د. الوليد آدم مادبو «حملتي ليست ضدّ الأغنياء، بل مع أولئك الذين يُعاقَبون لأنهم فقراء.» — زهران ممداني كتب لي صديقٌ عزيز عقب فوز زهران ممداني بمنصب عمدة بلدية نيويورك يقول: «نرى فيه مستقبل الإسلام في أمريكا الجديدة». فأجبته قائلاً: «بل أراه مستقبل العدالة الاجتماعية في العالم»! كانت تلك الرسائل المتبادلة مدخلاً لتأمل أعمق في رمزية هذا الفوز الذي أحدث دوياً في الأوساط السياسية والفكرية، ليس في نيويورك فحسب، بل في العالم أجمع. فزهران ممداني، الذي ينتمي إلى عائلة ذات جذور هندية-أوغندية ومسار فكري يساري، لم يصعد إلى منصبه عبر بوابة الهوية، بل عبر مشروعٍ اجتماعي يناهض الظلم الطبقي والعنصرية البنيوية*، ويعيد تعريف السياسة بوصفها التزامًا أخلاقيًا تجاه الإنسان قبل أن تكون انحيازًا إلى ملة أو جماعة. في مقابلةٍ معه عقب فوزه، قال ممداني: «*ينبغي أن تنتقل سياستنا من منطق الإحسان إلى منطق التضامن*؛ من إنقاذ الناس إلى الوقوف معهم.» هذا القول يلخّص التحول الجوهري في وعي الأجيال الجديدة من السياسيين الذين لم يعودوا يرون السياسة ساحة لتوزيع المنح والمكارم، بل فضاءً للتشارك الإنساني والعدالة المتبادلة. فالإحسان فعل فوقي يصدر من قويٍّ إلى ضعيف، أما التضامن فهو موقف أخلاقي يصدر من إنسانٍ يرى في الآخر امتدادًا لكرامته الخاصة. إن ممداني لا يقدّم نفسه بوصفه مسلمًا شيعيًا أو مهاجرًا إفريقيًا، بل بوصفه ابنًا للطبقة العاملة في كوينز، يتحدث عن الإسكان والتعليم والمواصلات العامة، عن العدالة الاقتصادية والمناخية، عن إعادة الثروة إلى دافعي الضرائب، وعن بناء مدينةٍ لا يُقصى فيها أحد بسبب لونه أو دينه أو أصله. هذه هي *اللغة التي فهمها الناخب الأمريكي الجديد: لغة الكرامة المشتركة*، لا الخصوصية المغلقة. ولعل اللافت أن كثيرًا من المسلمين السنّة ظلوا ينظرون إليه بعين الريبة لأنه شيعي، في حين أن نسبة معتبرة من اليهود — رغم تحفظاتهم الأيديولوجية — أبدوا احترامًا صادقًا لمبدئيته وعدله. هذه المفارقة تكشف أن معيار الانتماء لم يعد الدين، بل الضمير. وأن الإنسانية — في لحظة انكسارها الرأسمالي الحالي — تبحث عن خلاصها في أخلاق العدالة لا في طقوس المعبد. لم يأتِ ممداني من فراغ. إنّه ثمرةُ تحوّلٍ عالميٍّ أعمق نحو ما يمكن تسميته ب «اليسار الإنساني» — يسارٍ لا يرفع شعارات الثورة بقدر ما يسعى لاستعادة معنى الكرامة في الحياة اليومية. إنه الامتداد الطبيعي لحركاتٍ تقدّمية قادها *بيرني ساندرز وأوكاسيو*-*كورتيز* في الولاياتالمتحدة، *وجيريمي كوربن* في بريطانيا، *وجان-لوك ميلينشون* في فرنسا، *وغابرييل بوريتش* في تشيلي — جميعهم يمثلون محاولة لإحياء الضمير الاجتماعي في عالمٍ سقط تحت هيمنة رأس المال. إن العدالة التي ينادي بها ممداني ليست «عدالة لاهوتية» مشروطة بالإيمان، بل عدالة دنيوية قائمة على المساواة في الفرص والحقوق والعيش الكريم. وهي تعيد إلى السياسة معناها الأخلاقي المفقود، حيث يصبح الاهتمام بالبيئة والفقير والمهاجر عملاً دينياً بامتياز، ولو لم يُسمّ بهذا الاسم. لقد قال ممداني في إحدى ندواته بعد الفوز: «إن كانت الاشتراكية تعني منح كل إنسان فرصة العيش بكرامة، فربما تكون هي الإيمان في أنقى صوره.» ختامًا، لقد آن لنا أن نفهم أن الدين لا يحتاج إلى سلطةٍ ليُفهَم، وأن العدالة لا تحتاج إلى مذهبٍ لتتحقّق. من ممداني نتعلم أن *الإنسان أوسع من عقيدته*، وأن المدينة العادلة لا تُبنى على لونٍ واحدٍ من الإيمان، بل على تنوّعٍ يحتفي بالاختلاف بوصفه ثروةً لا تهديدًا. إنّ فوز ممداني ليس نصرًا للمسلمين، بل نصرًا للإنسان، في زمنٍ غدت فيه الإنسانية الخاسر الأول في معادلات السوق والقوة. *فإذا كانت نيويورك قد اختارت ممداني، فليس لأنه مسلم، بل لأنه إنسانٌ لم يتخلَّ عن إنسانيته* في عالمٍ يطلب من الجميع أن ينسوا ذلك.