نحن في مسألة الحكم والسياسة بين نارين: جهل الطائفية، وعصبة الهاربين من ذكائهم، وبين الاثنين تحالف غير مكتوب الشاعر محمد المهدي مجذوب بدأت أبعاد اشكالية هرب المبدعين تتضح في ذهني منذ سنوات عديدة، أثر قراءات متنوعة، لجدل ظل ثائراً حول ما سُمي إشكال الهوية، وحول ما عُرف في الأوساط الأدبية بهرب جماعة الغابة والصحراء إلى المكون الزنجي في الذاتية السودانية. ولقد سبق ان ألمحت في بعض مساهمات شاركت بها في منبر «سودانيز أونلاين» الإليكتروني، في خيط افتراعه الناقد عبد المنعم عجب الفيا، إلى اعتقادي بأن الهرب لم يكن صوب «براح الحرية الشخصية» المفترض توافره في ثقافة الغابة والصحراء، كما أشارت إلى ذلك مقالة الدكتور عيد الله علي إبراهيم، الشهيرة، المسماة «تحالف الهاربين». ---- وإنما كان هناك هرب آخر، قام به قبيل آخر من مبدعي مدن الوسط النيلي. وقد استهدف ذلك الهرب براح الحرية الشخصية النسبية في بادية كردفان، وهي بادية «عربية إسلامية»! فظاهرة الهرب، كما بدت لي على ضوء ما بحثت فيه، قد مثلت في حقيقة أمرها توجهاً أكبر، وأوسع، مما حصرتها فيه مقالة الصديق ، الدكتور، عبد الله علي إبراهيم، التي أعدها أحد المقالات المفتاحية التي فجرت الجدل في هذا المبحث المهم وجرته إلى دائرة الضوء. وقبل ذلك بعقود، توافرت كتابات الشاعر الكبير، محمد المكي إبراهيم، إلى الإشارة لما أسماه «حنبلية الثقافة» العربية الإسلامية، مقارنة بغيرها من الثقافات السودانية، خاصة الزنجية منها. يرى الشاعر محمد المهدي مجذوب «1919-1982» أن ما أسماه، تحالفاً غير مكتوب بين جهل الطائفية وعصبة الهاربين من ذكائهم، هو ما شكل العلة في بقاء السودانيين في مسألة الحكم والسياسة بين نارين، عبر حقبتي النضال الوطني ضد المستعمر، وما بعد الاستقلال، فهل يا ترى تجنى الشاعر محمد المهدي مجذوب على الطائفية، وعلى من أسماهم ب «عصبة الهاربين من ذكائهم»، أم أنه لم يقل سوى الحقيقة؟ شملت ظاهرة هرب المبدعين قمما شاهقة من جيل الرواد. فالشاعر الرائد محمد سعيد العباسي، مثلاً، عاش حياته هارباً من حواضر الوسط النيلي، وكان له حج سنوي إلى بادية كردفان، وغيرها من بقاع الريف السوداني، وقد تقفى آثاره في الهرب بعض من أبرز أفراد الجيل الذي تلاه. وشمل الهرب نحو فضاء أقل خنقاً للأنفاس في الفضاء الجغرافي للثقافة العربية الإسلامية، إضافة إلى الشاعر، محمد سعيد العباسي «0881-3691م»، شعراء كبار من عيار: محمد أحمد محجوب «8091-6791م»، والناصر قريب الله، «8192-3591»، ومحمد المهدي المجذوب «9191-2891». والطريف ان محمد المهدي المجذوب صاحب التشخيص المقتبس في صدر هذه المقدمة قد مثل في نظري، أكبر هؤلاء الهاربين! ولقد كان مقراً بهربه، واعياً به تمام الوعي، وربما متصالحا معه! أيضاً هناك من بين الشعراء والأدباء من هرب إلى جيوب خلقها لنفسه داخل حواضر الوسط نفسها. وقد أشار الاستاذ، محمد الواثق إلى اعتكاف الشاعر توفيق صالح جبريل في «الدهليز». كما تحدث الاستاذ حسن نجيلة كثيراً عن «بيت فوز» الذي كان يلتجئ إليه بعض شباب الحركة الوطنية. وأشار محمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد إلى صالون «مدام دي باري». وسيجئ ذكر كل أولئك لاحقاً. أيضاً، نجد من بين شعرائنا وكتابنا من اغترب عن طريق تغييب عقله ابتعاداً عن جحيم الواقع المحيط به. وكان ما حدث في تلك الوجهة تعبيراً عملياً عن فداحة تناقض الطاقة الإبداعية الخلاقة مع الواقع المتخلف المحيط بها. ويتجلى ذلك كأقوى ما يكون في تجربتي الأديب الرائد، معاوية محمد نور والشاعر المرهف، إدريس محمد جماع. وافقت متابعتي لما كان يجرى وقتها، من حوار في منبر «سودانيز أونلاين» حول «الآفروعروبية» إعادة قراءة أقوم بها لكتاب الدكتور حسن أبشر الطيب المسمى: «في الأدب السوداني المعاصر»، الذي تحدث فيه، ضمن من تحدث عنهم، عن الشاعر، محمد سعيد محمد العباسي، وأشار فيه إلى حقائق كثيرة عن تعلق العباسي ببادية كردفان وعن حجه السنوي إلى تلك البادية. وهو حديث سبق إليه الدكتور حسن أبشر الطيب الاستاذ الرائد، حسن نجيلة، الذي اتفق له ان عايش العباسي في زياراته المتكررة إلى تلك الجهات. وقد دفعتني إشارات الدكتور حسن أبشر الطيب العديدة إلى كتاب الاستاذ حسن نجيلة «ذكريات في البادية» لكي أعيد قراءة ذلك الكتاب الذي أعده من أقيم الكتب التي سلطت الأضواء على تجربة الشاعر، محمد سعيد العباسي. لفتت نظري في إعادة القراءة للكتابين، بعض القصص والشواهد الشعرية. وقد دفعت بي تلك الشواهد إلى مزيد من التأمل لظاهرة ايثار العباسي للبيئة الكردفانية الريفية، رغم أنها بيئة تتسم بالعزلة، وبخشونة العيش. فلماذا إذاً آثرها العباسي وهو ابن المدينة المنتمي إلى بيت ديني مرموق؟ كان العباسي متعلماً تعليماً جيداً، وقد كان بوسعه، وهو الدارس في المدرسة الحربية المصرية، ان ينعم مع الغردونيين برغد، وحلاوة، وطلاوة، حياة المدينة الحديثة التي أنشأها المستعمرون البريطانيون، وتشارك معهم متع عيشها الحداثوي كل طلائع الأفندية، أيضاً لفت نظري تشبيب الناصر قريب الله، الذي يمت بصلة القرابة للعباسي، وينتمي إلى نفس البيت الديني بالبدويات، وبأنثى الثقافة الأخرى في المدارس الإرسالية. وقد فضل الناصر العيش بعيداً عن أمدرمان، مفضلاً هواء الطبيعة البكر، ومرأى أنثى المدارس الأجنبية السا فرة، في عطبرة، وبورتسودان، والأبيض. لقد لفتت نظري، ومنذ وقت مبكر جداً، حلاوة ورقة الشعر الذي كتبه كل من العباسي والناصر، وهما يتمليان حسن بادية كردفان وطبيعتها البكر. وكثيراً ما تساءلت: ما السر في كل تلك العذوبة الاستثنائية؟ ما الذي أتاحته لهما تلك البيئة ولم تتحه لهما الخرطوم، حتى انسكبت منهما تلك الأشعار العذبة المؤثرة؟ وقد قام في خاطري بشكل ابتدائي تسبيب افتقر لحظتها إلى استفاضة الادلة. التسبيب الذي جال بخاطري في المبتدأ، ان تلك البيئة مثلت لكليهما متنفساً أنثوياً، من حالة خنق كاتمة للأنفاس، أصابتهما بها حواضر الوسط النيلي المحافظة. وحين تأملت نصوصهما كرة أخرى، مصطحباً ذلك الخاطر، بدت لي صحة ما حرزت وبأكثر مما تصورت! أيضاً دعاني ما أخذ يتبلور في ذهني في ذلك المنحى، إلى إعادة قراءة ديوان «قالب وتجارب» للسياسي المرموق، الشاعر، محمد أحمد محجوب. فوجدت في ذلك الديوان ما يعضد وجهة نظري حول نزعة الهرب تلك. وبدا لي ان البحث قد مثل في أهم جوانبه بحثاً عن أنثى ضائعة، وعن براح يسمح بسوانح اللقيا بين الجنسين، وعن براح ومتنفس للطاقة الإنفعالية الشعرية. غير أن محمد أحمد محجوب لم يهرب إلى أرياف السودان، وإنما يمم بوجهه شطر الخارج صوب الشمال، طالباً متنفساً حداثياً أكبر، وأكثر غنى، وأكثر نعومة من متنفس الريف السوداني الفقير. فالعباسي والناصر ارتدا من المدنية السودانية حديثة العهد بالتمدن إلى الريف السوداني البعيد. وإن اختلف الناصر عن العباسي في هذا، بعمله في المدارس الكنسية الإقليمية. قمت بتضمين تلك الشواهد التي وجدتها في تجربة وشعر كل من العباسي، والمحجوب، والناصر، في مداخلاتي العديدة التي أسهمت بها في خيط «الآفروعروبية» بمنبر «سودانيز أونلاين». وقد كانت محاولتي، وقتها، منحصرة في إقامة الشواهد على ان ظاهرة الهرب كانت لها تجليات أوسع بكثير مما أدار المتداخلون الحوار حوله، وأوسع مما حصرتها فيه ملاحظات الدكتور عبد الله علي إبراهيم. وأخذ يتضح في ذهني أكثر، فأكثر، أن حالة «الهرب» وحالة الاغتراب من الوسط المحيط، وحالة التوق، والشوق، إلى الانفلات من قبضة الثقافة العربية الإسلامية، في نسختها المدينية المتزمتة المسيطرة على حواضر الوسط، قد مثلت في حقيقتها نزوعاً وتململاً عامين، وسما بمقادير متفاوتة مسلك طلائع المتعلمين. كما وسما إنتاجهم الأدبي والفكري بميسم له خصوصيته الدالة على بعض جذور أزمة الحكم والسياسة في السودان عبر مرحلتي النضال ضد المستعمر، وما بعد الاستقلال. ضاق الشاعران، محمد سعيد العباسي، والناصر قريب الله، بحياة الخرطوم المحافظة الخانقة، وقد عبر كلاهما عن ضيقه بالخرطوم تعبيرا لا مواربة فيه. يمم كلا الشاعرين شطر البادية مستكشفين مواطن الجمال والإلهام فيهما. أما المحجوب الدبلوماسي فقد يمم بوجهه شطر حوض المتوسط واوروبا. والشاهد هنا ان التعليم الحديث الذي نشأ على أعقاب انهيار الدولة المهدوية «5881-8981» من ناحية، وما تلا ذلك من سيطرة المؤسسة الفقهية التركية المتزمتة على الحياة المدينية في حواضر الوسط، وصبها لتلك الحياة، نوعا ما، في القالب العثماني، من الناحية الأخرى، قد مثلتا طرفي حالة الشد التي شطرت أفئدة النخب المبدعة. هاتان القوتان هما اللتان تسببتا، في تقديري، في حالة الشد العنيف التي مزقت أفئدة كثير من الموهوبين السودانيين من ذوي الطاقات الإبداعية الكبيرة، والوجدان الشاعر. نتيجة لذلك، انقسمت ذواتهم بين دواعي الاستجابة لضغط الطاقتين العقلية والوجدانية، اللتين استحصدتا في دواخلهم نتيجة لتجربة الاتصال بالآخر المعاصر الوافد، وبين ضيق الواقع الذي صنعته الطهرانية المهدوية، والمؤسسة الدينية، التي أنشأها الأتراك، وهي مؤسسة خدمت كلاً من الحكم التركي، والحكم الثنائي. لا تزال حالة الشد هذه هي التي تكبل انطلاق السودان في وجهة ان يصبح قطراً حديثاً أخذ بنيات تحتية وفوقية صالحة للتكامل والتناغم مع الحراك الكوكبي القاصد إلى رفع نير الاستعباد عن اعناق بني البشر. وحين يعجز القطر اقتصادياً، وسياسياً، وثقافياً، من التحاور مع الحراك الكوكبي يسقط وأهله في براثن العزلة والموات. في مثل هذه الأحوال تدخل الأمم عادة في تيه المنولوج. وتيه المونلوج هو التيه الذي تغرق فيه الأمم في مخاطبة ذاتها بذاتها، بعد ان تصاب بالصمم، وتصبح غير قادرة على ان تسمع غير الصوت المنبعث من داخلها. بذلك تتعمق عزلتها وتنشل أطرافها وتدخل مرحلة الموت السريري. ومن ظل يتابع تلفزيون ام درمان الحكومي، منذ مجئ حكم الانقاذ إلى السلطة في يونيو 1989، يلحظ بجلاء الخروج المضطرد من وضح «الديالوج» إلى عتمة «المونولوج». والغرق في «المنولوج» أو محاورة الذات هرباً من «الديالوج» او محاورة الآخر، يقود تلقائياً إلى عدم الاحساس بالآخر، بل وإلى إنكار وجوده جملة واحدة. لا أريد ان يفهم مما تقدم اني اقول بأن سلطة الانقاذ هي وحدها التي ارتدت بثقافة الوسط النيلي من حالة «الديالوج» إلى حالة «المونولج». فغرق ثقافة السودان النيلي الأوسط والشمالي في المنولوج شأن قديم. وإنكار وجود ثقافة الآخر بل وإنكار وجود الآخر ذاته. أيضاً شأن سوداني قديم، متجذر في الثقافة العربية الإسلامية السائدة في منطقتي الشمال والوسط. كل ما في الأمر ان وصول الجبهة الق ومية الإسلامية إلى الحكم في يونيو 1989 قد مثل وصول سيطرة حالة المنولوج إلى قمة غير مسبوقة. بوصول الجبهة القومية الإسلامية إلى السلطة غدت حالة الاحتقان السياسي، والثقافي أكثر تركيباً، وتعقيدا، مما كانت عليه، مقارنة بما كان عليه حالها منذ بدايات الحركة الوطنية السودانية وحتي تقويض الديمقراطية الثالثة.