[email protected] لاأخفى أننى كنت من أنصار الترابى يوما ما , وقد دافعت عن أفكاره وأطروحاته السياسية بل عملت على نشرها وسط الأصدقاء والزملاء ونجحت فى تجنيد بعض الشباب فى صفوف تنظيم الحركة الإسلامية . فى فترة التسعينات كنا فى مقتبل العمر شبابا يافعين مازالت أفكارنا فى طور التكون بحثا عن الحقيقة وكانت شعارات الجبهة الإسلامية تملأ الأرجاء , وتجيش فى سبيل ذلك مؤسسات الدولة لنشر أفكارها , كان التلفزيون القومى يبث اللقاءات مع الدكتور حسن الترابى ويخرج علينا برنامج ( فى ساحات الفداء ) أسبوعيا ناقلا أخبار الحرب فى الجنوب ومايصاحب ذلك من شحن عاطفى وديني مكثف , وفى معسكرات الخدمة الوطنية كانت توزع علينا كتيبات المشروع الحضارى من تأليف الشيخ حسن الترابى ومحمد الأمين خليفة وأحمد ابراهيم الطاهر وأحمد على الأمام وغيرهم من قيادات الحركة الإسلامية , بينما كان شيوخ من تيار الحركة الاسلامية يلقون المحاضرات على المجندين والتى كان الحضورإليها إلزاميا , أذكر أننى قد غفوت فى أحدى هذه المحاضرات المملة فقام حينها أحد العساكر( التعلمجية ) بضربى بعى غليظة فى الرأس تسببت لى فى ألم حاد. كان الشيوخ يلقون الخطب المبشرة بالحكم الإسلامى والتمكين للمؤمنين الصابرين ويدعون إلى قيم الإستشهاد والزهد فى الحياة الدنيا , وكثيرا ماكنا نتساءل كيف يدعو لمثل ذلك أشخاص يركبون أفخم السيارات ويتناهى إلى مسامعنا مقدار ثرواتهم الطائلة الناجمة عن الفساد والإعفاءات الجمركية والضريبية !! كيف يجتمع الجهاد والفداء والإستشهاد فى مجموعة من الإسلاميين تتزايد ثرواتهم كل يوم على حساب شعب كامل .!! فى الجامعة التقينا بالترابى فى لقاءات طلابية وحدثنا بحديثه المملوء بالشعارات الدينية التى كنا ننساق وراءها بحكم تربيتنا الدينية , كان ذلك فى العام 2000 حيث ما لبث الإسلاميين أن دخلوا فى خصام حاد تفرقت بسببه القاعدة الطلابية – الحركةالإسلامية الطلابية – إلى قسمين يؤيد كل منهم فريقا , كانت وفود من الجانبين تجتمع بالطلاب لتشرح موقفها وقد إجتمعنا بعلى عثمان نائب الرئيس فى إحدى تلك الإجتماعات, ذهب معظم الطلاب باتجاه الترابى (الشيخ حسن ) , بينما وقفت على الحياد أراقب مايجرى ومازالت تساؤلاتى عن الفساد لاتلقى إجابة مقنعة سوى الحديث عن التمكين للأتباع والتبرير بأن هذه الأموال يستفيد منها سودانيون فى النهاية !! لم أكن متعاطفا مع الترابى نظرا لما ارتبط بأنصاره من فساد مالى وممارسات التعذيب . مالبث الخلاف أن تصاعد بين الفريقين , ورأيت الزملاء يزج بهم فى السجون والمعتقلات كمازج شيخهم بذاته فى السجن . تحول حال الحركة الطلابية من الدعوة إلى جهاز أمنى مهمته التبليغ عن المعارضين وأنشطتهم وتصنيف كل طالب حسب إنتمائه السياسي , حاول أفراد من جهاز أمن النظام تجنيدى للعمل معهم ولكننى رفضت ذلك مبدئيا لتعارضه مع المبادئ التى دخلت من أجلها الحركة الإسلامية , وابتعدت بعدها عن العمل السياسي طيلة فترة الجامعة . من تجربتى القصيرة والمتشككة فى الحركة الإسلامية تبين لى وبجلاء زيف الشعارات التى رفعتها وبشرت بها , ولم يكن الأمر لكثير من أتباع النظام سوى وسيلة للتكسب وتجارة بالدين من أجل غايات دنيوية بحتة . كان الترابى – ومازال – يدعو لفقه الإجتهاد ,وهو فى حقيقة الأمر محاولات للخروج بفكره ومشروع سياسى على أساس إسلامى , لم يجد الترابى فى التراث الإسلامى مايستحق الإحتفاء فعمل على التنظير أو الإجتهاد – كمايحب أن يقول – والذى لم يخلو من الإقتباس من أفكار غربية وضعية مع تغليف كل ذلك بالآيات والأحاديث حتى تخرج فى ثوب إسلامي قشيب يعجب أنصاره المتحمسين لكل ماهو ديني , سمى ذلك بمشروع التأصيل وكان فى جوهره قولبة للأسماء الحديثة والعصرية فى كل النواحى السياسية والإجتماعية وتحويلها لمسميات عربية ذات طابع تراثي , تجلى التجديد فى ظهور مفاهيم جديدة مثل فقه التمكين وأسلمة الفن ونظام التوالى السياسى وغيرها من المسميات التى لاتخلو من طرافة جعلتها مثار جدل وتندر , خرج أحد الإسلاميين بفكرة تجديدية عظيمةوهى (أسلمة الطمبور ) فقال عندها أحد ظرفاء المعارضة إنهم يريدون (طمبرة الإسلام )..!! ففى مجال الإقتصاد عجز الإسلاميون فى الإتيان بجديد يذكر , بل فشلوا فى إدارة مشاريع الدولة نتيجة لقانون الصالح العام وتصفية الكفاءات , وتبنت الدولة سياسة السوق الحر وخصخصة الشركات الحكومية دون وضع إعتبار لمصالح العاملين فتشردت بفعل ذلك ألاف الأسر , وبيعت العشرات من مؤسسات الدولة الرابحة والخاسرة على السواء فى صفقات شابها الفساد والغموض , وواصلت البنوك العمل بنظام الفائدة تحت مسميات شتى , وأنشئ ديوان الزكاة وهو جهاز جبايات ضخم ملئ بالفساد يشوب عمله الكثير من أعمال الظلم والتعدى على حقوق المزارعين والتجار . شرعت الدولة فى إنشاء عشرات الجامعات دون إمكانات كافيه وتخطيط , حيث حولت العديد من المدارس الثانوية لجامعات فى ماأسماه النظام ثورة التعليم العالى , أهتمت بالكم على حساب الكيف و الجودة , وتسبب ذلك فى مخرجات تعليمية ضعيفة وتدنى فى المستوى الأكاديمي للطلاب وتراجع حاد فى ترتيب الجامعات السودانية عالميا .حاول التنظيم أسلمة الأزياء بفرض أنماط معينه من الزي الإسلامى على طالبات الجامعات جوبهت بالمقاومة والرفض . أنشأ النظام كذلك أجهزه حكومية عدة مثل صندوق دعم الطلاب والمعاشات وكلها أجهزة تمتلئ بالفساد والتعدى على المال العام , بينما أنشئ الدفاع الشعبى والشرطة الشعبية كقوات ميليشيا ذات طابع ايديولوجى مهمتها حماية النظام فى المقام الأول .. أنشأالترابى فى المحصلة العامة نظاما شموليا دينيا يحتكر الحقيقة والحديث بإسم الله مستندا إلى شرعية الحاكمية الإلهية ,وعليه كان كل من يعارض النظام فى خانة الضلال وضعف الإيمان والعمالة والإرتزاق والطابور الخامس . أفرزت سياسات الترابى وأفكاره فى عشرية الإنقاذ الأولى – والتى أصبح أحد ضحاياها –قوانين الصالح العام التى شردت الآلاف من الكفاءات المهنية والإدارية , وانهارت بفعلها الخدمة المدنية العريقة , وأنشأ قانون الأمن العام الذى يعتدى على الحقوق الفردية ويجلد النساء بتهمة إرتداءالبنطلون و بإسم الدين . إنتشرالفساد بحجة التمكين لأتباع التنظيم الحاكم وتمثل ذلك فى شكل إعفاءات جمركية استجلب بها البعض فاخر السيارات من دبى وجدة , وإعفاءات ضريبية مكنت لتجار التنظيم تحقيق أرباح طائلة على حساب غيرهم من كادحى المواطنين , بينما تحصل طلاب الإخوان على المنح الدراسية وفرص الإبتعاث والتدريب الخارجى على حساب غيرهم من الطلاب , بل عمل النظام فى فترة ما على إدخال أنصاره إلى الجامعات بنسب متدنية تقل عن نسب القبول العام بحجة ذهابهم إلى الجهاد . استقبل الترابى فى بدايات الإنقاذ عتاة الإرهابيين الإسلاميين ونصب زعيما عليهم فى ماأسماه المؤتمر الشعبى العربى الإسلامى , ووقف نظامه مع صدام حسين فى غزوه للكويت ليفقد السودان بذلك حلفاؤه فى الخليج الذين كانوا من كبار الممولين لمشاريع التنمية فى البلاد . الآن وبفعل النظام الذى جاء به الترابى وبفعل نفس الشعارات والمبادئ التى جاء مبشرا بها تجتاح البلاد الحروب الأهلية , ويعيش الملايين من مواطنيها فى معسكرات النزوح واللجوء , وتصنفنا المنظمات الدولية فى ذيل قوائم التنمية البشرية والشفافية ,بينما نتربع – ودون فخر- قوائم الدول الفاشلة والفاسدة , وبفعل كل ذلك تتصاعد مؤشرات الهجرة الجماعية للكفاءات المهنيةجراء الإنهيار الإقتصادى وانعدام الحلول السياسية لمشاكل البلاد وتمسك قيادة النظام بالسلطة ولو على حساب شعب كامل . مهماحاول الترابى التملص من كل مايجرى فإنه يتحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية لكل أفعال النظام , وكان من الأشرف له إعتزال العمل السياسى العام والتركيز على نشاطه الفكرى والدعوى . حكمة اليوم : (سوف نحارب ولو قضينا على كامل الشعب السودانى ) … وزير الدولة للإعلام .