لا بد أن يتوفر دافع لأي عمل نقوم به في حياتنا، وكل إنسان له دافعه الخاص، يحقق به ما يريد، ثروة، سمعة، سبق صحفي، قصة، «عشان خاطر ناس»، اللهم دافع والسلام .. ولا أخفي على القارئ دافعي للخروج ألى منطقة جنوب كردفان، وتحديداً الليري، التي تقع على بعد 70 كيلو متر من تلودي، التي شهدت أحداث مؤسفة خلال الشهر المنصرم، وكنت حاضر منذ قدوم أهالي تلودي إلى الليري، حتى نزولهم في عدد من الأحياء بالمنطقة، في مسيرة قد يطول أمدها إلى اليوم، خرج الجميع بمختلف أعمارهم وأجناسهم، الصحيح، والقعيد، والمرأة الحامل، والنفساء، والشيخ الكبير، وأطفال لم يسعفهم صوت الرصاص، لكي يرتدي أحدهم نعاله، أهالي الليري جادوا لهم بما فاض من طعام وشراب، لسد الرمق، وبالرجوع إلى مقدمة الموضوع، والمتمثل في الدافع للقيام برحلة إلى جبال الذهب «النوبة»، فيبدو واضح من كلمة دهب، وأضيف إليه أنه سيكون عمل جميل، وقلت:(أضرب عصفورين بحجر .. قروش وقصة) قصة لم أكن أعرف أنها ستكون على هذا النحو. وقد تصدرت أحداث الذهاب إلى مناطق التنقيب الأجواء، فالكثير من الشباب لم يعد له صبر لملاحقة وظائف الحكومة والوظائف الأخرى، إن وجدت دون وساطة .. فقمت بجمع معلومات من كل شخص يريد الفرار إلى أرض الذهب، أو رجع من هناك .. ولم أسأل أحد منهم السؤال الشائع:(جبتة كم؟) بل كنت أقول:(الأوضاع هناك كيف ؟؟)، وبعد أن حصلت على معلومات - أكثرها عبارة عن قالوا، وسمعنا، «وكان في واحد لقي كيلو»، وووو ... إلخ - قررت أن اختار منطقة مناسبة، ومن خلال المعرفة من الناس والإنترنت، اتضح لي أن منطقة جبال النوبة هي الأفضل من ناحية العمل بالتنقيب، والبحث، فالبئر بمنطقة جبال النوبة يتراوح عمقها ما بين الثمانية أمتار إلى «15» متر، وأحياناً على عمق مترين، وهذه حقيقة، أما بشمال السودان، تتراوح بين «15» إلى 25 متراً، كما أن الأرض رملية، قابلة للانهيار، عكس جبال النوبة الصخرية .. كما أن كردفان لها طبيعة ساحرة، لا تقل عن الشمال، ولكن طبيعتها وجبالها المنتشرة، وأشجارها معروفة، فكلما ذهبنا شمالاً، قل المطر، وبالتالي يصبح الاتجاه الشمالي صحراء، على عكس الاتجاه الجنوبي، فكثيراً ما سمعنا في الأغاني عن كردفان «كردفان الغرة .. أم خيراً جوة وبرة»، وكثيراً ما أسمع نانسي عجاج في أغنيتها أندريا، وأردد مقطع «القمري قوقا وفات .. خلاني للشمات»، ومحمود عبد العزيز يقول في أغنيته الجميلة:(كلمولي أبويا .. عشان أزور الدونكي .. أجيب لي حبة موية»، وهذه هي حال كردفان، الآن يزورون الدونكي، ويصطفون به، ليشربوا، ويسقوا بهائمهم، التي كثيراً ما تموت من العطش أثناء «المدافرة» للوصول إلى الدونكي .. أما المضخات، فهذا أمر له عمل خاص .. و«صوت الكرن جاني» - التي يتغنى بها محمود أيضا - لم نسمعه بل سمعنا صوت صرخات أهالي منطقة تلودي، الذين فقدوا إخوة وأحباب وأصحاب وجيران، لن أنسى هذا الوضع ما حييت، عموماً هناك كثير من المقارنات التي وضعتها، ومن ضمنها سعر جرام الذهب، وجودته بالنوبة، فهو من عيار عالٍ، وسعره أكثر من سعر ذهب الشمال .. سأوضح ذلك خلال سرد القصة، والتجربة التي لم أصدق بأنني حي حتى الآن بعدها .. وأخيراً كان هنالك سبب رجح كفة الذهاب إلى جبال النوبة، فقد أخبرني صديقي بالحي علاءالدين محمد أحمد، أخبرني بأن له عامل كان يعمل معه بشركة هندسية، وهو الآن بجبال النوبه، يمتلك ثمانين مليون «في فترة قصيرة» وله طاحونة يقوم بطحن الحجر فيها، أحجار تحتوي على نسبة من الذهب، يتم طحنها بمقابل معلوم ومحدد، لكن إن لم تعرفها، ستعرض نفسك إلى مرض الالتهاب الرئوي، فقط ودون عائد، ثم أضاف لي صديقي بقوله إن والده يريد أن يذهب إلى هناك بدلاً عنه، لكي يعرف طبيعة العمل، وينظر بنفسه، فقلت له:(مكسب يا صديقي، أنا سأذهب معه)، وزادني حماس وجود معارف لهم بتلك المنطقة، عرفهم بواسطة شاب يدعى النذير، ويريد أن يذهب أيضاً، رجعت إلى المنزل، وأحضرت ما يلزم من حاجيات السفر. رحلة مختلفة .. زمان ومكان نحن - كإعلاميين - دوماً على استعداد للسفر في أية لحظة، فلم يكن هناك صعوبة في تجهيز «الشنطة» .. فحددنا موعد السفر أنا وصديقي ووالده، الذي سيذهب بدلاً عنه .. وقد اتفقنا - أنا وصديقي - على أن أقوم بإخباره بطبيعة الوضع هناك، ومن ثم يحضر هو ويرجع والده، وكان شعارنا «كان ما متنا .. شقّينا المقابر» .. وجاء موعد السفر، الذي صادف يوم الثلاثاء 20 مارس المنصرم. توجهنا إلى السوق المركزي، شخصي الضعيف، وعم محمد أحمد، حيث توجد مكاتب الترحيلات الخاصة بمناطق جنوب كردفان «أبوجبيهة، العباسية، تلودي، الليري»، حيث سنذهب إلى الأخيرة، وفي هذه المرة تختلف الرحلة، حيث قال لي الوالد وأنا أودعه:(ياولد إنت اخترت المكان والزمان غير المناسب، لكن دا اختيارك، ربنا يحفظك)، ودعته وودعت الجميع دون تفاصيل .. لكن علق بذهني كلام الوالد (الزمان والمكان غير المناسب ؟؟)، لم اهتم كثيراً، والتقينا مع عم محمد أحمد، الذي أخبرني بأن قريبه النذير كان يريد الذهاب معنا، لكنه سافر إلى كسلا، وسيرجع ويلحق بنا. شماعة أو الركوب في البضاعة وصلنا إلى مكتب الترحيلات بالسوق المركزي الخرطوم، فسألنا عن ثمن التذكرة، فقال لنا صاحب المكتب:(الثمن 85 ج، والرحلة يعني من هنا والجبال طوالي، «ون قو»)، فرحت كثيراً، لكن لاحظت أنه لا توجد عربات تقف بالقرب من المكتب، فقلت له:(يا معلم البصات وين؟)، فأشار لي في اتجاه مجموعة من العربات الكبيرة، لواري، ووجامبو، وأخرى لا أعرف اسمها .. قلت له:(معليش، بالضبط كده وينا؟)، فقال لي:(العربه الجامبو)، قلت:(لا أري جامبو، ولا أعرفه أصلاً) .. ضحك وقال لي:(إنت أول مرة تسافر؟)، قلت له:(أبداً، طوالي بسافر، لكن أكتر السفر بي طيارة وكدة، وعربات مكيفة، وسياحي، وكدة)، أثناء حديثنا، قال لي عم محمد:(يا أخونا، إنت قايل روحك ماشي وين؟، عليك الله أقطع تذكرتك، ما تقعد تسأل)، فقطعت التذكرة، وأنا متردد، ثم أشار لي صاحب مكتب الترحيلات إلى شاحنة كبيرة، تقف على مقربه منّا، يتم شحنها بواسطة «العتالة»، وقد كان ارتفاع البضاعة بها شاهق جداً، فقلت له باستنكار:(العربية المليانة دي؟)، قال لي:(أيوه، وإذا ما عاجبك، أمشي الميناء البري، في عربات مكيفة، لكن حا تصل بي ضعف المبلغ)، لم يكن هناك مفر، فقلت:(إذن أين سنركب؟)، قال:(سنترك لكم مكاناً بين البضاعة، وبعدين بعد تطلع العربية من العاصمة، أركبوا في البضاعة، أو شمعوا) .. ضحكت، وكان خير مثل لهذه اللحظة «شر البلية ما يضحك»، وفي هذه اللحظة، قال لي عم محمد:(يا شيخنا، الليلة كان كارو بنركب)، عندها استغفرت الله بصوت خفي، وجلست قريباً من مكان المكتب، ثم صلينا العصر والظهر بالقرب من المكتب، وكنا نسأل عن مواعيد انطلاق الرحلة، فيقال لنا:(بعد شوية)، أي بعد أن تخلص شحنة العربة .. وكلما تم رفع شيئ للشاحنة، ارتفع معدل الخوف لدي، بعد أن مضى كثير من الوقت، فلم أصبر، وذهبت إلى صاحب الترحيلات، وقلت له:(يا عمنا، حا نسافر متين؟)، قال لي:(والله ما في طريقه الليلة، لأن العربيه فيها عطل .. تعال بكرة، وكلم عمك المعاك)، نظرت إليه، وقلت له:(والله ليها حق تطرشق، مش تتعطل)، كنت في قمة الغيظ، عندها سألته مرة أخرى:(كم تستغرق الرحلة؟)، رد لي بنفس الغيظ الذي سببته له بسؤالي الكثير:(والله يا شيخنا أنا ما عارف شوف سيد «الجامبو»)، أي الشاحنة، فقلت له بسخرية:(وإنت دي ما شغلتك، وأكيد عارف المدة كم)، فقال لي:(أحيانا تستمر الرحلة لمدة يومين، وإذا وقع عطل، تستغرق ثلاثة إلى أربعة أيام) .. في هذه اللحظة فكرت في أن أرجع، وأنسى الموضوع، وأسافر - على راحتي - بالميناء البري، إلا أن قدومي مع عم محمد حال دون ذلك، إضافة إلى أنه تم شحن امتعتنا فوق العربة، وتم وضع بعض الأغراض فوقها، وعلينا أن ننتظر حتى يوم الغد، فرجعنا إلى المنزل لكي نعود غداً. الرجوع إلى البيت كان لحكمة، وقد قال تعالى:(عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)، صدق الله العظيم. نواصل