قبل أكثر من خمس سنوات، وبعد معاناةٍ ممضة مع المرض كابدها رسام الكاركاتير عز الدين عثمان في جلدٍ وصبرٍ نادرين، رحل عن الدنيا، مخلِّفاً سيرةً طيبةً وإسهامات باهرة في مجال فن الكاركاتير لا تقدَّر بثمن. كان الراحل رائداً في رسم الكارتير في السودان، وأعطى هذا الفن النادر وقته وجهده الذهني والبدني. وارتبطت رسوماته القوية الساخرة بصحيفة "الأيام" العريقة في ستينيات القرن الماضي. جوانب خفية يشير بعض المختصين إلى أن فن الكاركاتير عموماً لا يزدهر إلا في الفترات الديمقراطية كما هو الحال مع أعمال عز الدين التي راجت في فترة الديموقراطية الثانية، إلى الدرجة التي قال فيها الزعيم إسماعيل الأزهري إنه يبدأ قراءة الصحيفة من صفحتها الأخيرة حيث يستقر كاركاتير عز الدين. ؛؛؛ فن الكاركاتير لا يزدهر إلا في الفترات الديمقراطية كما هو الحال مع أعمال عز الدين التي راجت في فترة الديموقراطية الثانية ؛؛؛ شقيقه الصحفي هاشم عثمان يكشف عن جوانب أخرى من شخصيته، إذ كان الراحل بالنسبة لهم عميد الأسرة، فهو أكبر إخوانه وأخواته. وكان يتعامل مع إخوته باعتبارهم أصدقاء في المقام الأول قبل أن يكونوا أشقاء، "ورغم فارق السن فهو كان يعطيك إحساساً بأنه صديق وليس أخاً أكبر". كان من طبيعته إشاعة المرح وسط أفراد الأسرة بقفشاته وملاحظاته الساخرة، وكان مهتماً بالإطلاع دائماً، فهو يقرأ باستمرار، وكان ومنذ أن يصحو من النوم يبدأ يومه بالقراءة. عز الدين، يقول هاشم، كان بمثابة المرشد الذي يرجع إليه الجميع في الصغيرة والكبيرة سواءً من أشقائه الصغار أو من أبنائه، فهو صاحب المشورة والمرجع. مدرسة في أدب الصورة من ناحية أخرى، فإن قيمة مساهمته الفنية في مجال الكاركاتير فتتمثل في موهبته العظيمة حسب الفنان التشكيلي حسن موسى الذي يعتبر الراحل أستاذه وصديقه في نفس الوقت. فعز الدين الفنان التشكيلي الموهوب والرسام صاحب الحس النقدي المرهف، حسب موسى، مدرسة بحالها في أدب الصورة كنوع متميز من أنواع العمل السياسي الحديث. ؛؛؛ عز الدين الفنان التشكيلي الموهوب والرسام صاحب الحس النقدي المرهف، حسب موسى، مدرسة بحالها في أدب الصورة كنوع متميز من أنواع العمل السياسي الحديث ؛؛؛مساهمة عز الدين تجسدت في فن الكاريكتير، وهي مساهمة رائدة على أكثر من مستوى: سياسي وجمالي واجتماعي. ذلك أنها انطلقت في المبتدأ كمبادرة نقدية فردية، لكن الوعي الاجتماعي التقدمي الذي ظل يغذيها ويحفّزها على تعاقب السنين وعلى اختلاف الأنظمة السياسية . كان لا بد له أن يجعل من رأي عز الدين الشخصي قضية عامة تهم الجميع، بل ويكسبه مشروعية سياسية نوعيتها الأصيلة تتجاوز بمراحل مشروعيات أغلب رموز العمل العام السياسي في السودان الحديث، بحسب موسى. الأثر الفني والسياسي لعز الدين عثمان سيبقى علامة مهمة لكل من يخوض في ماء العمل العام بوسيلة الإبداع. رائد في مجاله من جانبه، يعتبر الفنان التشكيلي النور حمد، الراحل رائداً سودانياً في مجاله (الكاريكاتير) مثلما الكاشف رائد في مجاله (فن الغناء الحديث) ومثلما الصلحي وشبرين رائدين في مجالهما (التشكيل). واستطرد: "لا يمكن أن يذكر الناس حقبة الديمقراطية الثانية من غير أن يذكروا عز الدين عثمان. بعد أن سقط نظام الفريق عبود في أكتوبر 1964 وعادت الصحافة الحرة إلى الظهور بعد غياب دام ست سنوات، وعلى رأسها صحيفة "الأيام"، ظهر معها عز الدين عثمان وليداً خرج إلى الوجود بأسنانه مكتملة في فمه. كان كاريكاتير عز الدين أقوى من أي عمود يكتبه صاحبه في تلك الحقبة. وكان الكثيرون يشترون "الأيام" كي يطالعوا كاريكاتير عز الدين. ؛؛؛ عز الدين وجَّه سهام نقده الطريف والنافذ للرئيس الأزهري، للسيد الصادق المهدي، ولنصر الدين السيد. ولم يسلم سياسي من السياسيين من لذعاته ؛؛؛سهام النقد الطريف عز الدين وجَّه سهام نقده الطريف والنافذ للرئيس الأزهري، للسيد الصادق المهدي، ولنصر الدين السيد. ولم يسلم سياسي من السياسيين من لذعات عز الدين عثمان. وقال النور "لا أعرف رسام كاركاتير سوداني ذاع صيته مثلما ذاع صيت عز الدين عثمان". لكنه يستدرك بالقول: غير أن البلد فقده وهو في أوج تألقه، ليس بالموت الذي غيبه مؤخراً، وإنما بالهجرة بعد أن علا التضخم وضمر عائد المرتبات ولمعت حياة الخليج في السبعينيات. ويحلل النور حمد تجربة الراحل في الخليج بقوله إن عز الدين كان قد بنى رؤيته وتعبيره ودلالاته على تفاصيل الحياة السودانية، وعلى الأمثال السودانية، وعلى روح الثقافة السودانية، وعلى حس الفكاهة السوداني. لذلك، لم يلاقي عز الدين في صحيفة "البيان" الإماراتية من النجاح ما لقيه في السودان. هذا إلى جانب أن فن عز الدين قد ازدهر في حقبة شديدة الحيوية من حقب الديمقراطية في السودان. ويقرر النور أن فن الكاريكاتير لا يعيش في غير أجواء الديمقراطية. ؛؛؛ الفنان عز الدين واجه، بسبب جرأته في نقد الحكومات، متاعب كثيرة حيث تعرض للاعتقالات والفصل عن العمل على مختلف العهود التي حكمت السودان ؛؛؛ قبس من سيرته تقول سيرته الذاتية، إنه ولد في الخرطوم في أحد أحياء العاصمة العتيقة عام 1933، وعمل فترة بعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة في شركة "ميشيل كوتسا" في العاصمة الخرطوم. وظهرت رسوماته التي تتميز بالسخرية ومصادمة الحكومات، لأول مرة، في صحيفة "الأخبار" التي كان يملكها الصحفي الراحل رحمي سليمان، ثم انتقل إلى جريدة "الصحافة"، ثم إلى "الرأي العام"، إلى أن توقفت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي نتيجة لقرار من الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري. وواجه عز الدين، بسبب جرأته في نقد الحكومات، متاعب كثيرة حيث تعرض للاعتقالات والفصل عن العمل على مختلف العهود التي حكمت السودان. ويعتبر النقاد أن رسوماته في صحيفة "الأيام" هي الأكثر جرأة، وهي التي اكسبته الشهرة الواسعة. ومن أشهر أعماله تلك التي تسخر من الزعيم الأزهري، عندما أقدم على حل الحزب الشيوعي السوداني من داخل البرلمان السوداني في منتصف الستينيات. فقد صوَّر زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، على هيئة مسحراتي يحمل طبلة في ليلة رمضانية وهو ينادي "أبو الزهور خرق الدستور"، في إشارة إلى الأزهري. ومن أعماله التي لا تُنسى، عندما تم اعتماد "منيرة رمضان" كأول امرأة لمنصب حكم كرة قدم بالسودان في منتصف السبعينيات. التقط عز الدين بحسه الاجتماعي المرهف الحادثة لينشر عملاً يصوِّر سيدة سودانية في زي حكم كرة، تضع يديها على خصرها، وهي تخاطب لاعباً تعمَّد الخشونة مع آخر، قائلة في نعومة: "ضاربو ليه.. يضربك الضريب"، وهي شتيمة نسائية سودانية.