تم فجر الأحد الماضي 8 ديسمبر الجاري، إعلان التشكيل الوزاري الجديد للحكومة السودانية بعد ترقب طال. وقد تناوله عدد كبير من الكتاب والمحللين في الداخل والخارج بالتعليق والتحليل، وكان بعض ما ورد عبارة عن كتابات ترقب وتوقعات. وتضمن بعضها الآخر تحليلات آحادية النظرة، إما مع أو ضد التشكيل الجديد، وبعضها لم ير في التعديل غير تغيير للوجوه، بينما اشترط بعضهم نجاح التشكيل الجديد بتنفيذ البرنامج والمنهج. وعلى الرغم من تقديرنا لكل تلك الكتابات والتحليلات واحترامنا لها، إلا إنها في تقديرنا افتقدت إلى عمق النظرة ودقة التحليل ومحاولة قراءة ما حدث، ومن خروج بعض الأشخاص ودخول البعض وبقاء البعض الآخر ودلالاته، ومن ثم ما يمكن أن يتم قراءته للمستقبل. وسوف نتناول تحليل التشكيل الوزاري بموضوعية بحتة ليس فيها (مع أو ضد)، ونقر بأنه ليس لدينا أي معلومات خاصة، إنما يقوم هذا التحليل على المعلومات المتاحة للمتابعين. الواقع السياسي نحن نقرأ حسب المعطيات المحيطة بالواقع السياسي، مستصحبين التاريخ البعيد والقريب في محاولة فهم ما جرى وما يجري وتفسيره، ومن ثم توقع ما سيحدث. ولعل أبرز ما يتسم به هذا التشكيل الوزاري، ذهاب آخر مجموعة تبقت من الحرس القديم في الحركة الإسلاميه، ويشمل هذا ذهاب علي عثمان محمد طه ود.نافع علي نافع ود.عوض الجاز. ولقراءة هذا وفهمه لا بد من إلقاء نظرة على تاريخ الحركة الإسلامية البعيد والقريب لمحاولة فهم معنى ذهاب آخر هذه المجموعة من الحرس القديم للحركة الإسلامية. وإذا جاز لنا أن نقسِّم الحركة الإسلامية إلى أجيال، فنجد هنالك الجيل الأول؛ جيل المؤسسين وجيل الآباء وهم المجموعة التي ارتبطت بإنشاء الحركة في خواتيم الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. وهؤلاء لم يبق منهم إلا القليل، منهم من استجاب لنداء ربه، ومنهم من بقي بعيداً أو معتزلاً الحركة، (ونعني بالحركة الإسلامية، الجسم من الحركة الإسلامية الذي تطور من الإخوان إلى جبهة الميثاق إلى الجبهة الإسلامية القومية ثم إلى المؤتمر الوطني)، ومنهم من بقي في حزبه بعيداً طوال سنين المدافعة في داخل الحركة الإسلامية. الجيل الثاني أما الجيل الثاني من الحركة الإسلامية، فهم أولئك الذين كانوا في الجامعات السودانية، وخاصة من جامعة الخرطوم في فترة الستينيات، وهم الجيل الذي تم على يده بناء وقيام وتطور الحركة، وهم الذين دفعوا كثيراً من عمرهم في منافحة ومدافعة الحركة الشيوعية وحتى الأحزاب الطائفية. وهم أيضاً الذين من بعد ذلك تولوا قيادة الحركة سواءً كان بالصدام مع الشيوعيين في بداية عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري وفي أول مدافعة لنظام نميري بعد ذهاب الشيوعيين وقيادة الصراع المسلح ضد نميري في العام 1976. وكذلك هم القيادات المؤثِّرة التي تصالحت مع نميري، وهم الذين قادوا فترة الانتشار أثناء تصالحهم مع نميري. وهم الذين كانوا القادة أثناء فتره الديمقراطية الثانية، وقادوا الصراع مع الحزبين الكبيرين من 1985 إلى 1989. وهم الذين كانوا في القيادة بعد استيلاء الحركة الإسلامية على الحكم في العام 1989، وهم الذين تولوا كل سوءات الحكم (وش القباحة) مع الأحزاب الأخرى. كما أنهم هم الذين كانوا على رأس القياده أثناء فترة المفاصلة مع المؤتمر الشعبي. بداية التساقط هذه المجموعة (الجيل الثاني من الحركة الاسلامية)، بدأت (تتساقط) بعد استيلاء الحركة الإسلامية على السلطة في العام 1989، فمنهم من ذهب مغاضباً، ومنهم ذهب معتزلاً، ومنهم من تم إقصاؤه فاعتزل العمل السياسي، ولم يبق منهم إلا هذه المجموعة التي ذهبت، أو (فلنقل تم الإطاحة بها) في التشكيل الوزاري الأخير. ومن ذلك نستطيع أن نصل أو أن نستنتج الآتي: ذهاب هذه المجموعة فيه إشارة ورسالة إلى الأحزاب الأخرى كافة، بإمكانية التوافق معها، وربما يكون ذهابها وفق اتفاق غير معلن (سري) مع بعض القوى السياسية التي أبدت عدم الممانعة في المشاركة في السلطة ولكنها تشترط ذهاب بعض الوجوه. كذلك ربما يكون ذهاب هذه المجموعة جزءاً من إعلان سابق للرئيس بأنه يعد خطة لحلحلة كافة مشاكل السودان، ويكون ذهاب هذه المجموعة ثمناً لقبول الآخرين. وربما فيه إشارة أو رسالة للخارج على المستوى الإقليمي والدولي بالإعلان عن ذهاب ما يعرف (بصقور) الحركة الإسلامية. دلالات الأشخاص هذا ما يمكن أن نستنتجه من ذهاب المجموعة ككل، ولكن إذا أخذنا دلالات الأشخاص ربما نجد ما يدعم هذا الاتجاه. وذهاب علي عثمان محمد طه سواءً ذهب مغاضباً أم راضياً، فإن ذلك له مجموعة من الدلالات. وأهم هذه الدلالات، أن طه يمثل النموذج المثالي للجيل الثاني من الحركة الإسلامية والذي تحمل معظم سوءات الحركة الإسلامية، وبالتالي أصبح رمزاً لعدم القبول من معظم القوى السياسية، خاصة بعد أن أصبح عرّاب النظام بعد ذهاب د. حسن الترابي. وعلي عثمان على الرغم من مقدراته العقلية والفكرية، إلا إنه لم يستطع أن يملأ الجانب الفكري في الحركة الإسلامية بعد ذهاب الشيخ الترابي واستخدام مقدرته التنظيمية في تشكيل مركز قوة تجمع حوله (المدنيين) في مواجهة (العسكريين) إذا جاز التعبير. ولما غابت الفكرة والتي كان يقوم بها الشيخ الترابي وكانت محل تحترام أو نقول (عصا) طاعة للحواريين والأتباع، حل محلها صراع الأشخاص الذين لا تمايز بينهم سواءً كان في السن أو في العلم أو في المعرفة. الجيل الثالث وعلى ذلك، كان إبعاد علي عثمان منذ المؤتمر الأخير للحركة الإسلامية، ومعه تم إبعاد بعض من الجيل الثاني الذي أشرنا إليه، وبعض المشاغبين من الجيل الثالث للحركة الإسلامية (جيل السبعينيات في الجامعة). وبذلك يكون إحلال الفريق أول بكري حسن صالح محلاً لعلي عثمان إنهاءً لحالة ازدواجية التنظيم في الحركة الإسلامية، ومن ذلك نستنتج الآتي: توحيد القرار في التوجه الإسلامي وفق الرؤية العسكرية والتي يغلب فيها تغليب الجانب الوطني والانضباط العسكري مع الاحتفاظ بقومية القوات المسلحة التي بقيت رمزاً لوحدة السودان، رغماً عن ما ترمي به الأحزاب الحركة الإسلامية بأنها جيَّرت القوات المسلحة لمنسوبيها. وربما يشير تولي الفريق أول بكري لمنصب النائب الأول مع ذهاب علي عثمان مع بقية ما تبقى من الجيل الثاني للحركة الإسلامية، ذهاب للأصوات المناكفة من الحركة والمؤتمر الوطني مع سهولة توحيد القرار وفق الضوابط العسكرية والتي تتيح النقاش في آية مسألة معروضة للنقاش قبل اتخاذ القرار، ولكن عندما يصدر القائد القرار ما على الجميع إلا الامتثال وتنفيذ التعليمات. الرؤية الوطنية ولعل ذلك تكون فيه إشارة إلى أن القوات المسلحة مثلما انحازت إلى الحركة الإسلامية في العام 1989 وذلك لأنها كانت المعبِّر عن الرؤية الوطنية في حالة التدهور الأمني المريع الذي كانت تعيشه البلاد مع انتشار حركة التمرد وتمددها شمالاً. وبعد أن أتاحت الفرصة كاملة للحركة الإسلامية في الحكم وصلت قيادة القوات المسلحة متمثلة في الرئيس ونائبه الحالي ووزير الدفاع الفريق أول عبدالرحيم محمد حسين (وسوف نتحدث عنه لاحقاً)، إلى أن الأمر لا يستقيم إلا بمشاركة القوى السياسية كافة ولذلك كان هذا التغيير. وإحلال أ.د.عندور مكان د.نافع يمثل إحلالاً للجيل الثالث من الحركة الإسلامية محل الجيل الثاني (الجيل الثالث من الحركة الإسلامية نعني به الذين كانوا في الجامعات في فترة السبعينيات من القرن الماضي)، وذلك يعني الآتي: ليس للجيل الثالث من الحركة الإسلامية عصبية قوية للحركة الإسلامية كما للجيل الثاني الذي يعتبر أن الحركة الإسلامية (ملكهم)، هذا الجيل منفتح على بقية الأحزاب ولم يتحمل قدراً من المرارات مع الأحزاب الأخرى يسارها ويمينها. رجل دولة وفما يتعلق بشخصية الدُّكتور غندور شخصياً، فسمته العامة رجل دولة، هذا إضافة إلى ما يتمتع به من سعة أفق وصدر واسع، إضافة إلى علاقات مميزة مع كافة القوى السياسية سواءً كان مع حزب الأمة أو المؤتمر الشعبي أو الاتحادي الديمقراطي أو مع اليسار أو حتى مع قيادات الحركات التي تحمل السلاح. لذلك نجد أن تولي غندور مهام الحزب يصب فيما ذهبنا إليه في النقاط السابقة، بأنه وجه مقبول لدى القوى المعارضة، وبالتالي يمكن بواسطته الوصول إلى تفاهمات مع كافة القوى السياسية الأخرى للمساهمة في حلحلة أزمات السودان. وإسناد مهام الحزب لغندور يجعلنا نذهب إلى أن ننفي أن ما حدث هو إنقلاب عسكري ويدعم اعتبار الحركة الإسلامية قوة مهمة ومؤثرة في حلحلة مشاكل السودان، ولكنها ليست القوى الوحيدة. ونحن نتناول هذا التحليل لا نستطيع أن نتجاوز من ذهب من الأجيال الحديثة في الحركة الإسلامية، والإشارة هنا إلى ذهاب د.سناء حمد وماجد سوار وغيرهما، وذلك فيه إشارة على ذهاب المتشددين من الحركة الإسلامية سواءً من القدامى أو من الأجيال الحديثة، وفيه إشارة في نفس ما ذهبنا إليه أن الفترة القادمة هي فترة القبول بالآخر، وفترة الانفتاح على القوى المعارضة لمشاركة الجميع في حكم السودان. الأصوات المرتفعة ولا نستطيع أن ننهي تحليلنا هذا دون الإشارة لبقاء وزير الدفاع في منصبه، على الرغم من كل التوقعات والتسريبات والأصوات المرتفعة حتى من داخل الحركة الإسلامية التي كانت تنادي بضرورة ذهاب وزير الدفاع، وذلك للآتي: بقاء وزير الدفاع يمثل هذا التناغم والاتفاق في الرؤى في داخل المؤسسة العسكرية وفي داخل الجسم الذي تولى عملية تنفيذ استيلاء الإنقاذ على السلطة في العام 1989، فطيلة هذه الفترة لم نسمع ولم يصدر تصريح أو تسريب لخلاف بين هؤلاء الرجال الثلاثة (الرئيس ونائبه الجديد ووزير الدفاع). العلاقة الحميمية بين الرئيس ووزير الدفاع، تجعل الرئيس مضطلعاً على كل كبيرة وصغيرة في داخل القوات المسلحة، وذلك لأن وزير الدفاع يطلع الرئيس على كل شيء وبالتفاصيل المملة ولا يقدم على فعل أي عمل عسكري إلا بعد اقتناع أو إقناع الرئيس بما يريد عمله. لذلك، فإن الرئيس مضطلع على كل إيجابيات وسلبيات العمل العسكري ويعلم تماماً أسباب القصور وأسباب الفشل، وبالتالي هو يعلم تماماً أن أسباب الفشل ليس من بينها قصور أو ضعف أداء وزير الدفاع، بل يعلم تماماً أنه لولا وجود وزير الدفاع وتفانيه في عمله لما كان الأمر على ما هو عليه الآن. المتاح والممكن ورغم عدم قبول الرئيس وحتى عدم قبول وزير الدفاع بما هو عليه الحال، ولكنه المتاح والممكن فيما هو متاح من إمكانات وظروف حرب تحيط بالسودان. ومشكلة وزير الدفاع أنه لا يستطيع أن يتحدث في الإعلام للكافة عن كل ما يدور في وزارته، وذلك من طبيعة العمل العسكري، لذلك فهو يتحمل الأذى حتى من ذوي القربى، ولكن عزاءه أن الرئيس يعلم كل ما يدور ويحيط ويعلم صدق وحرص وإقدام وزير الدفاع. ولعل عدم التغيير كذلك لم يشمل وزارة الخارجية، وذلك يرجع للأداء المميز للوزير علي كرتي وما قام به في فترة توليه الوزارة، وتبقى الإضافة الحقيقية للوزارة هي السعي لإسناد منصب وزير الدولة د. صبحي فانوس الذي رفض تولي المنصب. ولعل ذلك يؤكد ما ذهبنا إليه بالرسائل الموجهة للداخل والخارج على السواء بتولي فانوس للمنصب فهو من أقباط السودان وفي ذلك إشارة مهمة، كذلك هو وجه مقبول في الخارج إضافة إلى علمه الغزير وتخصصه الذي يمثل إضافة حقيقية إلى وزارة الخارجية. رسالة وتمهيد ومن ذلك نستطيع أن نخلص إلى أن ما حدث من تشكيل وزاري جديد فيه رسالة إلى الداخل والخارج بأن الذي حدث تمهيد لخطة تستوعب كافة القوى السياسية بإنهاء الصراع في السودان، وليس هنالك استبعاداً لأحد ولا إقصاءً لأحد إلا من أبى. إن الذين يتحدثون عن أن الذي حدث هو تغيير للوجوه لم يستطيعوا أن يقرأوا الذي حدث جيداً، فلا يمكن أن يكون الذي قام بكل هذه الجراحة الحادة والمؤلمة في حزبه يكون قاصداً تغيير الأشخاص فقط من غير أن يكون هنالك تغيير في المنهج. ربما من النتائج الآنية والقريبة لهذا التغيير، أنه يساعد في امتصاص (الململة) التي كانت في المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، والتي كانت تنادي بضرورة تغيير الوجوه وإحلال الأجيال محل بعضها، ولعل ما صاحب هذا التعديل من تصريحات بأن أي شخص لن يمكث أكثر من دورتين في موقعه يساعد على ذلك. وعلى ذلك نستطيع أن نتوقع أن يحدث تقارب كبير بين أحزاب المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي وحزب الأمة القومي والحركات المتمردة وحتى قبائل اليسار، هذا إذا لم يحدث الاتفاق على تكوين حكومة قومية لإدارة الانتخابات. من المتوقع كذلك أن يحدث إختراق كبير في ملف التفاوض مع حركات دارفور ومع قطاع الشمال بشأن المنطقتين جبال النوبة والنيل الأزرق.