انتظر الصحفي المصري أنيس منصور زمناً طويلاً، حتى يكشف بعض أوراق صديقه الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وتكمن أهمية الكتاب، في أنه يحكي عن أخطر مرحلة سياسية في تاريخ مصر. كما يحكي عن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، الذي رسم قدر المنطقة وقاد مصيرها. ومازالت بعض من تفاصيل وأسرار تلك المرحلة، خفية عن الأعين وقابعة في الأدراج. كتاب: "من أوراق السادات" الذي قدمه أنيس منصور، للقارئ المصري والعربي يساعد في فهم العقلية التي كان يفكر بها، رجل الحرب والسلام في مصر. هذه المذكرات، التي تنشر لأول مرة بين دفتي كتاب، تغطي الفترة الزمنية الممتدة من ميلاد الرجل وحتى عام كتابتها 1975، وكانت قد نشرت من قبل على حلقات في صفحات مجلة أكتوبر المصرية في مطلع الثمانينيات. وجلس السادات إلى أنيس منصور لأيام وساعات طويلة، بغرض التوثيق لحياته، ويقدم كما يقول أنيس للأجيال الجديدة، الإلهام. البحث عن فكرة تخرج السادات من الكلية الحربية المصرية عام 1938، وكانت نذر الحرب العالمية الثانية تملأ الآفاق، وفي هذا الجو الذي يصفه بالمكهرب، تم توزيعه مع الضباط الجدد لحراسة المرافق العامة في القاهرة. " اتصالات السادات توالت بالأحزاب والهيئات، كما تقول المذكرات، لمعرفة ما يفكر به الآخرون من أجل عمل ما ينفع مصر " يقول السادات في مذكراته عن تلك الفترة الصارخة بالأحداث، كان الإنجليز يحتلون أرضنا.. والساسة يتاجرون بالسياسة.. ويقدمون لنا طعاماً فاسداً من أفكارهم وسلوكهم.. إنهم أسوأ الأمثلة التي تعثرنا بها في حياتنا المبكرة. ويواصل: "كنا ذلك الوقت نقرأ التاريخ، ونقرأ عن الزعيم المصري مصطفى كامل.. ونحن أطفال كنا ننام على مواويل زهران وعلى دنشواي.. وعلى مواويل أدهم الشرقاوي.. وكلها طلقات من نار موجهة ضد قوات الاحتلال البريطاني". لذلك لم يك غريب أن يمتليء عقل السادات، ويلتهب خياله، بالتفكير في عمل شيء ما؟. وهو ما حدث وكشف عن تفاصيله في هذه المذكرات، بوضوح لأول مرة: "كان أول عمل إيجابي قمت به هو الاتصال بعزيز المصري.. وكان شريكاً لأتاتورك في تركيا.. وهو لذلك يتمتع بسمعة عظيمة جداً.. لقد شارك في إنشاء جمعيات عربية كثيرة.. وبعد ذلك اتصلت بالإخوان المسلمين. وكان "اتصالي بالشيخ حسن البنا فقط وناقشته كثيراً.. واختلفنا لأنه يريد أن ينطوي تنظيمنا في الجيش تحت أجنحة الإخوان المسلمين.. وكان هدفنا في الجيش أن ننتظم وأن نعمل من أجل مصر.. لذلك قلت للشيخ البنا: أحب أن أواجهك بصراحة، لقد قررنا أن يكون تنظيمنا من أجل مصر وحدها، وليس من أجل هيئة أو حزب أو شخص". توالت اتصالات السادات بالأحزاب والهيئات، كما تقول المذكرات، لمعرفة ما يفكر به الآخرون من أجل عمل ما ينفع مصر. ويلخص السادات رؤيته، عن التيارات السياسية والفكرية في مصر آنذاك، وفي مقدمتها الإخوان والشيوعيون والأحرار والوفديون. وهذه الرؤية، التي يزعم أنها مشتركة مع الرئيس عبد الناصر، تفسر للقارئ فيما بعد المواقف التي تم اتخاذها من قبل الضباط الأحرار وثورة يوليو، تجاه الأحزاب المصرية بصفة عامة، والأساليب التي تم اتباعها مع اليسار والإخوان على نحو خاص. وبالرغم من إنكار السادات لأي دور لجماعة الإخوان المسلمين، في إنشاء تنظيم الضباط الأحرار، بإشارته إلى أن لقاءه الأول مع المرشد حسن البنا، تم بعد تكوين التنظيم، إلا أن هذه المذكرات تخلو من أي إشارة، إلى كيفية إنشاء التنظيم أو المجموعة التي بادرت بالدعوة إليه. وهذا الأمر، كما يعلم القارئ، مازال مختلف عليه حتى عند مؤرخي ثورة يوليو وجماعة الإخوان. إرهاصات الثورة تحت هذا العنوان تكشف المذكرات عن حادثة، اعتبرها الرجل، من الإرهاصات الأولى لثورة يوليو. وذلك عندما هجم الإيطاليون على مصر من ليبيا، في الحرب العالمية الثانية، واشتبكوا مع الإنجليز في مناطق وقطاعات متعددة. وأمرت الحكومة المصرية في ذلك الوقت، بضغط من الشارع والبرلمان وشيخ الأزهر المراغي، وحدات الجيش الموجودة في مناطق الاشتباك، بسيدي براني، بالعودة إلى القاهرة، وعدم المشاركة في الحرب. وهو ما حمل الإنجليز الذين تعوزهم الأسلحة، على أن يطلبوا من الجيش المصري، ترك أسلحته في أماكنها، وقوبل ذلك بالرفض من ضباط الجيش. ولما كان الإنجليز في غاية الضعف أمام الهجوم الإيطالي، المتسلح بأحدث الأسلحة، فقد فكر ضباط الجيش المصري في الزحف على القاهرة، والاستيلاء عليها. إلا أن هذا المخطط كان مصيره الفشل كما تورد المذكرات: "لقد اتفقنا أن نتجمع وراء فندق مينا هاوس.. وهناك بعد أن تجتمع صفوفنا نوزع واجباتنا". وفي طريقي أنا إلى مصر تخلفت ليلة عند العجمي.. ولما وصلت إلى مينا هاوس حيث اتفقنا لم أجد أحداً.. وبعد ذلك ذهبت إلى سلاح الإشارة عند المعادي.. وقوبلت أسوأ مقابلة ووضعت تحت المحاكمة.. ولأول مرة في حياتي بكيت.. بكيت عندما وجدتني عاجز عن الدفاع عن نفسي. جمال مفجر يوليو ورغم الجدل الذي لم ينته أيضاً، حتى بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على تفجر يوليو، حول الأب الحقيقي لهذه الثورة، فإن أنور السادات الذي أذاع بيانها الأول، يعترف في هذه المذكرات التي أملاها على أنيس منصور، بأن جمال عبد الناصر هو مفجر ثورة يوليو، وأنه من اتخذ القرار بموعد قيامها وفق حسابات دقيقة راعى فيها كل الاعتبارات. ويقول السادات إن موعد الثورة قد حدد في يناير من العام 1952، في اجتماع للضباط الأحرار في منزل بمصر الجديدة. إلا أن قيام الملك بتكليف أحمد نجيب الهلالي بتشكيل وزارة جديدة، في 20 يوليو من ذلك العام، واختيار اللواء حسين سري عامر وزيراً للحربية، وهو الذي يعرف سبعة من أعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار، عجل بقرار عبد الناصر بضرورة قيام الثورة في 23 يوليو. خاصة بعد فشل عبد الناصر واثنان آخران من الضباط الأحرار، في اغتيال اللواء سري في منزله.. رغم إطلاق الرصاص عليه، ويبرر السادات ذلك بقوله: "كان موقف عبد الناصر أننا يجب أن ننتهي منه قبل أن يقضي علينا.. لقد جاءنا واحد يعرفنا جيداً.. فإما أن نقضي عليه أو يقضي علينا.. فإذا قضي علينا فإن هذا سوف يؤخر الثورة خمسين عاماً". تبرير الديكتاتورية بالرغم من القبول الواسع الذي وجدته ثورة يوليو من الشعب المصري، ومن شعوب المنطقة، لما حققته من إنجازات على صعيد تحقيق المساواة والعدل بين أبناء الوطن الواحد، وتخليص مصر من حكم الملك الفاسد، هذا بالإضافة إلى إجلاء المستعمر، والوقوف مع ثورات التحرر في المنطقة العربية والأفريقية، إلا أن وجهها الديكتاتوري ظل مسار انتقاد دائم. والسادات، في هذه الأوراق من مذكراته، يحاول تبرير ذلك بنشره وقائع ذلك الاجتماع، الذي تم في يوم 27 يوليو 1952، أي بعد نجاح الثورة بأربعة أيام. وخصص ذلك الاجتماع لمناقشة شكل الحكم في البلاد: "ديكتاتورية أم ديمقراطية؟".. وانتهى بحسب السادات إلى الطلب من الأحزاب أن تطهر نفسها لتتسلم مسؤولية الحكم.. وهو ما لم يحدث كما يقول هنا: "لكن الأحزاب لم تتلكأ فقط بل قامت بعملية تصفية لحسابات شخصية". والأهم من ذلك كله والأخطر.. إنهم رفضوا جميعاً قانون الإصلاح الزراعي.. فقد كان في مصر 90% من الشعب لا يملكون إلا قراريط أو لا يملكون مطلقاً.. بينما بقية الأرض تملكها الأقلية. كل الأحزاب المصرية رفضت القانون.. ورفضه الذين يريدون إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء.. وعلى رأس هذه الأحزاب حزب الوفد.. ولذلك كان أمراً حتمياً أن تتولى الثورة السلطة!. ولذلك شكلت وزارة محمد نجيب. وبسرعة بدأت الأحزاب تتسلل إلى الجيش.. على أساس أنه مادام بعض الضباط قد استطاعوا القيام بثورة.. فلماذا لا يحاولون أن يستميلوا ضباطاً آخرين ليثوروا على الثورة؟.. وقبضنا على الضباط المتآمرين مع الأحزاب". السادات يتشفع للشفيع! وبالرغم من أن السادات، في هذه المذكرات، يقدم للقاريء الصورة التي يرى بها سيرته الذاتية، وحياته كضابط في الجيش المصري وكرئيس لمصر، فإنه يؤرخ أيضاً لثورة يوليو، ولأخطر اللحظات التي عاشتها وشهدتها معها المنطقة. " الروس طلبوا من السادات التدخل لإنقاذ قادة الحزب الشيوعي السوداني، وعلى رأسهم الشفيع أحمد الشيخ " بدءاً من العدوان الثلاثي على مصر، ومروراً بنكسة يونيو وانتصار أكتوبر. كما قدم السادات شهادته النادرة عن أحداث يوليو 1972 بالسودان، والتي عرفت في الأدبيات السياسية السودانية، بحركة يوليو التصحيحية. وينسب السادات إلى نفسه فضل اكتشاف تلك الحركة في مهدها، ويسجل هنا محاولاته لتحذير الرئيس نميري، وإن كان يعتقد أن هدف هذه الحركة من الأساس، استهداف مصر عن طريق زرع دولة شيوعية على حدودها الجنوبية!. ويقول: "أرسلت برقية إلى جعفر النميري يوم 18 يوليو.. أطلب إليه أن يجيء بسرعة لأمر هام.. وكان رد نميري أنه سوف يجيء في يوم 23 يوليو.. ليحضر معنا المؤتمر القومي.. كان إحساسي أن الذي خسره السوفيت في مصر.. لابد أنهم يريدون تعويضه في السودان.. ولا انفصال لمصر عن السودان.. أو للسودان عن مصر.. فالذي يقع في أحد البلدين يصيب البلد الآخر". ويواصل السادات: "ثم عدت أطلب من النميري أن يحضر فوراً لأن الأمر عاجل.. ولا يحتمل التأخير بضعة أيام". وقال لي جعفر النميري إنه سوف يرسل لي زين العابدين عبد القادر.. عضو مجلس قيادة الثورة.. الموجود في القاهرة.. وطلب مني أن أحمله الرسالة التي أريدها. ونقل السادات تحذيره إلى النميري عبر زين العابدين، وأكد أنها ليست مخاوف بل حقائق يراها بأعينه!.. خاصة وأن أحد كبار رجال الاتحاد السوفيتي، كان موجوداً بالمنطقة. وسافر زين العابدين، كما يقول السادات، ليصل إلى الخرطوم عند حدوث الانقلاب، واعتقلوه وحبسو جعفر النميري. إلا أن الرئيس السادات يمسك بعد ذلك، عن نشر أي معلومات حول حقيقة الدور المصري في وأد حركة يوليو، ولم يعد في مذكراته لهذه الواقعة، إلا حينما يعرض للواسطة التي طلبها منه الروس، لإنقاذ قادة الحزب الشيوعي السوداني، وعلى رأسهم الشفيع أحمد الشيخ. ولكن الوساطة المصرية كانت قد جاءت متأخرة كما تقول المذكرات: "طلبت جعفر النميري على التلفون.. وكان بونا ماربيف جالساً إلى جواري.. وسمعني وأنا أتشفع لدى جعفر النميري حتى لا ينفذ الإعدام في الشفيع.. وجاء الرد من النميري على التلفون: إن الشفيع قد أعدم منذ ساعتين". نكسة يوليو.. ولاءات الخرطوم كان تأثير هزيمة يوليو على المنطقة العربية مدمراً، بعد ارتفاع سقف التوقعات، وألقى بظلال قاتمة على مستقبل الأنظمة الثورية آنذاك، في سوريا ومصر واليمن وغيرها. " موقف اندهش له عبد الناصر في مؤتمر الخرطوم 1967م، حيث قررت السعودية والكويت وليبيا دعم مصر بما يوازي دخل قناة السويس " ومع الهزيمة والشعور بالمرارة والهوان، ساد الفتور معظم العلاقات بين الدول العربية، خاصة وأن سياسة الأحلاف وتصنيف الدول في المنطقة، إلى رجعية وتقدمية، أودى بأي بصيص من الأمل في حدوث تضامن عربي، يعبر بالمنطقة من مرحلة النكسة. إلى أن جاء مؤتمر القمة العربية، بعد النكسة مباشرة، في الخرطوم. وتفرد المذكرات لهذا المؤتمر مساحة مقدرة، لأهمية النتائج التي ترتبت عليه: "استقبل السودان جمال عبد الناصر.. استقبالاً رائعاً أدهش العالم كله.. حتى أن مجلتين أميركيتين هما نيوزويك وتايم.. قد وصفتا هذا الاستقبال بأن السودان خرج لاستقبال المغلوب كما يستقبل الغزاة والفاتحين!. وفي مؤتمر الخرطوم التقى ناصر بقمة الرجعية العربية.. ولم تكن هناك شماتة في مصر.. ولا فرحة في هزيمة جمال. وإنما كان هناك موقف اندهش له عبد الناصر.. فقد قررت السعودية والكويت وليبيا دعم مصر بما يوازي دخل قناة السويس. ولم يكن عبد الناصر يتوقع أو حتى يطمع في أكثر من خمسة أو عشرة ملايين من الجنيهات. أما الملك فيصل فقد قرر أن يدفع خمسين مليوناً من الجنيهات.. وبروحه الرقيقة ومودة غامرة.. طلب من الكويت أن تدفع خمسة وخمسين مليوناً.. ومن ليبيا أن تدفع ثلاثين مليوناً. ولكن أهم ما تورد المذكرات عن نتائج ذلك المؤتمر هو المراجعات التي قام بها ناصر، في مواقف مصر مما كانت تسميهم، دول الرجعية. وترصد أن توجيهاته لأجهزة الدولة، خاصة المخابرات والإعلام، لم يتم تنفيذها، وجرى إهمالها وتجاهلها. إن هذه المذكرات تمثل سجلاً حياً، لفترة هامة من تاريخ مصر والمنطقة العربية، كما تمثل مدخلاً أساسياً لفهم الواقع، الذي ترزح تحت وطئته المنطقة العربية. ورغم أنها مذكرات رئيس، شغل المنطقة والناس بإقدامه على التوقيع منفرداً، على معاهدة سلام مع عدو، مازال يشهر سلاحه ويغتصب الأرض، وأدت إلى عزلته وبلاده عن محيطها الطبيعي ردحاً من الزمن، وأدت أيضاً إلى أن يموت مقتولاً وهو يحتفل بيوم نصره، إلا أنها تتسم بابتسار للحقائق، ربما يكون مخلاً، عندما تتطرق لوقائع وقضايا في غاية الأهمية. ورغم ذلك فأنها تحمل سمات تلك الأيام، من أول السبعينيات إلى أوائل الثمانينيات، أيام السادات.