكذا الشعب السوداني.. دائما تجده في الملمات والظروف العصيبة..ونحن حقيقة افتقدنا هذا الرجل ونسأل الله أن يتقبله بقدر ما أعطى هذا الشعب.
رجل متأمل:
المخرج شكر الله خلف الله تحدث "للسوداني" بحزن عميق وقال إنه كان علامة مميزة في الشعر والدبلوماسية السودانية..ويتميز بهدوء وعدم تسرع لتقديم شخصيته للمجتمع وهو رجل متأمل جداً ودقيق..تقبله الله بواسع رحمته وألهم أهله وذويه الصبر وحسن العزاء.
دموع خاصة:
بصعوبة شديد تحدث إلينا الفنان الجيلاني الواثق وقال: إنه يوم حزين..وهو يفقد واحدا من أعز أصدقائه، وأضاف: (تربطني به صداقة طويلة وأنا كنت محظوظاً حيث تغنيت له بواحدة من أغنياته وهي (سوداني أعز الناس)..وصمت الواثق قليلاً قبل أن ينخرط في نوبة من البكاء..ثم يضيف:(الراحل ستفتقده الأمة السودانية في عدة مجالات منها الشعر والدبلوماسية.. ونسأل الله أن يسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
===========
شهادة استعادية*
إنه جدير بالاحترام، نعم.. السودان.. هبة الله
سيد أحمد الحردلو
1
* تاريخ السودان - (حسب إفادات آثاره )ما ظهر منها.. وما بطن.. (يتوغل إلى مائتي ألف سنة)
وليس (سبعة آلاف).. كما يزعم الزاعمون.
* ما عرف عنه شحيح وبخيل وهزيل.. ولا يملأ الكف لأنّه ضارب في تيه ممدود بلا حدود ومخبوء عنا في بيداء.. دونها بيد...من الأقربين والأبعدين وتلك قصة كتاريخ الأفاعي طويلة.. وتطول.
فنحن (السودانيين)... مسؤولون أمام الله (والتاريخ والجغرافيا والمجتمع والحلم) عن كل ذلك!
* لكنني أستثني حفنة من المؤرخين والعلماء السودانيين الذين حاولوا ويحاولون قدر المتاح أمامهم من إمكانات نبش ذلك المطمور من تاريخنا.. وأتوقف بالإجلال أمام الأستاذ جعفر ميرغني الذي ما فتئ يسعى ويكد.. وما زلت أتمنى عليه نشر ذلك المخزون المسجون الذي جمعه ويجمعه في مجلدات مرقمة.. بدعم مالي مستحق من جهات الاختصاص! فالسودان جدير بذلك.. وتاريخه جدير بالاحترام!
2
* وأستأذن لأضرب بعض الأمثلة.. فهناك من يقولون وأنا الفقير الضعيف منهم إن سيدنا موسى (الكليم) عليه السلام مثلاً ولد في (ناوى) على ضفاف (مجمع البحرين) (حيث كان يلتقي فيها بحران قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة!)
* وأنّ النبي (الخضر) (أعلم علماء زمانه) ولد في (ناوى). وكذلك سيدنا لقمان الحكيم (أحكم حكماء زمانه)، وأن عدداً من السحرة الذين استعان بهم الفرعون، (رمسيس الثاني) أمام سيدنا (الكليم) هم أيضاً من (ناوى) التي اشتهرت بالسحرة، وليس (السحاحير!) كما يقول العامة!
* بل إن مستر قريفس (مؤسس معهد بخت الرضا الشهير) قال في كتابه (نقوش مروية) إن (معبد وتمثال الملك ترهاقا) وجدا مطمورين تحت رمال (ناوى) ونقلا إلى مركز مروي (وقد شاهدتهما في طفولتي أمام مركز مروي!) وتلك جميعها شواهد على أن (ناوى) أو (ناوا) التي (جنيت) على اسمها التاريخي لدواعي الشعر!! كانت بلدة تاريخية مهمة لأنها أنجبت رجالاً عظماء منذ آلاف السنين. وأكرمها الله بموقع فريد على ضفاف مجمع البحرين!
* وكنت وما زلت أقول إنّ (مرج البحرين) هو مقرن النيلين، وقد أيّد قولي هذا السفير اليمني الشاعر والمؤرخ د. صلاح علي أحمد العنسي، في قصيدة له نشرتها صحيفة (آخر لحظة)، فهو إلى جانب تخصصه في الاقتصاد والعلوم السياسية، دارس تاريخ خاصة التاريخ اليمني السوداني. وكتب قصيدة عن السودان أسماها (السودان.. هبة الله!) و(أعجب كيف غابت عني هذه الصفة الصادقة والصدوقة) و(أنا الزاعم ألا أحد يماثلني أو حتى يجاريني في عشق هذا السودان!) وقد يكون زعمي مردوداً!
* فالسودان إذن جدير.. وتاريخه جدير بالاحترام!!
3
* أمّا النوبيون (أو النوبة) فقد شيّدوا الحضارة الأولى في الدنيا على ضفاف (نيل السودان).. وملوكهم كثر.. وأستأذن لأضرب مثلاً ببعضهم: فمنهم (كاتشا) و (بعانخي الفاتح) و(الكنداكة) و(ترهاقا).
* امتدت امبراطوريتهم من تخوم الشام وحفافي البحر الأبيض.. إلى الصومال و(بحر القلزم) شرقاً.. وإلى غانا وغينيا.. والسنغال على (بحر الظلمات) غرباً!
* وهو جدير.. وهم جديرون بالاحترام!!
4
* شهدت سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين ما كان يسمى ب (الاشتراكية الإفريقية) التي كان يتزعمها الشاعر والرئيس السنغالي ليوبولد سنغور، وكانت تلتئم منتدياتها كل عام في عاصمة إفريقية، وكنت حينها منقطعاً في السفارة بتونس، وكان الدور عليها.. بينما الصديق (الراحل المقيم) أبو القاسم هاشم ذلك الإنسان النبيل (عليه رضوان الله) كان يمثل السودان في تلك اللقاءات لكنه ربما بسبب مشاغله أرسل برقية لا سلكية يكلفني فيها بأن أنوب عنه في ذلك اللقاء.
* كان ذلك في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي.
* اقترحت تونس أن يكون المنتدى في مدينة (سوسة) الساحلية السياحية الجميلة، وهي على مرمى ساعة بالسيارة من العاصمة.
* كانت الاجتماعات صباحية ونهارية، وكانت المساءات حرة. كنا نلتقي كل مساء (سنغور وشخصي الضعيف ونسهر في حوارات تطول عن الاشتراكية الإفريقية والشعر حتى بعد منتصف الليل).
(لم يكن يومها رئيساً للسنغال. كان قد استقال كأول رئيس إفريقي، وسار مساره بعد حين المعلم نيريري!).
* استنشدته شعراً ذات مساء. كان يجيد الفرنسية التي يكتب بها شعره، ويحسن الانجليزية. وكنت (ركيك) الفرنسية، وأحسن الإنجليزية. كنت أسأله عن بعض التعابير الفرنسية، التي كانت تغيب عنّي فيشرحها لي بالانجليزية، ثم استنشدني شعراً، فأنشدته بعض قصيدتي المطولة (نحن) وكنت قد كتبتها بالعامية في كنشاسا بزائير عام 1975م ولاحظت أنّه طرب حين ترجمت له:
(نحن الساس
ونحن الرأس
ونحن الدنيا جبناها
وبنيناها
بويت في بويت
وأسال جدي ترهاقا
وخلي الفاقة والقاقا).. إلخ
وحين قلت له (إن هنالك من اتهمني بالنرجسية) وكنت أعني ابن أختي مولانا أبو الحسن مالك احتد صوته وهو يقول (إنك قلت الحقيقة. إنّ الحضارة الأولى في الدنيا أقامها جدودكم النوبة وهم سادة الصناعة الأولى، والزراعة الأولى والمعرفة والشعر والفنون.. والفخاريات والأهرامات.. إلخ.. بل إنّ هذه الحضارة انتقلت إلى السنغال.. وإن هنالك أعداداً كبيرة من النوبة والدينكا والشلك والنوير يعيشون في
السنغال ويتحدثون بلغاتهم الأصلية.. الخ)
* سألته: إن كان مستعداً أن يقول كل هذا في محاضرة في الخرطوم؟ فعبّر عن سعادته بذلك. فأرسلت تقريراً بذلك لرئاسة الخارجية، وجاءني رد إيجابي ومعه رسالة من الرئيس نميري (عليه رضوان الله) موجهة
للرئيس سنغور، سلمتها سفير السنغال بتونس ليرسلها عبر خارجيتهم لسنغور.. وعلمت.. فيما بعد أن الرئيس سنغور قد جاء للخرطوم وقدم محاضرة بذات المعنى في قاعة الامتحانات بجامعة الخرطوم.
5
* قضيت الفترة من أغسطس 1968 إلى أغسطس 1971م في سفارتنا بلندن، وكنت أداوم على زيارة (ركن المتحدثين بحديقة هايد بارك) نهار كل أحد، وكنت أحرص على الاستماع لاثنين من المتحدثين.. أحدهما (روي صو) وهو من جامايكا وكان مديراً لجامعة الدراسات السوداء بلندن وأصبحنا أصدقاء والتقاه في شقتي الأصدقاء مأمون عوض أبوزيد والمرحوم عوض مالك ومحمد أحمد ميرغني (السوس).. عدة مرات.
وكنت أمده بمؤلفات ودراسات عن قضية جنوب السودان، والآخر أستاذ إفريقي (غاب عني اسمه) كان يحاضر في تلك الجامعة عن تاريخ إفريقيا، وكان يركز في محاضراته في الجامعة وهايدبارك، على أنّ الحضارة الأولى نشأت في إفريقيا (السودان) وأن هؤلاء الأفارقة (هم الذين علموا قدماء المصريين والذين بدورهم علموا الإغريق الذين علموا الرومان، وهؤلاء بدورهم علموا الانقلوساكسونيين).
* ولا بد أن كثيرين يذكرون عالم الآثار (بروفيسور هيكوك) الانجليزي الذي كان يقيم في (البِنك بلاس) (القصر البمبي) على النيل الأزرق الذي توصل بعد جهود مضنية إلى أن الحضارة الأولى (انتقلت من الجنوب للشمال) ولقي حتفه وهو يقود (بسكليته) في حادث مرور قرب مقر سكناه.
6
* دعاني الصديق الحبيب الروائي العالمي الطيب صالح (عليه رضوان الله) شتاء 2002م لزيارته في القاهرة في رسالة بعث بها مع صديق الطرفين الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، فاختار الأستاذ محمود عشية عيد الأضحى لأسافر في صحبته الكريمة للقاهرة. كنت أحرص إبان أقامتي مع (الطيب الصالح) أن أهبط باكراً من شقته في شارع الجامعة العربية؛ لأشتري (صحيفتي الشرق الأوسط والحياة) إلى جانب الصحف المصرية، وفوجئت بخبر مثير في الشرق الأوسط وفي صفحتها الأولى يقول: إن عالم الآثار "بروفيسور هيرمان بيل" عقد مؤتمراً صحفياً في الخرطوم قال فيه إنّ أساس حضارة وادي النيل هو السودان!)
وهذا العالم الأمريكي الأصل والبريطاني الجنسية كانت قد استجلبته (اليونسكو) قبيل اكتمال السد العالي ليسجل أسماء القرى التي ستغمرها مياه السد والآثار التي يمكن إنقاذها في شمالي السودان. فعشق هذا العالم وزوجته السودان وأقاما فيه فترات طويلة (تعلم إبّانها العربية والنوبية) تعرّفت عليهما (في دارة) الصديق (الراحل المقيم) البروفيسور محمد عمر بشير (عليه رضوان الله) في مايو 1975م.
* قرأ الطيب صالح الخبر وهو يكرر عبارته الشهيرة (حكاية عجيبة الشأن)، فقلت له مازحاً (لماذا لا تطلب من بعض أصدقائنا المصريين أن يطالعوا (الشرق الأوسط) (فقط وبدون إيضاح!) فضحك وفعل. (و.. تعال.. وشوف..!) توالت بعد حوالي الساعة اتصالاتهم الهاتفية.. وهم يستنكرون وينفون تلك الفرية، ومن عجب كان جميعهم من كبار الأدباء والمفكرين.
7
* كان النوبيون القدماء هم أول من بنى السفن الكبيرة العابرة للبحار والمحيطات (سفينة سيدنا نوح "عليه السلام" استثناء). وكان النوبيون مغرمين بالاستكشافات والتوسع في مد امبراطوريتهم، ليس لأسباب استعمارية.. ولكن لطموح حضاري هدفه نشر حضارتهم.
* وهكذا عبر روادهم المحيط الأطلسي فوجدوا أنفسهم في المكسيك.. فتركوا فيها بصماتهم الحضارية.. ثم دلفوا شمالاً ليكتشفوا أمريكا قبل آلاف مؤلفة من السنين قبل ذائع الصيت كرستوفر كلمبس.. وأقاموا
فيها حضارة ما تزال (آثارها) باقية.. لمن يريد أن ينقب ويستوثق، (إن سمح له بذلك!)
8
* وكان الأشوريون يغزون بلاد الآخرين ليس لاستعمارها ولكن لنهب ثرواتها وتدميرها وتركها (قاعاً صفصفاً) لحكمة يعرفها الأشوريون.
وهكذا ذهبت جيوشهم إلى (القدس) وحاصرتها، فاستنجد ملك القدس (اليهودي) بالملك بعانخي الذي كانت تمتد حدود إمبراطوريته حتى تخوم الشام، فأرسل بعانخي (ابنه ترهاقا) قائد جيشه الذي هزم الأشوريين وفك الحصار عن القدس!
9
* ذلك غيض من فيض.. فيوض تاريخنا الذي حبانا به الله جلّت قدرته. أمّا الجغرافيا.. فشواهدها ما تزال ماثلة أمامنا.. أكبر قطر عربي _ أفريقي مساحة.. وجسر واصل وليس فاصلاً بين (اليعربية والأفريكانية) راكز رغم كل شيء (كالهمبول) من خط عرض 22 شمالاً حتى الاستواء جنوباً، يجري فيه عشرون نهراً، ومياه جوفية بينها وبين سطح الأرض شبر واحد في كثير من أصقاعه.. مسكون بكل الثروات على الظاهر والباطن.. وباختصار.. هو أغنى بلاد الدنيا.. وأفقرها في ذات الوقت!
* عاش فيه شعب طيب.. كريم الخصال والسجايا.. مستور الحال.. وكان متكافلاً ومتكاملاً وأرباباً.
11
*(السودان.. هبة الله)
* صدقت يا صديقي السفير الشاعر..
* نعم.. (السودان هبة الله) أكرمنا الله كثيراً بتاريخ وجغرافيا.. ومجتمع وحلم..) وهي هبات.. (قلّ أن يجود بها الزمان في وطن واحد!) فأين نحن الآن من كل ذلك؟
* ها نحن نعيش الآن في عالم يحاصرنا.. محلياً وإقليمياً ودولياً! يسعى جاهداً (لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ) وها نحن بدلاً عن أن نتوافق
ونتصالح ونتحد حول برنامج أو ميثاق أو عهد قومي ملزم للجميع لإنقاذ السودان (أولاً وثانياً وعاشراً) ها نحن نتفرق أيدي سبأ!
* السودان الآن (في مأزق أن يكون أو لا يكون!)
(وتلك هي القضية!) كل ذلك التاريخ الذي أسلفت.. وكل تلك الجغرافيا التي أسهبت.. وكل ذلك المجتمع النادر المثال.. وكل ذلك الحلم العظيم الذي يتمدد من البحر.. عبر النهر.. حتى الجبل.. ومن الصحراء.. إلى السافنا والغابة... حتى الاستواء.
* كل ذلك الميراث والتراث والحاضر.. والآتي مهدد بالانقراض كالغول والعنقاء والخل الوفي! (إني أكاد أرى الأشجار تمشي نحوكم!)
* يقول القائلون: إن الجنوب سيتوغل جنوباً.. وإن المغرب سيتوغل غرباً.. وأن المشرق سيتوغل بحراً.. وأنّ الشمال سيتوغل شمالاً..أي أننا موعودون بدويلات أو كانتونات! (والله يكضب الشينة)
11
* علمت من فضائية (الجزيرة) أنّ الإمام السيد الصادق المهدي. ومعه نفر كريم من مفكري مصر يعملون لقيام هيئة أهلية تسعى للحفاظ على حقوق السودان ومصر من مياه النيل.. ذلك أمر مهم وحسن.
* لكن الأهم والأحسن والأبقى.. هو العمل على بقاء السودان متحداً وسالماً وقوياً!
* من هنا (ومن منطلق قومي نشأت عليه، وظللت مستمسكاً به، وسأظل عليه) أنادي بالصوت الجارح والعالي كل السودانيين يا كل السودانيين إنني لا أجد ما أختم به قولي هذا سوى) (المقطع الثالث) من قصيدتي (فكذبوا نبوءتي.. يا أهل بيزنطة) وكنت كتبتها في الخرطوم في عام 1987، حيث قلت وأقول:
(يا كل أبناء الوطن
يأيّها الجميع..
في جميع أصقاع وأوجاع الوطن
إني أصيح
أن شيئاً ما.. يمد ظله على الوطن
وأن شيئاً ما.. يعد في مطابخ
الكبار والصغار.. للوطن
وأنني أرى فيما أرى
وحشا من النار..
وفي كفيه.. سيف وكفن
فكذبوا نبوءتي
يأيها الرجال والأطفال والنساء
فإنني أرى الأشجار تمشي نحوكم
وأنكم محاصرون في ذواتكم
وأنّ شيئاً مثل ظل الموت
مد ظله من حولكم
فكذبوا نبوءتي
يا أهل بيزنطة.. لأنكم
تجادلون بعضكم
ويستبيح الطامعون داركم)
12
* يا جميع السودانيين!
وتلك شهادتي الأخيرة.. أبذلها أمام الله والوطن والناس! واستغفر الله لي ولكم، و.. خلاس!
الخرطوم في العاشر من يونيو 2010م
* هذه الشهادة وجدتها منشورة على موقع (التوثيق السوداني) الالكتروني، دون الإشارة إلى مصدر.
========
قصيدة
نحن من علَّم الغرامَ الغراما
سيد أحمد الحردلو
(1)
عاتبَتْني حبيبتي وأدارت وجهها الحلوَ... ثم فاضت خِصاما
وتهاوى الياسمين من مقلتيها وتداعى... وراح يروي كلاما
كيف - بالله - هانَ عندكَ قلبي كيف صار الهوى لديك اتهاما
وأنا كنت من سمائك شمساً ونخيلاً ونرجساً وخزامى
وأنا كنت فوق رأسكَ تاجاً وأنا كنت للحقول غَماما
كيف- بالله - ياأنيس حياتي- صار حبي الكبير... صار حطاما!
(2)
نحن كنا.. وما نزال لأنا نحن من علَّم الغرامَ... الغراما
نحن جئنا به وكان يتيماً وسقيناه نحن عشْق اليتامى
نحن شلناهُ في البلاد رسولاً وبعثناه للعباد... إماما
نحن من أيقظ المشاعرَ في الأرض... ومن قبلُ... كانت نياما
وسنمضي إلى النهاية إنا نحن من صيَّر الحياةَ.. هُياما
(3)
اعذريني إن كنتُ أغلظتُ شوقي فهو شوق المتيَّمين القدامى
أَوَتدرين كيف يعتمل الحب حين تمضي الأيام عاماً.. فعاما
إنه صرخة المشاعر في الناسِ, وصوت المعذبين اليتامى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.