ما ظننت أن يجد المقال الأول المعنون بالعنوان الأول، ردود فعل متباينة من أبناء مدني العظماء، منهم ما هو قادح وقليلون جداً من هو ذام، مكالمات مكثفة أصابت أذني بحالة أشبه ما تكون بالطرش ومع أن الحاشية التي ذيلت بها مقالي لم تشفع لي في أنني أكتب من الذاكرة والعتبى لمن لم تسعفني الذاكرة بذكرهم سيما أنني بلغت من العمر مما لايسمح لي أن أذكر كثيرين، وهذا في تقديري شجعني وحفزني أن أكتب المقالة الثانية وللمرة الثانية أناشد أبناء الجزيرة أن يبذلوا جهد المقل في الكتابة عن الجزيرة وحاضرتها مدني، ألا ّتستحق كليمات لهذه الولاية المعطاة ولأهلها الطيبين الأذكياء الكرماء.. أعتقد تستحق.. ولكن من أقيم ما سمعت عندما هاتفني العلامة المهندس ورجل الأعمال د. علي رمضان المستقر الآن بالكويت حينما قال لي بصراحته المعهودة إن مقالكم لم يعجبني!!. قلت له بدهشة مني ورفعت حواجب ورموش عيني لماذا؟؟ قال إنكم قمت إدراج أسماء نعزها ونقدرها؟ ولكن لم تذكر ماذا قدم هؤلاء؟ وقال بحدة أتضع أعظم إقتصاديي القارة الأفريقية (مأمون بحيري) مع السياسيين.. فمكانه الأول قائمة الإقتصاديين، هذه الملاحظة جعلتني ودفعتني أن أكتب الحلقة الثانية عن الجزيرة.. ولكن بأسلوب مختلف عن الحلقة الأولى كما سأذكر في نهايتها بعض الأسماء التي سقطت من الذاكرة ونبهني لها كثيرون.. فلهم الجميع التقدير والحب والإخلاص أملاً وسائلاً القدير أن يوفقني أن أكتب كلمات حق في حق (مدني) وفي حق من نسيت. أولاً: محمود جادين: من المهندسين القدماء في السودان.. وضع اللبنات الأولى لخطة الهندسة، وله القدح المعلى في مشروع امتداد المناقل وتخرج على يديه معظم المهندسين السودانيين، كما أنه كان شمعة مضيئة في وزارة الري بمدني له وفي عهده إزدهرت مشاريع وتطور مهندسوها وزاد العمال الإنتاج في مشاريع السودان وأهمها المناقل. كما أنه كان رئيس نادي النيل الرياضي بمدني وفي عهده حقق نادي النيل المعجزات وتخرج فيه عباقرة الكرة السودانية (عبدالمنعم ابجرفل - محمد جلودي - جلال - صديق عثمان - عبدالله لملمة - سيد سليم - عبدالعال ساتي) وكثيرون لا يسع المجال لذكرهم: هذه نبذة سمحت بها المساحة المتاحة لي. ٭ مدثر البوشي: هو ابن الشيخ علي البوشي العلواني الادريسي العجمي درس والده في الازهر وتتلمذ على يد (جمال الدين الافغاني) وأخذ الطريقة الشاذلية على يد الشيخ (عليش) إمام الجامع الازهر في القرن التاسع عشر، رحل الى السودان واستقر في أم جر إحدى قرى النيل الابيض، وجاء الى مدني في نهاية القرن التاسع عشر 4981م واستقر في نفس منزل البوشي المعروف بالقسم الأول، وقام بتأسيس خلوة لدراسة القرآن الكريم ومن هنا تبدأ مدني الحديثة، توفي رحمة الله عليه (9291) وكان قد رزق بابنه (مدثر) الذي جاء الى مدني وهو رضيع وهو حفيد السيد الباقر بن الشيخ اسماعيل الولي تخرج من كلية غردون قسم القضاء الشرعي عام 4291م عين أول وزير للعدل في الحكومة الوطنية للسيد/ إسماعيل الأزهري وقام والده ببناء مسجد البوشي المعروف بمدني وهو من أقدم المساجد في ولاية الجزيرة. ما لا يعرفه الناس عن الشيخ مدثر البوشي أنه كان شاعراً نحريراً جاء من ذريته عائلة اشتهرت بحدة الذكاء وإتقاد الذهن رحمه الله. ٭ بابكر كرار النور: مؤسس الحركة الإسلامية بالسودان انشق من الاخوان المسلمين وكوَّن الحزب الاشتراكي الإسلامي، سياسي فذ طاهر اليد ومحامي من الدرجة الأولى.. ولكنه سرعان ما أخذته السياسة بعيداً عن دنيا المحاماة، كان قارئاً نهماً يتحدث العربية والانجليزية بإتقان شديد، عارض قائد انقلاب مايو وصديق عمره (جعفر نميري) وذهب الى الجماهيرية الليبية وكوّن المعارضة، عارض غزو السودان.. ولم يشترك مع الجبهة الوطنية في حزب نظام الخرطوم مما أغضب عليه القذافي، وقام بنفيه في جزيرة ليست ببعيدة عن طرابلس، عاش فقيراً ومات فقيراً ولكنه ترك كنزاً من المعارف وراءه رحمه الله. ٭ صالح بحيري: مؤسسة مدرسة المؤتمر الثانوية بالخرطوم - ورائد من رواد التعليم بعد المعاش ساهم مع صديقه أبوزيد أحمد في أن أصبح مديراً لمدرسة أبوزيد الابتدائية وتخرج على يديه معظم الطلاب الذين يقودون العمل الوطني الحالي في السودان رحمه الله. ٭ أحمد خير: فسأله صديقه شيخ أبوزيد أحمد لدي ابني «محمد» يريد أن يدرس القانون، فبماذا تنصحه قال: أن يحفظ القرآن الكريم (والمتنبيء وأحمد شوقي) بدأ بالمحاماة وكانت فكرة مؤتمر الخريجين من عندياته، قاد الفكرة التي أثمرت عنها طرد المستعمر من البلاد، وفي وصيته على فراش المرض وصى أن يدفن في (مدني) وقد تمّ تشييع الجثمان من نادي الخريجين وتم دفنه في مقابر مدني الرئيسية رحمه الله. ٭ مأمون بحيري: أبو الاقتصاد السوداني، درس في فكتوريا.. المقربون اليه ينادونه باسم الأمير، والدته المرأة المعطاة (أم بشائر) بنت الفارس المغوار علي دينار، وعندما كان وزيراً للمالية في عهد الجنرال عبود، إزدهر الإقتصاد السوداني وكانت له بصماته الواضحة في تاريخ الإقتصاد السوداني، وعمل في البنك الدولي بنيجريا، وترك معاشه أن يمنح كجائزة للمتفوقين.. أهل الخرطوم أطلقوا شارعاً باسمه وأهل مدني يضعونه في سويداء القلوب، عندما يتحدث للناس عن الاقتصاد لابد أن يأتي ذكر مأمون أبوالاقتصاديين السودانيين رحمه الله. ٭ المهندس محمد عبدالكريم عساكر: مهندس مدني تخرج في جامعة الخرطوم، يمتاز بأدب جم وأخلاق عالية، عمل مع مايو وزيراً للإسكان وقام بتوزيع الأراضي التي نراها الآن تزين المدينة، أعطى الفقراء الاراضي وحرم من كان يستطيع بماله.. منحازاً للفقراء وكان لصيقاً بأهل مدني والجزيرة، وعندما كان رئيساً لنادي النيل بمدني قدّم الكثير وتخرج على يديه عمالقة الكرة سمير صالح حكيم علي مرجان الشامي صالح عبدالله والنيل فضل - شيخ إدريس بركات - الاسيد - الطاهر فرح- عصام محجوب، كلما تحدث الناس بمدني عن الإسكان ذكروا عساكر بكل الخير رحمه الله. ٭ د. علي رمضان الفرنساوي: قد يعرف أهل مدني عائلة الفرنساوي كعائلة مشهورة ومعروفة بالمدينة.. ولكن لا يعرفون د. علي الفرنساوي الذي كان يعمل بالقاعدة الذهبية (قضوا حوائجكم بالكتمان) كان باراً بأهله وأصدقائه وعشيرته، كان يوزع الأموال دون أن تعلم يده اليسرى، يحاول الآن مع حكومة الانقاذ بالخرطوم ومدني أن يقدم مشروعات يشغل فيها السودانيين وخاصة أهل مدني - جواداً - كريماً - قوي الشخصية لا يخاف في الحق لومة لائم، قال إنه لم يقدم الى أهل مدني شيء يذكر وعليه يسأل الله أن يوفقه في إنشاء مشروعات تساهم في مدينته وتشغيل أبنائها.. قلت له إنك تساعد أسر كثيرة كاد أن يقتلها الجوع ولن تعلن عن ذلك أطال الله عمرك يا أبوسارة. ٭ جعفر محمد نميري: لم يولد بمدني ولكن تشكيل شخصيته العاطفية كانت بمدني، فدرس في الأميرية وحنتوب، كان جندياً من الدرجة الأولى التحق بالقوات المسلحة في خمسينيات القرن الماضي وفي 9691م استلم السلطة ومكث فيه (81) عاماً كان جواداً - وخلوقاً - ووفياً في علاقاته الإنسانية، كلما جاء الى مدني خرج عن البرتوكول، قام بقيادة السيادة بنفسه وتفقد أحياء مدني وبصفة خاصة ود الازرق، كان وفياً لصديقه الطيار الذي أعدمه نظام عبود في انقلاب عسكري (الصادق محمد الحسن)، تكفل برعاية ابنته مها حتى تخرجت من كلية الطب بالقاهرة، لم يملك منزلاً أو عمارة، عاش فقيراً ومات فقيراً.. ولكن أثره التاريخي سوف يضمه التاريخ لاحقاً.. رحمه الله. ٭ أحمد عبدالحليم: من أبناء العشير من أحياء مدني العريقة منذ صباه كان مبرزاً في الأميرية مدني وحنتوب الثانوية اشتغل بالسياسة، ووقف ضد المستعمر ومن ثم قامت السلطات المدرسية بحنتوب بفصله من السنة (الثالثة)، وواصل تعليمه الجامعي فيما بعد، جنده للحزب الشيوعي بابكر كرار وبعدها ترك الحزبية وكان مفكراً متفرداً عمل مع جعفر نميري وزيراً للإعلام ومعهد اللغة العربية لغير الناطقين بها، ثم أمن الاتحاد الاشتراكي، ويقال إنه كان يعد خطابات (نميري) السياسية ثم جاء الانقاذ وعمل سفيراً للسودان (بمصر) وكان حسني مبارك يناديه بعم (أحمد) رحمه الله. ٭ المهندس عبدالعزيز عثمان موسى درس بمدرسة أبوزيد الأولية والأميرية المتوسطة وحنتوب الثانوية ثم جامعة الخرطوم واختار أصعب الأقسام الكهرباء وكان بدفعته (6) تخرج هو فقط من كلية الكهرباء، مما حدا بالبروفيسور الهندي أن يقول إن هذا الطالب سوف يكون له شأن بالسودان، عمل بخزان الروصيرص، وقد كشف لي الأخ محمود ودالنعمة وقال لي بأن أخطره المهندس جعفر محمد نور الذي يعمل بمحطة بري الحرارية أن الفريق الاجنبي يعجز عن تشغيل التوربينات فما كان من عبدالعزيز إلا أن قال بأنه سوف يشغلها وأمهله المهندس (السر محمد صالح) سبعة أيام للقيام بالمهمة وخلال (5) أيام فقط عملت التوربينات بكل طاقتها ومما حدا بالأجانب أن يصفقوا له وأن يقفوا إجلالاً وإنحناءً لهذا العبقري، عمل وزيراً للكهرباء حتى حكومة الانتفاضة 4891م بعدها هاجر الى هولندا وهو يعمل استشاري في معظم الدول العربية والأوروبية.. أليس السودان خاسر بأن يفقد مثل هذا العالم النحرير، يا أهل الإنقاذ هل تجافون العلماء أحضروا عبدالعزيز عثمان موسى فإنه من أبناء هذا الوطن ويحب بلده ويريد أن يخدم بلده طول الله عمره. ٭ الشريف حسين الهندي: ولد في الحوش إحدى قرى الجزيرة المعطاة.. ولكن تشكلت حياته بحي ودالازرق درس البندر الاولية ثم الاميرية مدني، ومنها الى كلية فكتوريا.. أحمد خير المحامي صديقه وخاله يرجع إليه في الشؤون العائلية والسياسية، كان من رموز الاتحاديين، وكان قريباً من الزعيم اسماعيل الازهري في الديمقراطية الثانية، عمل وزيراً للمالية، إذ لم يشهد السودان بعد مامون بحيري إقتصادياً فذاً كالشريف فاستنبط ما يسمى بند العطالة، فاستوعب فيه معظم العطالة مما إمتص غضب الشارع الذي كان يشكو من العطالة.. قولته المشهورة أصبحت مضرب الأمثال (في حكومة دخلوها السجن في دين) رحمه الله.