*من شأن الحرب وكل حرب إن شئت أن تخلق ذلك الشعور الممض بعبء الحياة، وأن تورث ذلك الشعور بالإعياء الروحي حتى لدى أكثر الناس حماسة لها وإيمانا بعدالة قضيتها. ومع ذلك فالحرب وجه من وجوه الحياة، نقيضها إن لم تعجبك العبارة، تماما كالموت الذي يلازم الحياة ممسكا بيدها لا يفلتها. ولذلك فإن الحروب على بؤسها هي مما لا فكاك منه ولا مهرب متى اختلت معادلة السلم في أي أمة أو في أي زمان، ومتى استحكمت نوازع التسلط وطلب السلطان من جماعة فحدثت نفسها بحيازة السلطة غلابا، وسيلتها الفتكة البكر في طلبها في قول أبي الطيب. وما سيرة قيام الممالك وسقوطها في تاريخ ما قبل الديمقراطية والبرلمانات إلا سيرة باطش ينشيء ملكا يدوم ما شاء الله له أن يدوم حتى يأتي من هو أشد بطشا وأوسع حيلة فيهدم ملكا ويقيم آخر. ذلك هو تاريخ السلطة.. تاريخ صولجانها المغروس في برك الدم. *يطلب السودانيون اليوم وقف الحرب من جراء إعيائها ويفرحون بما يتناهى إلى أسماعهم من انعقاد مفاوضات غير مباشرة في واشنطن بين طرفيها أو – إذا راق لك تصديق نفي مجلس السيادة انعقاد تلك المفاوضات – فإن ثمة مساعي تجري في هذا السبيل سينجلي أمرها بعد حين ويفتضح سرها ويتمخض حقها من باطلها. وقد يبدو لك أنه ليس من حصافة الرأي في شيء أن يعمد (السيادي) إلى التستر تحت العبارات حمالة الأوجه في شأن هو ألصق بحياة الناس من كل شأن وأوجب عليها أن يكونوا هم لا غيرهم محلّ نجواها وسرها. *وأيا ما كان الأمر فإن مسألة الطلب الملحاح بوقف الحرب التي تعبر عنها دوائر شتى لهو طلب يغيب سؤالا جوهريا وهو: كيف يمكن أن يؤدي وقف الحرب إلى تحقيق السلام؟ فوقف الحرب الحرب وتحقيق السلام شيئان مختلفان جدا، لأن مسألة وقف الحرب تتصل بوقف (العمليات العسكرية) في جميع الجبهات، أما تحقيق السلام فهو متصل (بقضية السلطة) التي هي تحديدا (موضوع التفاوض) وهذا يعني أن وقف حرب ما، لا يلزم عنه ضرورة تحقيق السلام. بل إن وقف الحرب المنطوي على سلام معلول هو في الواقع هدنة ليس إلا. فكل سلام لا تعتدل معه موازين السلم، ثم يصار لاستدامته بتنحية مستفزات الحرب يكون سلاما يحمل في داخله حربا تتحين فقط أوان اندلاعها. *وشاغل الناس اليوم هو وقف الحرب على نحو يشغل عن سؤال السلطة وهو ما عليه مدار القتال. فالدعم السريع الذي التقط (مقولة الهامش) دون أن يبذل فيها (عرقا فكريا) توسع في اصطناع عقيدة قتالية تحرض على (تأسيس) سودان جديد. والسودان الجديد الذي يطلب (تأسيسه) حميدتي هو عالة فيه على جون قرنق الذي كان قد طلبه بصدق من قبل، وعلى نحو ما أسهمت أيضا حركات دارفور المسلحة ابتداء من العام 2003 في تأسيس وعي حاد بالمظلمة السياسية والتنموية إلى ما قبل تشظي الحركات وتحولها إلى (مطايا) في حيازة ما تيسر من (سلطة وثروة). ومع ذلك فإن الدعم السريع ( بوصفه أحد منتجات 56 ) قد راكم من القوة والثروة ما أخرجه من إبط صناعه) وأصبحت عين قائده محمد حمدان دقلو على ( الكرسي الأول) وقد استغرب في بعض أقواله لم هو مقصور على قوم دون قوم. أبسبب العجز؟ إذاً العاجز من لا يستبد، وما كان حميدتي عاجزا يوم اندلعت الحرب. ولا هو تناسى حلمه، فقد كان شديد الأنس بفكرة السلطة في (النوم والصحيان) يدلك على ذلك استعداده لتحور الدعم السريع من (قوة متمردة) إلى (كيان سياسي) يظلل خليطا من الحركة الشعبية وبعض الكيانات الصغيرة والأفراد الذين (ينمون عادة) في كنف السلطة و (ليان تربتها)، هذا التحور يكشف عن خطة (تخرج الدعم السريع) من ( عسكريته رغم استمرار المعارك) إلى ( حالة سياسية اسمها تأسيس) منطقها في البقاء ليس اعتراف المعترفين بها بل منطق القوة على الأرض ولا شيء آخر. *هنا مربط الأفراس والجمال كلها. فالمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة لن توقف الحرب إلا بمناقشة (سؤال السلطة) لمن تكون؟ وكيف؟ وبمن؟ أهو اقتسام يعيد الجنرالين في ترتيب جديد يبتسمان هذه المرة فوق الركام ومقبرة بعرض الوطن وطوله تماما كعهد الناس بهما من قبل؟ يومها سيسأل الناس إذا حصل ذلك علام كانت الحرب إذن وفيم؟ هل سيقبل آل دقلو إخراجهم من المشهد وهم الذين انعجن طموحهم بطموح غيرهم ممن يرون السودان (مغنما) يستحق صرف مليارات الدولارات لحيازته؟ أليس الدعم السريع ومن يقف وراءه ومعه هو الطرف الأصيل في موضوع الحرب فكيف سيخرج وله رعاة وداعمون؟ السؤال بعبارة أكثر دقة: من سيرتب أمر السلطة التي ستفضي إلى (السلام)؟ أهمو السودانيون المغيبون عن أجندة التفاوض الذين أعلى درجات علمهم بالمفاوضات خبر (أبتر) ؟ وأعلى درجات يقينهم نفي سيادي كتوم غتيت ؟ أهم الشعب الذي لا برلمان (انتقالي) له كشأن بقية (مستويات السلطة الانتقالية)، يشارك في صنع القرار، يقر، أو يستدرك، أو يرفض.. من؟ من يوقف الحرب في السودان؟ وإذا أوقفها من (يهندس) السلطة الجديدة المترتبة على وقف الحرب؟ إن المفاوضات إذا كان لها أن توقف الحرب فإنها ستعني شيئا واحدا وهو إعادة تموضع الدعم السريع داخل بنية السلطة الجديدة. فهل الشعب السوداني مستعد لهذه الفرضية؟ فليس (القوى الاقليمية) وحدها التي تستثمر في حميدتي قائد الدعم السريع. هناك (القوى المدنية) التي ما رفعت في (صمودها الديمقراطي السلمي) بندقية في وجه الجيش السوداني لكنها أيضا ما غادرت يوما ( ظلال بنادق حميدتي). جعلت منه (ضرغامها) لصيد الديمقراطية وهو الذي ما أخفى طيلة السنوات الانتقال التي أعقبت إسقاط البشير احتقاره لهذه ( القوى المدنية) والتهوين من شأنها، ولكن عليك أن تتذكر وتصدق الحكمة الشعرية التي تقول: يقضى على المرء في أيّام محنته حتى يرى حسناً ماليس بالحسن وقد وقعت بكليهما حميدتي والقوى المدنية إكراهات الضرورة حتى بدا لبعضهم أن (الدعم السريع) قوة لا يمكن تجاوزها، ورأى آخر أن ( الدعم السريع) يصلح أن يكون (نواة) للجيش السوداني الجديد. واحتضن حميدتي (القوى المدنية) اضطرارا وهو الذي كان تعويله أول عهده على ( القوى التقليدية). *من سيركب من هذا الخليط غير المتجانس (السلطة الجديدة) المحققة للسلام؟ إن الذين لزموا العبارة المسكينة ( لا للحرب) يتعامون جهلا أو قصدا عن أن الحرب هي التجلي العنيف لديناميات متصارعة لا تتوقف بصافرة حكم كما تتوقف مباراة في كرة القدم. والذين يطالبون بوقف الحرب يتعمدون القفز على (سؤال السلطة) وهو الفاعل الأساسي في الحرب. ولذلك فإن نداءات وقف الحرب دون الخوض في معترك قضاياها يفضح إما سذاجة سياسية لدى من ينادي بذلك وإما محاولة لاستغفال الشعب وراء قناع إنساني لا يقول معه كلاما واضحا يحسن السكوت بعده في شأن الدعم السريع وقائده الفريق دقلو. وربما كان من المهم أن يسمع الشعب السوداني رأي ( صمود) مثلا في حميدتي وأين موقعه في الجملة السياسية بعد عبارة ( لا للحرب). *أما الفريق البرهان قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الحاكم بسلطة الأمر الواقع، فهو يدير قضية الحرب والسلم بكثير من المكر وبالحد الأدنى من (مشاركة الشعب السوداني في السلطة) لأن (الدنيا حرب). وهي حرب ما زلت على عقيدتي فيها وهي أنها حرب من أجل (الحفاظ على كيان الدولة السودانية) والدولة أصلحك الله غير الحكومة. الدولة بوصفها كيانا ليست محلا للصراع أو الاجتزاء فإذا وقعت الحرب بذلك صح للشعب أن يقاتل في حرب عادلة من أجل حماية دولته. الدولة فوق (السلطة) التي هي محل (الصراع). وفي حربنا الناشبة ملمح (استعماري) لا يخفى على من رزق عقلا وبصيرة يستهدف(كيان الدولة) ويسعى لوضعها تحت سلطانه عبر (وكلائه سواء كانوا في بزة عسكرية ولا ( ببدل وربطات عنق) ، ولأن الحرب كذلك فهي حرب لا تنقصها مبرراتها الأخلاقية. غير أن الحرب تحت إدارة البرهان قد تتحول إلى (أداة عسكرية) تنحي سؤال الحكم المدني وتجعل من حالة ( الاستغراق في الحرب وحيل إطالة أمدها) تكتيكا مزهدا في الحكم المدني بالكلية، خاصة إذا كانت (القوى المدنية) تقدّم أداء وخطابا بائسا يكرس ( الحالة العسكرية) باعتبارها خلاصا أبديا ليس من (الدعم السريع) فحسب ولكن من الحكم المدني نفسه. *هنا وهنا فقط سيختلط عليك الأمر في فرز ما للشعب وما لقيصر وما يراد أن يكون لحميدتي. *فالبرهان يدرك تماما أن سؤال ( السلطة والحكم المدني) هو أول ما سيواجهه مع نهاية الحرب. ولذلك فإن ( قضية السلطة) وليس وقف الحرب هي ( أم القضايا). ومع ذلك فإن ( عدة شغل ) القوى المدنية الديمقراطية ما تجاوزت الترداد الكورالي لمقولتي: (لا للحرب) و (لازم تقيف). وقد تدفع الميكافيلية السياسية المدنيين الديمقراطيين إلى احتضان ( غير الديمقراطيين) كأدلاء لقطع (مفازة التحول الديمقراطي) في السودان. وذلك سرى كانت أولى ضحاياه النزاهة والاستقامة الفكرية والأخلاقية. وهما رأسمال السياسي الوطني. في هذه اللحظة من اللايقين تجاه المستقبل ومن الاستهبال السياسي ستجد أيها المواطن الطيب أن لديك من الأسئلة حول الحرب والسلام و( السلطة المغيب موضوعها) أكثر مما توفر الإجابة عليها أي جهة تراك ( صاحب حق أصيل) من حقه أن يعلم أي مستقبل ينتظره وينتظر أبناءه؟ ومن يصنع ذلك المستقبل ومن يشيد قواعده بنيانا صلبا لا صدوع فيه ولا سقوف تنهار عليك.؟ *إن التفكير الرغائبي الذي يشيع في عقلك وقلبك ناشدا (وقف الحرب) غدا، يجب ألا يغيِّب عنك حقيقة أن وقف الحرب هو في المحصلة النهائية حسم (لسؤال السلطة) الذي لا يحدثك عنه جماعة ( لا للحرب). فالمفارقة في هذا المسلك الشائك ستكمن في مشهد سياسي ( قد يحدث) وستفرك عينيك المتعبتين مرتين قبل أن تقول كأني رأيت هذا من قبل.. والمفارقة الثانية هي أن السلطة التي ستكون محل شد وجذب وقطع ووصل وفتق ولصق لتركيب ( سلطة ما بعد الحرب) هي (سلطتك) أنت.. أنت ولا أحد غيرك. فاحذر أن يعود بك التاريخ القهقرى فإنه فعل يرتد مأساة وخيبة. لأن الحديث عن (إيقاف الحرب) جملة تبقى ناقصة حتى يحدثك من يقول بها عن (السلطة) كيف تكون؟ ممن وبمن؟ واحذر فكرة (تأبيد الانتقال) حذرك ( التاتشر) فكلاهما قاداك إلى المقبرة أكثر مما قاداك إلى وساع الحياة..