صناعة الدستور عملية مستمرة بطبيعتها، لأنه مجرد نصوص تتوافق عليها مكونات الدولة المعنية لتحديد كيفية إدارتها وماهية المرتكزات التي تنطلق عليها السياسات المختلفة المطبقة في شؤون تلك المكونات. وهو يحتاج لإجماع لازم لا تستقيم دونه أحوال الناس. ولهذا غالباً ما تخضع دساتير دول العالم للتعديل، فمن حق المجتمع أن يقوم بتعديل الدستور بالحذف أو الإضافة إلى مواده، متى ما احتاج إلى ذلك، وغالباً فإن إجراء تعديلات على دساتير دول العالم يتم تلبية لحاجة اجتماعية ماسة، أو سد نقص ما في بعض النواحي. المرأة والدستور هذه المقدمة تصبح مدخلاً مناسباً للحديث عن عملية صناعة الدستور السوداني المرتقب، والذي ينتظر منه أن يحسم الجدل المستمر منذ الاستقلال حول ماهية هذه الدولة وكيفية حكمها ومصادر تشريع قوانينها، وبالتالي الوجهة التي ستمضي إليها مؤسساتها. ؛؛؛ الشهور الماضية شهدت حراكاً سودانياً لافتاً في اتجاه الوصول إلى مشتركات حول الدستور القادم، وتصدت مجموعات وطنية ومنظمات طوعية لعملية إصدار مشاريع له ؛؛؛ وبحق فإن الشهور الماضية شهدت حراكاً سودانياً لافتاً في اتجاه الوصول إلى مشتركات حول الدستور القادم، وتصدت مجموعات وطنية ومنظمات طوعية وجماعات ضغط لعملية إصدار مشاريع للدستور القادم، هذا جنباً إلى جنب مع سعي الدولة لطرح وثيقة دستورية تصبح مدخلاً للحوار واستنباط نقاط التلاقي. ويبدو أن مسألة وضع المرأة السودانية تحديداً في نصوص الدستور القادم، ستصبح عنواناً للمرحلة المتقدمة من الحوار حول صناعة الدستور. فالمناقشات الفائتة حوت إشارات واضحة إلى ذلك، ومايعزز من هذه الفرضية أن تحليل الناشطات السودانيات لواقع المرأة في السودان والحالة الدونية التي عاشتها وتعيشها في ظل الأنظمة المتعاقبة على البلاد، يعود به إلى عدد من العوامل التي تتداخل وتتقاطع لتفرض هذا الواقع، وتحدد المساحة المتاحة لحركة النساء داخل الأسرة، في المجتمع والدولة بشكل عام. النص القاطع فتأثير الثقافة والدين والتقاليد والأعراف والمفاهيم النمطية لدور المرأة السائدة في منطقة ما، تصبح كما يؤكدن "أساساً لتفسير النصوص الدستورية والقانونية"، بل تعلو عليها في بعض الأحيان، كما أنها تؤثر في تنفيذ أية سياسات أو برامج تسعى إلى تطوير وتحسين أوضاع النساء. ؛؛؛ جميعنا نريد أن نخرج بوثيقة ودستور يخدم حياة الناس وينظم مسارها وأن يعبِّر عن هويتنا وأن تكون المواطنة فيه على أساس سليم وحق للجميع بعيداً عن الجهوية والعنصرية ؛؛؛ لذا يجب النظر والتعاطي مع كل عامل من هذه العوامل واتخاذ ما يلزم لإبطال أثره عن طريق النص القاطع في الدستور ومفسراً ومدعوماً بنصوص القوانين الأخرى ومتبوعاً بسياسات وخطط جادة. ويكشف الطرق الكثيف على هذا المحور تحديداً من محاور الدستور العديدة، أن هذه القضية من الأهمية بمكان، وأنها قد تجعل من ذلك التوافق المطلوب حول الدستور أمراً ممكناً أو في غاية الصعوبة. فالمناقشات التي دارت حتى الآن حول هذه القضية تكشف أن البون مازال شاسعاً بين ما تريده مختلف المجموعات الاجتماعية والسياسية والفكرية الناشطة في الحوار حول الدستور القادم. فدعاة الدولة المدنية يرون أن حال المرأة لن ينصلح إلا بمساواتها في كافة الحقوق مع الرجل وأن النص دستورياً على ذلك الأمر هو المدخل المناسب لتحقيق المساواة على أرض الواقع، ودعاة الدولة الدينية لا يرون خيراً في مطالب هؤلاء. ويؤكدون أن المرأة منحت كافة حقوقها الشرعية، من خلال الدساتير الماضية وخاصة دستور "2005"م، وأن الجري خلف توقيع السودان على اتفاقيات لا تتناسب مع معتقدات عموم أهله وتتناقض مع أخلاقه وقيمه لن يفيد، ولن تقبل الدولة بتضمينها في الدستور القادم. رؤية البرلمانيات والاتفاقيات الدولية التي تطالب بها الفئة الأولى برتوكول حقوق المرأة الأفريقية الموقّع من قبل الدولة في العام "2008"م، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة "1979"م، على اعتبارهما المحور الأساسي والشامل لقضايا المرأة والوعاء الحاوي للحقوق المدنية والسياسية والإنجابية والنوعية. ؛؛؛ حملة برلمانيات من أجل الدستور وتحت شعار (فلنساهم جميعاً في صناعته) قدمت رؤية ثاقبة من أجل تحديد وضع المرأة في الدستور ؛؛؛ والمهتم بالوضع القانوني للمرأة وتعديل الأنماط الثقافية والاجتماعية لسلوك الأفراد لأجل القضاء على التحيّزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على فكرة دونية أو تفوّق أحد الجنسين أو على أدوار نمطية مُقَوْلَبة للرجل والمرأة. وهذه المطالب ظلت رأس الرمح في نشاط الحركة النسائية السودانية لأعوام طويلة، كما أنها تتصدر الآن المناقشات والورش التي تقام من أجل تحديد وضع المرأة في الدستور، وقد أضحت موجهات ثابتة في كل الأوراق والوثائق التي صدرت عنها. وعلى الضفة الأخرى فإن الرؤية التي قدمتها الهيئة القومية للبرلمانيات السودانيات حول الدستور القادم وتحديداً وضع المرأة في نصوصه لدى زيارتها ولاية كسلا برئاسة دكتورة سامية حسن سيد أحمد رئيس الهيئة توضح ما ذهبنا إليه من تباعد. لأن تلك الرؤية قدمت في إطار حملة برلمانيات من أجل الدستور وتحت شعار (فلنساهم جميعاً في صناعته) برعاية أحمد إبراهيم الطاهر رئيس المجلس الوطني. دستور ينصف المرأة فقد قالت سامية لدى مخاطبتها ندوة في إطار الحملة إنها تهدف لوضع رؤية للمرأة في الدستور القادم من خلال إدارة حوار مع كافة قطاعات وتنظيمات المرأة في كافة بنود الدستور، وأننا في البرلمان علينا واجب في حراسة الحقوق والدفاع عنها ومزيد من المكتسبات. كما أننا نريد أن نخرج بوثيقة ودستور يخدم حياة الناس وينظم مسارها وأن يعبِّر الدستور عن هويتنا وأن تكون المواطنة فيه على أساس سليم وحق للجميع بعيداً عن الجهوية والعنصرية وتنصهر فيه كل الثقافات المتنوعة في البلاد. وأوضحت أن التغييرات المستمرة في الحكم أدت لعدم إشراك المواطن في صناعة الدستور، ودعت إلى إبراز وضع المرأة الحقيقي في الدستور وتعزيز دورها في حل القضايا والإشكاليات العالقة التي تهم المرأة والطفل خاصة المرأة الريفية. ؛؛؛ دعاة الدولة المدنية يرون أن حال المرأة لن ينصلح إلا بمساواتها في كافة الحقوق وأن النص دستورياً هو المدخل المناسب لتحقيقها ؛؛؛ وقدمت الدكتور عائشة الغبشاوي عضو الهيئة من جهتها تفصيلاً أكثر للصورة من حيث يرونها عبر تنوير حول دستور دولة المدينة وضرورة أن يكون دستور السودان القادم منطلقاً من المنطلق الإسلامي وتعميق الشورى في المجتمع. ودعت الغبشاوي إلى عدم الالتفات إلى ما يثير حفيظة الأمة الإسلامية متناولة دور المرأة في الإسلام ومكانتها وتكريم الدين الإسلامي لها. ولم تختلف الأجواء المحيطة فقد خاطب والي كسلا تلك الندوة قائلاً "إننا نريد أن يكون دستوراً نرتضي فيه بكتاب الله حكماً ونحتكم فيه جميعاً، مشيراً إلى أن عدم الالتزام بالحقوق الشرعية يعد سبباً للاختلاف في الموازين". هل تنجح الدعوات؟ وما بين تلك المطالب التي تحملها أغلب الجماعات النسائية الناشطة الآن في الدستور القادم، وما بين الرؤية التي تحملها أيضاً جماعات نسائية أخرى تتقدمها هيئة البرلمانيات السودانيات، كما تابعنا، تتسع صورة المشهد أكثر فأكثر. وربما تتسع أيضاً دائرة المخاوف من أن لا يحدث توافق على هذه القضية المحورية في الدستور. ؛؛؛ دائرة المخاوف تتزايد من أن لا يحدث توافق على قضية المرأة ولكن ليس من مصلحة الحكومة صياغة دستور يتصارع فيه الناس فيما بعد ؛؛؛وهذا ما حذرت منه أطراف عديدة تنتمي للتيارين النسائيين اللذان يسودا ساحة الحوار حول الدستور القادم. فقد اعتبرت الدكتورة هويدا العتباني الأمين العام لمركز دراسات المرأة، أنه ليس من مصلحة الحكومة صياغة دستور يتصارع فيه الناس فيما بعد. ولكن هويدا دعت في حوار منشور في صحيفة يومية، إلى أن تقدم منظمات المجتمع المدني رؤيتها الخاصة لوضع حقوق المرأة في الدستور، ورأت أن على منظمات المجتمع المدني أن لا تغرد خارج السرب، وأن تجتمع برعاية أو تحت إشراف وزارة التنمية والضمان الاجتماعي لجمع الرؤى المتباينة وتقدم رؤية مثالية موحدة. ووجهت هويدا نداءً إلى المنظمات والمراكز النسوية المختلفة بأن تتوحد خلف ذلك الهدف، لكي تكون الجبهة النسوية متفقة عندما تعلن الحكومة عن بداية صياغة الدستور الجديد. ولكن يبقى السؤال مطروحاً، هل تنجح دعوات مثل التي أطلقتها دكتورة هويدا لتوحيد الجبهة النسائية حول وثيقة واحدة تحدد الحقوق المطلوب تضمينها للمرأة في الدستور القادم، أم لا؟. وإن كانت الإجابة بلا فهل يعني هذا أن تتواصل حالة الاستقطاب المستمرة منذ عقود حول قضايا المرأة وحقوقها في البلاد، لعقود أخرى؟. أياً كانت الإجابة في الحالتين، فإن اجتماع الناس وتوافقهم حول أي قانون ينظم حياتهم، يظل أمراً مطلوباً بشدة ولن تستقيم بغيره الحياة.