عندما اندلعت أول ثورات الربيع العربي من تونس الخضراء في نهاية العام 2010م وصار الشعب التونسي الثائر ضد القهر والظلم والاستبداد يردد أبيات شاعر الحرية أبو القاسم الشابي : إذا الشعب يوماً أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ... ولا بد للقيد أن ينكسر. فتحقق له ما أراد فهرب الطاغية ، وما زال الشعب يتلمس طريقه الذي ما زال وعرا- في بناء وطن يسع الجميع ، ويعيش فيه الكل بعدلٍ ومساواة وكرامة تحت سقف الحرية والإخاء. ومن ثم هبت العواصف الثورية فاجتاحت العديد من البلدان العربية المؤثرة ، وحتى التي لم تثورفي وجه أنظمتها شعرت بالإحساس الثوري ورغبت في التغيير ، والإصلاح ... الثورة المصرية التي ما زالت تصارع أمواج عهد مبارك البغيض وفلوله، وأفعى الانقلاب العسكري المخادع ... وليبيا هي الأخرى تكابد الفوضى الأمنية والمليشيات المسلحة تسيطر على العديد من مفاصل الدولة وهي لا ترتدع لقانون ولا تخشي من سلطان الدولة الهشة أصلاً .. واليمن لا تزال تكابد تداعيات الاتفاق الرمادي الذي تم توقيعه مع الطاغية علي عبد الله صالح وزمرته، وما زال يشكل خميرة عكننه لأي استقرار سياسي في البلاد .. سوريا تمثل بحقٍ وحقيقةٍ عقبة الربيع العربي الكأداء وأقوى تحدياته في الاستمرار . من هذه الثورات من حقق هدفه ووصل إلى ما يريد ، ومنها من تنكب الطريق ، وما زال يصارع الطغمةَ القديمة .... النظام السوري بسمته الدموي - الذي استمده من الفكرة البعثية الشرسة قابل الشعب الثائر بقوة الحديد والنار ، كما فعل في بداية ثمانينيات القرن المنصرم مع التيار الإسلامي في حماة، الذي ذبح منه أكثر من 30000 شخص في زمنٍ وجيز ، فما حرك ذلك ساكناً في القوى العالمية المنافقة التي تنادي بالعدل والحرية وتدعّي حماية حقوق الإنسان ... النظام السوري قتل الآن مئات الآلاف وشرد الملايين من شعبه الأبي الثائر ودمر البلد تماماً ، وهو يجد الحماية الشاملة من الفيتو الروسي في مجلس الأمن حتى مجرد الإدانة !! وأميركا تنظر بعين الرضا للنظام الأسدي؛ بعدما سلمها الأسلحة الكيمائية التي كانت تهدد إسرائيل ، وكانت تشكل أسنان لسوريا العروبة والإسلام ، وهي من لحم ودم الشعب السوري ، كلفته مليارات الدولارات عبر عقودٍ من الزمان ، ولكن النظام عندما أيقن أنه مُندحر وساقطٌ لا محالة أمام ضربات المد الثوري العنيف.... القوى العالمية المناهضة لأمة العروبة والإسلام أرادت للربيع العربي أن ينحرف عن مساره المبارك فصارت تزرع بذور الخلاف والفتنة بين الفصائل المقاتلة في الميدان ، النظام السوري يدعم الدولة الإسلامية في العراق والشام » داعش »... هذا الكيان الضرار ؛ الذي لا يهدف إلا لشق الصف المعارض ، وإشعال نار الاقتتال بين القوى الموجودة في ميادين الجهاد والكفاح ضد النظام ، فتجدهم يقاتلون الجيش السوري الحر ، وجبهة النصرة ، رغم أن الأخيرة لها علاقة بتنظيم القاعدة وتشاركهم في الفكرة ، وهم يقاتلون الجبهة الإسلامية « التحالف الذي يضم أكثر من 10 فصائل إسلامية معتدلة » ، وهي من أكبر الفصائل المقاتلة على الأرض السورية ضد النظام البعثي المدعوم من حزب الله وإيرانوروسيا .... ومن المآسي التي يعتصر لها القلب ألماً ، وتسيل لها العيون دمعاً مدراراً فاجعة معسكر اليرموك ، الذي يقطنه اللاجئون الفلسطينيون ، وهو في قلب العاصمة دمشق ، وضعه النظام كدرع بشري ضد أي اعتداء خارجي مُحتمل ... هذا المعسكر بدأ الناس يموتون فيه جوعاً ، ولعل وسائل الإعلام نقلت بعض الصور التي يشيب لهولها الولدان ، ذلكم الطفل الذي يصرخ بأنه: جوعااااان، والشيخ الكبير الذي يلفظ أنفاسه تحت نير الجوع والقهر والحرمان ويشهد على ذلك كل العالم الذي ينادي بحقوق الإنسان ، وكرامة البشر !!! الدوائر المُعادية للشعوب العربية والإسلامية أصابتها خيبة أمل كبيرة عندما تصدرت القوى الإسلامية المشهد السياسي وفازت في تونس وليبيا وتتوج الأمر بالرئاسة في مصر والسيطرة التامة على البرلمان ، هنا جن جنون العدو الصهيوني والإمبريالية ، وأذنابها من علمانيي الداخل ، وأعداء التيارات الإسلامية .. فراهنوا على أن تكون سوريا آخر ثورات الربيع العربي ، فاشتعلت الفتنة العمياء فصارت إيران الشيعية ، وحزب الله في لبنان أهم الداعمين للنظام الأسدي البغيض ، ومن خلفهم روسيا والصين ، والدور الأميركي المخزي .. ولكن الشعب السوري صاحب الإرادة الحديدية ما زال وسيظل يقاتل حتى إسقاط هذا النظام البغيض ... وليس ذلك بمستحيل على شعبٍ وضع الحرية والكرامة هدفاً أساسياً له ... والشعوب الحرة لا يقهرها الجبارون مهما تفرعنوا وعتوا في البلاد ... والشعوب العربية كلها مع سوريا حيث ترجم ذلك قبل حوالي ستة عقود الأستاذ الكبير أحمد محمد صالح عن محنة دمشق التي كانت في العام 1945م إبان القمع الفرنسي للثوار في ديوانه » مع الأحرار »: صبراً دمشق َفكل طرفٍ باكي .... لما استُبيح مع الظلام حماك جَرحُ العروبةِ فيك جَرحٌ سائلٌ......بكت العروبةُ كلها لبكاك جزِعت عُمان وروعت بغداد ....واهتزت ربا صنعاء يوم أساك وقرأتُ في الخرطوم آيات الأسى ....وسمعتُ في الحرمين أنّة شاكٍ الزعفرانُ مشت عليه كآبةٌ..... لما استبد السيف في مغناك والروضةُ الفيحاء رُوِعَ رُكنها ..... لما تعفر بالثري خداك صبراً دمشق وكل همٍ زائلٌ ......وغداً يلوحُ مع النجومِ سناك تتألقين كما عهدتُكِ دُرةً ......في تاج أروع من أمية زاكي في الجاهليةِ كان عزُك باذخاً.....وازدان بالإسلام عقد حُلاك