لا أذكر جيداً ما الذي مهد لذلك الحوار الذي أجريناه ذات مساء بمجلة "الخرطومالجديدة" مع صاحب الوفاق الأستاذ محمد طه محمد أحمد، ما أذكره جيداً أن شيئاً غامضاً كان يحرك ذلك الحوار في اتجاهات متعددة..! فالأسئلة كانت تسقط بتلقائية لم يسبقها إعداد أو تشاور وإجابات محمد طه تعود الينا معبأةً بكل ما عرف به الرجل من صراحة وسخرية ومشاكسة ومع كل ذلك تفوح من حديثه طفولة مشاغبة، لا تزال أياديها تعبث بالطين ولا يزال خيالها يبحث عن مكان بين مجرات السماء! وعندما يضحك (أبو رماح) من سؤال أو تعليق أو مشهد يستدعيه من الذاكرة، يقتسم الجميع معه تلك "الضحكة"، وهو كما عرفناه لا يأكل وحده ولا يضحك وحده ليترك للآخرين واجب المجاملة بالابتسام الفاتر أو الضحك المعلب، فهو لا يحب الأشياء المعلبة.. ولا يقبل من المشاعر إلا ما كان طازجاً وعفوياً ! أذكر كنا محرجين أثناء ذلك الحوار، حيث يختلط العام بالخاص، كنا نخشى أن يظن طه أن أسئلتنا ذات الطابع الاتهامي تعكس رؤيتنا له من زوايا النظر التي نراه منها، وهو الأستاذ الذي بدأنا معه احتراف العمل الصحفي، وهو الصديق الذي نقضي معه الساعات الطوال في الجد والمزاح بين المكتب والبيت وفي أمسيات الأصدقاء، كان الخوف أن يظن اننا نستعين على محاورته واستفزازه لقضاء مهمة عامة، بمعارف وآراء توافرت وتكونت في نطاق العلاقة الخاصة، ولكن الشهيد كان أكبر من ظنوننا وأرفع من هواجسنا..! وعندما جاء السؤال الأخير في الحوار -الذي امتد لأكثر من ثلاث ساعات- نتبادل أسئلته أنا والصديقان الطاهر حسن التوم وجمال علي حسن "ماذا بقي أمامك بعد (أشواك) الحائطية و(الوفاق) اليومية؟" ...صمت فترة وأرخى بصره قليلاً ثم قال :لم يبق أمامي سوى القبر...! كان طه في الشهور الأخيرة زاهداً في إكمال مباراة الحياة إلى نهايتها، تجده كثيراً ما يتحدث عن المهدي المنتظر ويضبط ساعته البايلوجية على قدوم السيد المسيح! كأنه وصل إلى قناعة أن الأوضاع في حاجة لتدخلات ربانية مباشرة! تجد على طاولته المكتبية، الكتب الصغيرة التي تتحدث عن الفتن وقدوم المسيح وعلامات المهدي المنتظر وأعداداً من مجلة النيوزويك وأوراقاً بعضها (مقالات ملغمة) كانت كثيراً ما تنفجر بين يديه، عندما يتلقى اتصالاً هاتفياً عاصفاً يعلق على ما نشر أو يأتي مشفق لينبه على قنبلة وضعت في إحدى الصفحات فتخرج تلك العبارة بنكهة شايقية خالصة (وين الكلام دا؟ ..أوع يكون في جريدتي)!! لتفتح تلك العبارة الشهيرة في مجالس صحيفة الوفاق منلوج الضحك وخطوط المحاكم ولجان الشكاوى، وتشحذ سكاكين القساة والظلاميين، من تلك العبارة كانت تأتي كل الصعاب التي يواجهها محمد طه بسورة يس ويتقلب على ما تتركه في جسده من أوجاع بالكمون وعسل النحل، ومن المرجح أن أولئك القتلة القساة تسللوا إليه عبر منافذ تلك العبارة (دا في جريدتي)؟!! *يعاد النشر في ذكرى رحيله السادسة.