رشا عوض في عالم السياسة الخارجية للدول لا توجد مبادئ ارثوذكسية صارمة، ولا توجد رومانسيات حالمة، منطق مصلحة الدولة المعنية هو الحاكم، لا يشذ عن قاعدة المصلحة في ادارة العلاقات الخارجية إلا السودان الذي أدار علاقاته الخارجية طوال تاريخه المستقل بمنطق الرومانسيات اليسارية والقومية العربية تارة، ثم بمنطق الشغب الايدولوجي الاسلاموي تارة أخرى. مصر ترتبط مصالحها باستتباع السودان، ووسيلتها الوحيدة لذلك هي حكم عسكري ضعيف وغير وطني وفاسد بحيث يسمح فساده بتدفق الذهب المهرب والماشية الحية والمحاصيل الاستراتيجية إلى مصر بأثمان زهيدة ودون أي ضوابط تراعي مصلحة السودان، حكم تابع يجعل صوت السودان صدى لترديد الصوت المصري في قضايا مياه النيل وغيرها، ومن مصلحة مصر أن يتعطل الانتاج الزراعي في مشاريع السودان المروية من النيل حتى تذهب إليها حصته من المياه ، وهذا أمر قديم جداً، مثلاً عندما كان ثوار ثورة 1924 يرفعون في تظاهراتهم صورة الملك المصري فؤاد الأول ويهتفون بوحدة وادي النيل تحت التاج المصري كان زعيم الأمة المصرية سعد زغلول يجتهد في اقناع الانجليز بالتراجع عن تنفيذ مشروع الجزيرة! أما الاورطات المصرية التي كان ينتظر الثوار مساندتها فقد أغلقت منهم مخازن السلاح واستدعيت إلى مصر وتركت ثوارنا الرومانسيين يحصدهم رصاص الانجليز! لذلك لا داعي للدهشة بسبب تحالف مصر مع الاسلامويين أو احد تياراتهم في السودان، نعم، مصر استأصلت الاخوان المسلمين من الحكم بعملية جراحية رغم انهم وصلوا إلى السلطة هناك بانتخابات ذات مصداقية بل هي أول انتخابات ديمقراطية حقيقية في تاريخ مصر، استأصلتهم لأن " عقل الدولة" في مصر ناضج ويقظ ويعلم أن جرثومة الإسلام السياسي مدمرة للاوطان، وتمكنها من أي وطن لا يعني سوى تمزيقه وإرجاعه قرونا إلى الوراء، ولكن تمكن الإسلام السياسي في السودان خصوصاً في نسخته الكيزانية الموجودة حالياً والتي قوامها الخونة والارزقية المستعدون حتى لبيع أمهاتهم مقابل السلطة والمال والتشفي في الخصوم هو المؤهل لخدمة المصالح المصرية ولذلك تدعم مصر الكيزان عبر دعمها للجيش، وتدافع عنهم في المحافل الاقليمية والدولية عبر تمسكها بهيمنة الجيش المسيطر عليه بواسطة الكيزان على مستقبل السودان، وعبر سعيها بصورة منهجية لاستبعاد القوى المدنية الديمقراطية من أي منبر اقليمي معني بالشأن السوداني . سيطرة الكيزان على السودان تعني أن يرزح تحت العقوبات والعزلة الدولية، وأن تظل مصر هي نافذته الوحيدة على العالم وهذا يدر على مصر ارباحاً اقتصادية بمليارات الدولارات، اما السياسات الاقتصادية للكيزان فهي كفيلة بإخراجه من دائرة الانتاج الزراعي والصناعي واغراقه في الاقتصاد الطفيلي فلا يستفيد شيئاً من الميزات التي يوفرها له سد النهضة، ولو نجح مشروع التقسيم وانفصلت دارفور واجزاء من كردفان سيكون ما تبقى من السودان مجرد محافظات جنوبية لمصر، لذلك ليس هناك تناقضاً في تحالف مصر مع تيار كيزاني امني عسكري في السودان في ذات الوقت الذي تحارب فيه الكيزان المصريين ممثلين في جماعة الاخوان المسلمين لدرجة استئصالهم من السلطة التي وصلوا اليها بالانتخابات، فالذي يحكم الدولة المصرية في علاقاتها الخارجية هو مصالحها، وهذا أمر طبيعي جداً لا يدهش أحداً في هذا العالم إلا السودانيين الرومانسيين! الذين يتحدثون عن منطق المصلحة – وهو بالمناسبة منطق مشروع وموضوعي في السياسة – يتحدثون عنه باستنكار وتجريم اخلاقي! الواجب هو ان ننطلق كسودانيين من أرضية مصالحنا الوطنية السياسية والاقتصادية ونجعلها أهم معيار يحكم تحالفاتنا، والعمل في هذا الاتجاه طويل وشاق، يبدأ بفصل الرومانسيات عن العلاقات الخارجية، وفصل الخبل والعبط الايدولوجي عن الاقتصاد أسوة بفصل الدين عن الدولة. هل موقف مصر الداعم للحكم العسكري في السودان والداعم لتيار كيزاني أمني وعسكري لا يمكن ان يتغير؟. حسب المعطيات الراهنة لا يمكن أن يتغير إلا تحت ضغوط دولية واقليمية كبيرة على مصر تجبرها على الكف عن إعادة تمكين تيار امنوعسكركيزاني من رقبة السودان، وذلك يحدث في حالة توفر إرادة دولية واقليمية حقيقية ونافذة لمنع الكيزان من السيطرة على السودان، ليس لسواد عيون السودانيين بل لتحقيق مصالح مرتبطة بأمن البحر الأحمر والقرن الافريقي. على المستوى السوداني الوطني وهذا هو الأهم، يجب تنظيم كتلة تاريخية تشكل ترساً منيعاً ضد عودة الدكتاتورية العسكرية والنظام الكيزاني لحكم السودان بالقوة. ويجب أن لا نفهم الدعوة لاحتشاد السودانيين للدفاع عن مصالحهم كدعوة عداء مطلق لمصر، بل هي دعوة لمعادلة سياسية جديدة في الداخل السوداني قادرة على ان تجعل الخيار الوحيد لمصر هو إعادة هيكلة مصالحها في السودان وفق منهج جديد يجعل أساس العلاقات المصالح المشتركة وليس الاستغلال، التكافؤ وليس الاستتباع! ومن ناحية استراتيجية فإن بناء المصالح على أسس عادلة يجعلها مستدامة، طريق الاستغلال والاستتباع ربما يبدو في الظاهر طريقاً سريعاً لمكاسب كبيرة ولكنها لن تكون مستدامة ومأمونة خصوصاً في رمال السودان المتحركة والمتغيرات الكبيرة على مستوى الوعي السياسي في السودان فضلاً عن متغيرات الإقليم . السودانيون ولا سيما النخبة السياسية يجب أن تدرك أن السياسة المصرية تجاه السودان لن تتغير بالحكمة والموعظة الحسنة وحديث المجاملات، بل تتغير عبر خطاب وطني جرئ يكشف للشعب كل المسكوت عنه تاريخياً والان في علاقات البلدين بشرط أن يكون كل ذلك مسنوداً بكتلة سياسية صلبة ومؤثرة في الداخل، وعبر حلف دولي واقليمي ذكي مساند للسودان.