[email protected] - هاتف:0111830866 عُرف الإنسان الأول منذ نشأة الخليقة وبدء الحياة على الأرض، الفارق بين حياة البدو وحياة الحضر، وصفات الإنسان ولوازم الحياة في كل من البادية والحضر. ولعل الفارق المُتفق عليه اليوم بين الناس أن البدويين هم سكان البادية والخلاء والصحارى والوديان البعيدة أو القريبة من مراكز الريف والقرى، والمدن الحديثة التي نشأت حديث متكونة من قبائل واثنيات وقوميات وثقافات وعقائد وعادات وتقاليد مختلفة تداخلت وانصهرت أو على الأقل تحاول أن تتقارب وتتجانس لتمثل وعاءً كبيراً يسع هذه المجموعات، لتتعايش وتتكامل وتتنافع وتتعاون لتقرر صفة عيش جديدة لم يألفها هؤلاء السكان من قبل. وتسمى تلك التحولات بالتمدُّن والتطور والتحضُّر. والبدويون تقوم حياتهم على العيش بعيداً عن مظاهر هذه الحياة الحضرية، وان قربوها احياناً واقترفوا منها تظل لديهم صفات وسمات تميزهم عن غيرهم من قاطني الحواضر والمدن، حيث تقوم حياة البدويين على التنقُّل والترحُّل وعدم الاستقرار، تبعاً لحاجات الإنسان البدوي الباحث دوماً عن سُبل الراحة لنفسه ولحيوانه المتمثل في ايجاد البيئة الرعوية الصالحة والمسارات الواسعة ومراكز المياه، ولذلك هم في حالة ترحال وظعن مستمرة لا تعرف الاستقرار والمكوث الدائم، ولذلك حياة البدو دائماً قلقة ومتوثبة للحركة والتجوال. بين سكان البادية وسكان الحضر صلات واتصالات قديمة قائمة على تبادل المنافع والخيرات منذ أن عرف الإنسان الصنائع والمهن والحرف والأعمال التي بدأت اولاً بالرعي ثم التجارة ثم الزراعة، وختمت بالصناعة. فهذه الحِرف الأربع هي التي تدور عليها اليوم حركة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والحضارية، ولكن ظلت الى تاريخ اليوم كأنّ هذه االحرف قسمة بين اهل البادية وأهل الحضر حيث لا تزال حرفتا الرعي والتجارة اقرب الى النشاط الاقتصادي لسكان الريف والمدن وإن كان هناك تشارك مثلاً في حرفتي التجارة والرعي بين المجموعتين كنموذج المزارع المختلطة في المدن الاّ انه ليس بالسمة الغالبة. يخطئ بعض الناس ويذهب ليفاضل بين الحياتين حياة البادية وحياة الحضر بصورة مطلقة وقاطعة، حيث يرى فريق من الناس أن حياة البادية افضل واسلم لعيش الإنسان حيث لا تزال المجتمعات هناك محافظة على قيمها الاجتماعية ولا تزال العصبة القبلية والتماسك العشائري والعائلي والأُسري له سلطانه، ولا تزال اجواء البادية اللطيفة غير ملوثة بأدران الأبخرة والصناعات والكيماويات، ولا تزال اطعمتها شهية سليمة وخالية من الحافظات والمعلبات، ولا تزال قيم المجتمع في العون والنجدة والمروءة والكرم والنخوة وصون الأعراض وروح الفريق الواحد في السلم والحرب وسهولة الحياة والعيش ويسر الحركة والبُعد عن تعقيدات الحياة العصرية التي يُذكي احتدامها الصراع السياسي والاقتصادي والثقافي والحضاري بين الأمم، الأمر الذي جعلها اقرب الى االحرب والانفجار والحذر الدائم من الأمان والوئام. ويرى فريق آخر أن العيش في البادية والانقطاع عن اسباب الراحة والتمدُّن ليس اليوم من سمات العصر حيث تطورت حياة الإنسان وارتقت وبدت فيها تحولات ضخمة نتاج التواصل الحديث، ولذلك لا داعي للإنسان أن يتخلَّف بعد اليوم عن اسباب «التكنولوجيا» وفرص التعليم والخيارات الأفضل في سبل العيش السكن المكتب السيارة الملبس والمظهر وفنون الحياة الحديثة، ولذلك فريق من هؤلاء يطرح رؤية جديدة تتحدث عن أهمية إنهاء حياة البادية التقليدية وفرض التمدن على أهلها ويبرر هذا الفريق رؤيته بحجة حتى تتمكن الدولة ومراكز صناعة القرار السياسي من تقديم خدمات التنمية من صحة وتعليم وحياة وأمن إذ لا تتوفر قدرة للدولة في ايصال هذه الخدمات الى تلك الأصقاع المترامية والمتناثرة فوق الجبال وبطون الأودية والظراب ومجاهل الفلوات، فلابد من تجميع هذه المجموعات السكانية البدوية في بدائل سكانية جديدة يسهل ربطها اجتماعياً وازالة الفوارق العرقية والقبلية التي هي من مقومات الدولة الحديثة الموحدة القوية خاصة بعد نمو الصراعات القبلية والجهوية في بعض المناطق من العالم ولنا نحن في السودان نصيب منها لكن كلا الفريقين يخطئ التقدير السليم في معالجته لهذه الظاهرة. فمثلما يعتقد سكان المدن والحضر انهم قد عتقوا من حياة الشظف والمعاناة والهمجية والتخلف الفكري والثقافي الى حياة الدعة والراحة ووسائل العيش والنظافة بعيداً عن الوجد وطول السفر فلا يمكن العودة الى تلك الحياة البدائية، بل انت ترى الهجرات مستمرة نحو المدن والحواضر لدواعٍ كثيرة والدولة عاجزة عن ايقافها وتقنينها. كذلك يعتقد سكان البادية ان المدن والحواضر ما هي الاّ لص ماكر يسلب من الإنسان سماحته وكرمه ومروءته وطبيعة حياته الفنية القنوعة وفراسته وحرية حركته في فجاج الأرض الرحبة بلا قيد اوشرط الى مساحة صغيرة تقاس بالأمتار في المدن تقيد حركته لتقتله تدريجياً بسموم الصناعات والتلوث الهوائي وتسلب عنه قيمه الاجتماعية والثقافية لصالح فوضى العولمة والموضوعات والتمظهر السالب وتفكيك معتقداته التي ورثها من الآباء والأجداد و من شابه أباه فما ظلم. وخير له ظهر الثور «الأدوب» الآمن من مقعد سيارة فارهة يقوده الى الموت على طريق الأسفلت، وقد كان آمناً وهو يسير على المرحال لذلك لا يمكن ان يستجيب لدعوة قسرية تهدف الى تغيير نمط حياته التي ألفها وإن جاءت الدعوة من الدولة والمركز السياسي فإنه يقاومها ويقف في وجهها. وللتقريب بين وجهتي النظر لابد اولاً من الاعتراف باستحالة حمل البدويين الى حياة المدن قسراً وتهجير اهل المدن والحواضر الى الأرياف وشبه المدن والبادية قسراً ايضاً بدوافع إعمار الريف وعودة الرعاة والمزارعين الى مواقع الإنتاج بدلاً عن وجودهم في المدن على حساب الإنتاج والصراع على موارد المدن الشحيحة التي تعجز طاقتها عن استيعاب هذه الأعداد المتزايدة. ثانياً لابد من فلسفة حضارية راشدة تعالج هذا المشكل من خلال برنامج علمي يحقق التوعية اللازمة للفريقين بنوعية العيش الذي يحقق الطموح ويحفظ لكل قيمه ومورثاته في اطار تلاقٍ وتصاهر وتواصل حميد يحقق التوازن في تنمية الإنسان والموارد ثالثاً اهمية أن تتجه جهود الدو لة المركزية الى وضع خطة إستراتيجية تحمل فيها الشعب الى إنشاء تجمعات سكانية توفق بين مطلوبات الحياة القديمة والحياة الحديثة طالما للإنسان موروث لا يمكن التخلي عنه وهو في الوقت ذاته بحاجة الى التطور والتغيير وبهذا ينبغي أن يتكامل عطاء الإنسان البدوي مع الحضري لبناء نموذجاً حضارياً يشارك فيه الجميع قائم على التعاون والتصالح والتعايش والسلام الاجتماعي والحوار الدائم بعيداً عن الاحتراب.