لم يطابق ميلاد الجمهورية الثانية للسودان ظروف إعلان الجمهورية الأولى، التي تمثلت بالتجربة الهندية في التحرير، فخرجت سلمية أو كما قال قادة الاستقلال وقتها: "بدون شق أو طق مثل صحن الصيني". وعبرت الدولة الجديدة هذه المرة مخاضاً صعباً عاشه السودانيون، بين تجربة الحرب المؤلمة التي دامت لسنوات طويلة أيقن بعدها الشعب السوداني أن الخلاص من جرح الجنوب بيد أبنائه وحدهم وبغير ذلك لن يندمل الماضي المرير، وبين اتفاق سلام نيفاشا الذي مر بدوره بأوقات عسيرة في مرحلة الحل السلمي التي تخللها الكثير من الصعوبات السياسية بين شريكي السلام والحكم "المؤتمر الوطني والحركة الشعبية". وانتهى كل ذلك في التاسع من يوليو 2001 بإعلان ميلاد جمهورية جنوب السودان في مشهد تاريخي حرصت كافة القوى الدولية على حضوره وبذلك دلف السودان الشمالي إلى جمهوريته الثانية بفصل خريفي لم يكشف بعد الكثير عن نفسه. ترتيب البيت الداخلي جاء الحرص الحكومي واضحاً على بدء مرحلة سياسية مختلفة في الجمهورية الثانية التي أفصح عن ملامحها خطاب الرئيس عمر البشير أمام البرلمان بعد مرور 72 ساعة من تدشين الدولة الوليدة – جنوب السودان - وأظهر البشير رغبة قوية في التغيير الوطني. " البشير دعا إلى المضي في الحوار الوطني مع جميع مكونات المجتمع السياسية والاجتماعية والأهلية لتحقيق توافق وطني وصفه بالواسع والعريض حول رؤية استراتيجية جامعة " فقد تضمن خطابه التاريخي سبعة مبادئ تضمنت الالتزام بسيادة حكم القانون، وبسط العدل، وبث روح الوطنية، وضمان حقوق المواطنة، واتباع الشفافية في اتخاذ القرارات، والنزاهة في تصريف المال العام، والمحاسبة، واعتماد معايير الكفاءة. وليس ذلك فحسب فقد كشف البشير عن تشكيل لجنة قومية واسعة لإعداد وثيقة دستور دائم للبلاد تضم في عضويتها فقهاء في الدستور وخبراء في القانون والسياسة والاقتصاد، ومن ثم طرحه في استفتاء شعبي بعد إجازته من البرلمان. ودعا البشير إلى المضي في الحوار الوطني مع جميع مكونات المجتمع السياسية والاجتماعية والأهلية لتحقيق توافق وطني وصفه بالواسع والعريض حول رؤية استراتيجية جامعة، مؤكداً استمرار الحوار السياسي لتشكيل تفاهمات تشمل الحكم وآلياته وهياكله وكانت القوى السياسية المعارضة قد دعت بدورها الحكومة إلى عقد ملتقى وطني تشارك فيه كافة القوى السياسية السودانية للتوصل إلى صيغ وفاق وطني في المرحلة الجديدة من تاريخ السودان وينتظر أن تثمر تلك الدعوات من الحكومة وأحزاب المعارضة عن ميلاد رؤية جديدة للتداول السياسي في البلاد في حقبة تتطلب الكثير من الحوارات. وفي خطوة تزامنت مع توجيهات الرئيس البشير لجهاز الأمن والمخابرات بعدم الإبقاء على أي معتقل في سجونه ومراجعة التحقيقات لإطلاق سراح من لم يثبت تورطه في نشاط مع أية مجموعة مسلحة أو إرهابية، أطلق جهاز الأمن والمخابرات سراح كافة المعتقلين لديه في قضايا مختلفة والبالغ عددهم (60) شخصاً من بينهم (11) أجنبياً. وأوضح بيان للجهاز أن مديره محمد عطا المولى أصدر قراراً تم بموجبه إطلاق سراح كافة الموقوفين لدى الجهاز بالعاصمة والولايات، وأكد خلو إدارات الجهاز من أي موقوف، وتبدو المبادرة خطوة كبيرة تجاري الحقبة السودانية الجديدة ومتطلبات الانفتاح السياسي الذي ظلت تطالب به القوى السياسية المعارضة والتزم الحزب الحاكم خلال حملته الانتخابية قبيل الانتخابات العامة الأخيرة بالعمل على تحقيقه. وكان المستشار الرئاسي الدكتور غازي صلاح الدين قد تحدث "في حوار تلفزيوني بث مؤخراً بقناة النيل الأزرق" عن التغييرات الجذرية التي يزمع حزب المؤتمر الوطني إحداثها في صفوفه وفي طريقة الحكم وتقديم كوادر جديدة وترفيع العناصر الشبابية إلى مناصب تنفيذية في الحكومة. وأيد المستشار الرئاسي مصطفى عثمان إسماعيل ما ذهب إليه زميله بشأن إعادة ترتيب البيت الداخلي حيث أكد أن الخطة الجديدة تشمل إعادة هيكلة لمجلس الوزراء وأمانات الحزب الحاكم والدفع بكوادر شبابية. إطفاء الحرائق تواجه الجمهورية الثانية في مبتدأها الكثير من المسائل العالقة داخلياً وأبرزها الأوضاع في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان فضلاً عن منطقة (أبيي) وإقليم دارفور وهي مسائل كافية في حال عدم تداركها بشكل سليم لإشعال حرائق ربما تحول مشروع الجمهورية الثانية إلى رماد. " المراقبون يتوقعون أن تمثل مهلة الثلاثة أشهر بعد التوقيع فرصة أكبر لتحقيق السلام في الإقليم الجريح، في حال ممارسة المجتمع الدولي ضغوط جدية على قادة بقية الحركات للانضمام لعملية السلام " فمسألة إجراء المشورة الشعبية في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان اللتين أرسل إليهما رئيس دولة الجنوب سلفاكير ميارديت في خطابه بحفل إعلان دولته رسائل واضحة تؤكد أن أنظار الجنوب لاتزال معلقة بالمنطقتين، قذف البشير بناحيته برميل من المياه لإطفائها مبكراً بإعلانه تمديد فترة إجراء المشوره لإتاحة وقت كاف لأبناء الولايتين في إجراء المزيد من التشاور، بيد أن الخطر يبقى قائماً بالنسبة لجنوب كردفان بسبب الاتفاق الذي أبرمه مساعد الرئيس نافع علي نافع ورفضه البشير والحزب بعد ذلك. أما الوضع بالنسبة لمنطقة (أبيي) فلاتزال الرماديه هي سيدة الموقف بالنسبة له، فرغم اتفاق أديس أبابا بشأن نشر القوات الأثيوبية بدلاً عن قوات اليونميس، فإن المعضلة الحقيقية لاتزال قائمة بشأن من يحق له التصويت في الاستفتاء الخاص لتبعية المنطقة ويزيد من تعقيد الموقف أن طرفي النزاع يتعاملان مع الأزمة باعتبارها (جوكر) في لعبة التفاوض بشأن بقية الملفات العالقة بينهما. وفي منحى أخطر لاتزال مسألة سلام دارفور تشكل تحدياً لم يغلق بالكامل رغم التوصل إلى وثيقة سلام دارفور برعاية الوسيط القطري وتوقيعها مع حركة التحرير والعدالة بغياب حركات التمرد الرئيسية في الإقليم وهي حركتا العدل والمساواة بزعامة خليل إبراهيم وجيش تحرير السودان بشقيه مناوي وعبد الواحد نور. ويتوقع المراقبون أن تمثل مهلة الثلاثة أشهر بعد التوقيع فرصة أكبر لتحقيق السلام في الإقليم الجريح، في حال نجاح الحكومة في دفع المجتمع الدولي لممارسة ضغوط جدية على قادة تلك الحركات للانضمام لعملية السلام، وهو أمر ممكن في ظل التطورات على الساحة الإقليمية وخاصة ما يجري في الجارة ليبيا. إيقاظ الموارد المحلية تقع على عاتق الجمهورية الثانية مهمة صعبة تتمثل في إعادة الثقة للاقتصاد الوطني بعد انفصال الجنوب وخروج جزء كبير من عائدات نفطه من الموازنة العامة. " البشير كشف في خطاب ملامح الجمهورية الثانية عن حزمة إجراءات اقتصادية ومالية لمواجهة ما سماه نقص الموارد من خلال خفض الإنفاق العام وترشيد الصرف ومراجعة أولويات التنمية وتنويع الإنتاج وزيادة الصادرات " وما يزيد الأمر صعوبة هي التوقعات العالمية بحدوث صدمة اقتصادية في شمال السودان كنتيجة سريعة للانفصال. وخلال الحقبة الماضية نهضت الكثير من الدعوات نحو زيادة المساحات الزراعية لزيادة الصادر لاسيما وأن السودان يعتبر من أكبر دول العالم الزراعية وبرغم ذلك لم يتمكن من الوصول إلى نبوءة (سلة غذاء العالم). وتتكون معظم الصادرات السودانية من المنتجات الزراعية مثل القطن، الصمغ العربي، الحبوب الزيتية. بجانب الخضروات والفاكهة التي تصدر للدول الأفريقية والعربية. وتساهم الزراعة بنحو 34% من إجمالي الناتج المحلي. ويشغل قطاع الثروة الحيوانية المرتبة الثانية في الاقتصاد السوداني من حيث الأهمية إذ يمتلك السودان أكثر من 130 مليون رأس من الثروة وتمتلك الخرطوم أكثر من مليون رأس من الثروة الحيوانية بالإضافة للثروة السمكية في المياه العذبة والبحر الأحمر. وتتركز الصناعة في السودان في الصناعات التحويلية والتي تعتمد على المنتجات الزراعية حيث تزدهر كل من صناعة النسيج والسكر والزيوت والصناعات الغذائية في السودان بالإضافة للصناعات التحويلية الأخرى. ومن أهم الصناعات التحويلية الحديثة في السودان، استخراج (الإيثانول) المنتج من مصنع سكر كنانة. ويسجل هذا الأمر للسودان كأول دولة عربية منتجة للإيثانول. كما أنه انتعشت في السوادان الكثير من الصناعات الخفيفة والثقيلة مثل صناعة وتجميع السيارات بأنواعها المختلفة بمصنع جياد بولاية الجزيرة وصناعة الطائرات بكرري وصناعة الحديد والصلب وكثير من الصناعات الخفيفة الأخرى. وكشف البشير في خطاب ملامح الجمهورية الثانية عن حزمة إجراءات اقتصادية ومالية لمواجهة ما سماه نقص الموارد من خلال خفض الإنفاق العام وترشيد الصرف ومراجعة أولويات التنمية وتنويع الإنتاج وزيادة الصادرات وإحلال الواردات ومضاعفة الإيرادات وتشجيع الاستثمار الوطني والأجنبي بوضع «برنامج إسعافي» مدته ثلاث سنوات قادمة. وتستعد الحكومة لإصدار عملة جديدة خلال الأيام القادمة لمقابلة استحقاقات الانفصال وما ترتب عليه من إجراءات إنزال عملة خاصة بدولة جنوب السودان، وينتظر أن يطرح وزير المالية تعديلاً لقانون الموازنة الجارية لاستيعاب المتغيرات الجديدة دون فرض رسوم وضرائب جديدة. وأفادت تقارير اقتصادية بتزايد تدفقات الاستثمارات الأجنبية والعربية خلال العام الماضي حيث يتراوح حجم الاستثمارات الاجنبية حتى أكتوبر الماضي بين (3-2) مليارات دولار من دول آسيوية في مقدمتها الصين وتركزت أغلب هذه الاستثمارات في قطاع النفط والغاز والبنية التحتية، فيما بلغت جملة الاستثمارات العربية المسجلة طرف بنك السودان في الفترة بين 2000- 2010م حوالي 2،3 مليار دولار، وبلغت جملة الاستثمارات العربية من واقع دراسات الجدوى لنفس الفترة حوالي 30،2 مليار دولار، حجم القطاع الزراعي كان 2،2 مليار دولار والصناعي 14 مليار دولار فيما كان القطاع الخدمي 14 مليار دولار وارتفع هذا العام حجم الاستثمارات العربية في السودان إلى 30 مليار دولار. وينتظر من الحكومة تنفيذ مهمة صعبة تتمثل في تلبية احتياجات المواطنين والتفاعل مع طموحاتهم والمضي في تعزيز شراكات اقتصادية في مجالات البترول والمعادن والزراعة مع الصين ودول أخرى ومع الصناديق العربية. سقف التغيير وينتظر من السودان في جمهوريته الحديثة عبور درب من الصعوبات أبرزها الخروج من نفق العلاقات غير المستقرة مع القوى الدولية "الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي"، والتي تدعم بوضوح جارته الجديدة دولة جنوب السودان بينما لاتزال لديها تحفظات كبيرة على نظام الحكم في دولة الشمال مما يجعل العائق في علاقاتها معه يزداد صعوبة ويتطلب عملاً دبلوماسياً شاقاً ومرونة سياسية لتحقيق تقدم جديد في تسويق وجه الجمهورية الثانية لشمال السودان، بدلاً من الوجه القديم الذي دأبت على تشويهه أجهزة الإعلام الدولية. " السودان ينتظر في جمهوريته الحديثة عبور درب من الصعوبات أبرزها الخروج من نفق العلاقات غير المستقرة مع القوى الدولية "الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي" "وعلى الصعيد الإقليمي فهناك عمل مطلوب على نطاق دول الحزام الجواري، وكان البشير في خطابه المشار إليه قد أطلق تحدياً بأن السودان بحدوده الجديدة قادر على الإدارة والدفاع وتبرز هنا دور الحدود الجديدة في مسألتي الإدارة والدفاع، فالسودان خسر 25% من مساحته، وتراجع إلى المرتبة الثالثة من حيث المساحة بين البلاد العربية. حيث تبلغ 2.5 مليون كيلومتر مربع وبعد الانفصال أصبحت 1.881 مليون كيلومتر مربع. وفقد ثلاث من الدول المجاورة، هي: أوغندا وكينيا والكونغو الديمقراطية. وأصبحت حدوده مشتركة مع 7 دول من دول الجوار القديم بدلاً من تسع وهي: أريتريا وأثيوبيا وأفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا ومصر. ولابد من الانتباه إلى أن الدول السبع المذكورة تربطها اتفاقات سياسية واقتصادية وأمنية قيد التنفيذ وتبقى الحدود مع السودان الجنوبي 1973 كم كأطول حدود مشتركة مما يعني الالتزام الدائم بحسن الجوار لضمان الأمن في الدولتين. أما السكان فقد أصبح العدد (33.419.625) نسمة، تشكل نسبة 61.7% منهم الفئة العمرية أقل من 30 عاماً، مما يضيف ميزة وعبئاً للدولة الجديدة في التوظيف وإعادة هيكلة التعليم وعلى المستوى الإداري تراجع عدد الولايات السودانية من 25 ولاية إلى 15 ولاية، بينما تتجه الحكومة إلى استحداث ولايتين هما ولاية شرق دارفور، وعاصمتها الضعين، وولاية وسط دارفور، وعاصمتها زالنجي، بينما أصبح عدد المحليات 176 محلية، وهناك تغيير في الطريق فلايزال نصيب السودان الشمالي من مياه النيل ينتظر اتفاق الدولتين على نسب اقتسام الحصة السابقة أو الجلوس مع دول حوض النيل لتعديل الاتفاقات السابقة. وإلى حين تعديل الدستور وتشكيل الحكومة الجديدة التي يتوقع أن تكون وفاقية تجمع الأطياف السياسية السودانية يبقى سقف التغيير في شمال السودان قابلاً للرفع.