كما هو معلوم فإن شهر رمضان من أعظم شهور السنة وأفضلها، فيه أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وهو من الأشهر الحرم، وهو شهر الخيرات والبركات والروحانيات والجماليات، وفيه تصح الأبدان من الأسقام استناداً لنص الحديث الشريف «صوموا تصحوا» ورمضان في السودان له نكهته الخاصة التي تبدأ قبل أشهر من حلوله، حيث تعمل الأسر في تجهيز وإعداد حاجاته ومستلزماته وأهمها «الحلو مر» ذلك المشروب السوداني الخالص «ملك حر» وهو يعكس ملامحنا ويعبر عن أصالتنا وتراثنا وثقافتنا وتمر صناعته بعدة مراحل بدءاً «بالزريعة» وهي عيش الذرة الذي نبت قليلاً ثم يجفف ويسحق إلى دقيق ويخلط بالماء وبعض التوابل ويوضع على النار وتسمى هذه المرحلة «الكوجان» ثم يترك لمدة يوم إلى يومين حتى يخمر ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي «العواسة» ومنها يأخذ شكله ولونه وطعمه ورائحته المتعارف عليها وتعتبر عواسته مناسبة اجتماعية تعمل على جمع وربط وتواصل نساء الجيران مع بعضهن البعض وهن يشاركن في هذه العملية التي هي أشبه «بورشة العمل» وتستمر حتى نهاية شعبان ومن الأشياء الجميلة في رمضان في بعض المناطق أن يخرج كل رجال الحي «بفطورهم» إلى الطريق العام يتناولونه في شكل افطار جماعي يشاركهم فيه عابري السبيل وفي هذا احياء لقيم التكافل والتآذر والتعاضد والتعاون التي يدعو لها الدين الإسلامي وتأكيداً لقوله صلى الله عليه وسلم «بارك الله في طعام كثرت في الأيادي» من ناحية أخرى فهو «لمة سودانية» وهناك مشاهد تعظم وتزيد من عظمة هذا الشهر تتجسد في تلك الخيام والصيونات التي تنتشر هنا وهناك في الساحات والباحات والمساجد تقدم الوجبات الرمضانية والإفطارات الجماعية التي تقوم بها جهات معينة أو فاعلي الخير حتى تشمل الفقراء والمساكين والمعدمين والمحتاجين وايضاً الافطارات الجماعية التي درجت عليها بعض الشركات والمؤسسات والجمعيات أن تقيمها في مقر العمل أو خارجه كنوع من التغيير والتجديد والترويح الذي ينشده الاسلام بان تروح من القلوب ساعة بعد أخرى حتى لا تكل ويصيبها العمى، وعلى ذكر هذه الافطارات هناك بادرة طيبة أسعدتني كثيراً حيث أقام الاتحاد الوطني للشباب بمحلية أمدرمان يوم الخميس الماضي افطاراً جماعياً «وقفاً» لروح الفنان نادر خضر وهذه لفتة بارعة وصدقة جارية لهذا الفنان الشباب الذي أعطى هذه الأمة فناً راقياً وأصيلاً له الرحمة ونحن نستقبل العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم تتداعى في خاطري ذكريات حبيبة إلى النفس تنقلني إلى «الجمعة اليتيمة» وهي آخر جمعة منه حيث تقوم بعض الأسر باعداد طعام خاص صدقة إلى موتاهم ويتكون غالباً من الفتة ومشروب التمر المنقوع في الماء يطعم به «الجيران» في المساجد والمسايد والخلاوي أو يدعى إليه الاطفال لينعموا ويتلذذوا بأكل «الفتة أم توم عند ناس كلتوم» وكان كل طفل يحرص على شراء القلة أم رقبة وهي تصنع من الفخار استعداداً لهذا اليوم يوم «الرحمتات» أو يوم «الحارة» فيذهبون جماعات من بيت إلى بيت حيث تجهز لهم الفتة، ويجلسون في شكل حلقة دائرية على أرجلهم «أم قللوا» او «يتفنون» على الارض وبعد الفراغ من أكل الفتة يصب كل منهم شئ من موية التمر في قلته حتى تمتلئ في نهاية مطافهم وطوافهم من بيت لآخر وهم في أوج غبطتهم ونشوتهم يترنمون بأهازيج ومفردات بسيطة ينطقونها بعفوية وعذوبة وبراءة مطلقة.. ويستمر الحال حتى مغيب الشمس، وكانت بعض الأسر الميسورة تمنح كل طفل قطعة نقدية من فئة التعريفة والقرش «والفريني» ترى هل اطفال هذه الايام بما فيهم أطفال «اليوسماس» يعرفون ما هو «الفريني» أو «الطرادة» لا أحسب ذلك. مضت أيام ويا حليلة فقد كان يوم الرحمتات يوم مهم في حياة كل طفل في ذاك الزمان ومصدر للهو البرئ والمرح والإنطلاق والرحمتات نفسها كانت واحدة من عاداتنا وطقوسنا الجميلة التي إندثرت تماماً غير أن أصدائها لازالت منقوشة في دواخلنا بكل الحب والجمال.