قبائل وأحزاب سياسية خسرت بإتباع مشروع آل دقلو    النصر الشعديناب يعيد قيد أبرز نجومه ويدعم صفوفه استعداداً للموسم الجديد بالدامر    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    ريجي كامب وتهئية العوامل النفسية والمعنوية لمعركة الجاموس…    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    فاجعة في السودان    ما حقيقة وصول الميليشيا محيط القيادة العامة بالفاشر؟..مصدر عسكري يوضّح    "المصباح" يكشف عن تطوّر مثير بشأن قيادات الميليشيا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يستقبل رئيس وزراء السودان في الرياض    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهمّ السوداني…!
نشر في حريات يوم 07 - 11 - 2013

أقعدني هم ثقيل عن الكتابة لبضع أسابيع، وتذكرت أبا الطيب المتنبي عندما لامه سيف الدولة الحمداني علي طول غيابه عن قرض الشعر، خاصة في باب المديح،…فأنشده:
ولكن حمي الشعر إلا القليل همّ حمي النوم إلا غرارا
وما أنا أسقمتُ جسمي به ولا أنا أضرمتُ في القلب نارا
فلا تلزمنّي ذنوب الزمان، إلي أساء وإياي ضارا…
ولقد أساء الزمان لمعظم بني وطني الواقعين علي الضفة الأخري من النظام الإخواني الدكتاتوري الجالس علي أنفاسهم لخمس وعشرين سنة…وما زالوا يقاومونه بشراسة…كأسلافهم الذين نازلوا التركية السابقة والاستعمار البريطاني المصري ودكتاتورية عبود ودكتاتورية نميري….وهزموها جميعاً.
ولكن، هذا نظام أكثر لزوجة وتشبثاً من سابقاته…وقد وهن العظم منا في هذه الأثناء…واشتعل الرأس شيبا…ومعظمنا في غربة مرة بطعم الحنظل… استطالت لربع قرن…ولا ندري كيف ومتي ستنتهي!…وما يضاعف من الحسرة والأنين أن الحكومة بلا شك شر مستطير وبلاء مستديم (حتي الآن)…والمعارضة شر مثلها…خاصة علي نطاق رموزها وسادتها الذين راهنّا عليهم طوال سنوات التجمع الوطني الديمقراطي، وسرنا خلفهم …فإذا بهم يتركونا فى العراء وظهورنا مكشوفة أمام شراذم الإخوان المسلمين …ويمسكون بالعصا من منتصفها….ولا يفتح الله عليهم بكلمة واحدة عندما تساقط أبناء الشعب كالذباب أمام رصاص مليشيات النظام فى الأسبوع الأخير من سبتمبر الماضي…وما كل هذا إلا رضوخٌ لرغبات حفنة من المرتشين والفاسدين المندسين وسط الحركة الوطنية…عيوناً وعملاء للمؤتمر الوطني.
علي كل حال، جاء في محكم التنزيل: (و لا تيأسوا من روْح الله إنه لا ييأس من روْح الله إلا القوم الكافرون…الآية 87 سورة يوسف)…وقد علمتنا الثورة السودانية متجلية في آخر ملاحمها – انتفاضة سبتمبر – أن شعبنا ولود مخصب (حواء والدة!)،… وأن عبقريته قد تمخضت عن أشكال جديدة من النضال تجاوز بها الأطر التى حبسه فيها التجمع الوطني منذ تأسيسه في مطلع التسعينات…وأن الشارع يفرز قياداته ويصقل تكتيكاته بأساليب مبتكرة…من خلال النضال اليومي…وفي خضم التظاهرات والعمل الجماهيري والمواجهات مع جلاوزة الأمن… وداخل بيوت العزاء التي تقام للشهداء…، ومن خلال المجموعات المتجانسة والمترابطة بأدوات الاتصال الاجتماعي…بلغة العصر التى يتداولها ويجيدها شباب اليوم… و في نفس الوقت، لا تستعصي علي الوطنيين الآخرين المواكبين…والذين لم تنطفئ جذوة الوطنية فى وجدانهم بعد.
كما وضّحت لنا الملحمة الأخيرة أن سفينة المؤتمر الوطني مثقوبة فى قعرها… وفي طريقها للغرق…وقد أخذ سدنتها فى القفز من فوقها بكل الاتجاهات…بمنتهي الانتهازية…وبلا تروٍّ أو خجل…ومن مظاهر الاضطراب والتلجلج المراوحة بين العنف الهمجي المفرط فى مواجهة جماهير الانتفاضة…وبين الحديث الثعلبي الناعم هنا وهناك عن الدستور المرتقب والانتخابات والأبواب المفتوحة للجميع…والتدثر بأحلاف خبيثة مع أجنحة مغسولة الدماغ بالأحزاب الوطنية الكبري……ومهما يكن من أمر، فنحن نتذكر نصيحة محمد أحمد المرضي – أحد مؤسسي الحركة الوطنية – عليه الرحمة: "إذا لاحظت شقاً فى الحائط…فاتبعه حتى تصل لقعره ومنبعه"…ومن هنا ننظر فى الوضع الراهن، متكئين علي نظرية الثورة… وعلي الشواهد العالمية والتاريخية.
فلم يعد هناك من يقهر الناس إلي الأبد، ولقد أخذت الشعوب أمرها بيدها منذ تحطيم سجن الباستيل بواسطة كادحي باريس يوم 14 يونيو 1789…حيث انطلقت أول ثورة جماهيرية قضت علي الملكية والأرستقراطية وهيمنة الكنيسة الكاثوليكية في بضع أيام…وتساقطت الرؤوس من المقصلة بالجملة والقطاعي…بما في ذلك رأسا لويس السادس عشر ومليكته ماري انطوانيت…….ولكن، سرعان ما انقلب الثوار علي بعضهم البعض وأطعموا الجيلوتين كثيراً من زملاء النضال ورفاق السلاح،… وأصبح ذلك ديدناً لكل الانتفاضات والثورات التي تأكل بنيها بانتظام……رغم ذلك، فقد توصلت البشرية لاختراع الانتفاضة الجماهيرية السلمية، أي خروج الشعب للشوارع بالسواعد والحناجر وفروع الشجر…متحدياً العروش أياً كانت…في لحظة الإجماع الوطني (الأزمة الثورية).
وظلت الانتفاضات الشعبية تتواتر عبر التاريخ البشري منذ ئذ، بدءاً بثورات 1845 التى اجتاحت أوروبا كلها، واضعة حداً نهائياً لدولة الإقطاع والأوليقاركيات المتسلطة …وهيمنة الكنيسة…إلي أن تفجرت ثورة البلاشفة الروس عام 1917 التى قضت علي حكم القياصرة وجاءت للسلطة بتحالف العمال والمزارعين بقيادة الحزب الشيوعي…ولكن، بعد وفاة لينين قفز جوزيف ستالين للحكم فى قصر الكرملين علي جماجم رفاقه أعضاء اللجنة المركزية الذين اغتال 90% منهم، وأرسل الباقين لمعتقلات سيبريا…وأصبحت الشيوعية ملكاً عضوداً أناخ علي شعوب أوروبا الشرقية لنيف وسبعين سنة….حتي أطلت عليهم ثورات الربيع الشرق أوروبي بنهاية ثمانينات القرن العشرين…وخلصتهم من ذلك الكابوس اللعين.
وفي نفس تلك الأيام، أودت أمريكا الجنوبية بالدكتاتوريات العسكرية التي جثمت علي صدورها طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، بدعم وتحريض من الإمبريالية الأمريكية التى أحالت القارة بأكملها لإقطاعيات تسرح وتمرح فيها البيوتات والإحتكارات الأمريكية، فوق أجداث الشعوب اللاتينية المهمشة والمستضعفة… والمسلوبة الإرادة.
وتوالت ثورات البشرية: فشهدنا فى السودان ثورتي أكتوبر 1964 وإبريل 1985…كما شهدنا مؤخراً ثورات الربيع العربي التي أطاحت بالأنظمة الاستبدادية فى تونس ثم مصر ثم اليمن…و لا زالت الحرب سجالاً بالساحة السورية منذ ثلاث سنوات….كما شهدت القارة الإفريقية انعطافاً ملموساً نحو الديمقراطية الليبرالية.
ولكن، علمتنا الإنتفاضات آنفة الذكر أن الأمور ليست أبيض وأسود فقط، وأن الإطاحة بنظام دكتاتوري لا تعني بالضرورة استبداله بالديمقراطية المستقرة المشفوعة بالتحول الاجتماعي السلس والتقدم الاقتصادي المستدام…فقد تأكل الثورة بنيها…وقد تتنكب الطريق…وتتحول بلدانها إلي ساحات للفوضي وحرب المدن بين المليشيات المتناحرة، خاصة تلك التى تسعي لخلط الأوراق وطمس الآثار وإسكات صوت الجماهير واستبدال الدكتاتورية التى عفا عليها الزمن بأوليقاركية دينية متطرفة….كما هو الحال في ليبيا.
لذلك، ربما تفكر القوي الوطنية السودانية فى تحصين انتفاضتها الحالية (والقادمة) إزاء الانفلات المرتقب إذا تمت الإطاحة بالنظام عن طريق السلاح…(وهو أمر يبدو ألا مفر منه طالما أن النظام لا يلتفت إلا لمن يحمل السلاح في وجهه،… وقد قال رئيسه عدة مرات: نحن جئنا بالبندقية…ومن أراد أن يخلعنا فليواجهنا ببندقية مماثلة)……
وقد يكون هذا التحصين بتكثيف العمل الدعائي وتنشيط الحراك الجماهيري…مهما كلف…حتي يأتي سدنة النظام لطاولة المفاوضات…كما فعل الجنرال عبود فى أكتوبر 1964 والمشير سوار الدهب فى إبريل 1985.
ومن الناحية الأخري، إذا أراد نظام البشير أن يتخلص من التبعة التاريخية لما اقترفه فى حق البلاد:… من فصل للجنوب… واشعال للفتن بدارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ومنطقة أبيي…ومن تهميش وإفقار لأهل السودان خلال 24 سنة من السياسات الاقتصادية البلهاء المتخبطة والتجريبية العشوائية…ومن النهب المنظم لموارد البلاد بواسطة الإخوان المسلمين ورهطهم المحليين والإقليميين والعالميين…ومن تدمير للبني الإقتصادية الأساسية كمشروع الجزيرة والسكة حديد وسودان لاين وسودان إير والمناطق الصناعية والصناعات الوطنية…ومن تخريب للتعليم والخدمات الصحية…وإفساد للبيئة الطبيعية والمعنوية والأخلاقية…..فلديه الكثير من النماذج التاريخية التى يمكن أن يستأنس بها…إذ أن هنالك العديد من الأنظمة الإيديولوجية الشمولية "صاحبة الرسالة الأممية" التى تخلت عن رسالتها، وانسلت منها كما تنسل السبيبة من العجين.
ودونك المعسكر الإشتراكي:…بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا وألمانيا الشرقية وألبانيا،… وكبيرهم الذى علمهم السحر: الاتحاد السوفيتي العظيم…إذ ما هي إلا بضع شهور عند منحني القرن العشرين المطل علي هذا القرن حتى تحولت كل هذه البلدان إلي ديمقراطيات ليبرالية (إلي أبعد الحدود الممكنة)… ونفضت عن أبدانها أوضار سنين التكلس الماركسي والآحادية ودكتاتورية الحزب…ويممت وجهها شطر الديمقراطية التعددية والتحول الاجتماعي والتقدم الاقتصادي وفق نواميس العصر….واضعة نصب أعينها مصالح شعوبها…وليس الشعارات والتشنج والتصوف الإيديولوجي الذى لا يقدم ولا يؤخر.
وبولندا، علي سبيل المثال، كان يقودها عسكري متجلبب ببزته العسكرية "الجنرال ياروزلسكسي"… رغم أنه المسؤول الأول بالحزب الشيوعي (وذلك وضع قريب من الخاصية التى يتمتع بها البشير رئيس النظام السوداني…فهو عسكري متمنطق ببزته الرسمية… رغم أنه كادر قائد بالحركة الإسلامية التى استولت علي السلطة في 30 يونيو 1989 و لازالت ممسكة بزمام الأمور)…ولقد أبلي ياروزلسكي بلاءاً حسناً وطويلاً بصفوف الجيش والحزب الشيوعي منذ المقاومة ضد الغزو النازي الألماني، …وفي عام 1981 أصبح زعيماً للحزب الشيوعي ورئيساً للوزراء…وفي هذه الأثناء، قويت شوكة نقابة عمال صناعة السفن بقدانسك بزعامة النقابي الفطن الجسور لك فالنسا …وجرب معهم ياروزلسكي أسلوب العنف المفرط لسنين طويلة، ولكنه فى نهاية عقد الثمانينات رضخ لمطلب حزب "سوليداريتات" بالانتخابات التعددية النزيهة والشفافة، فاكتسحتها جماعة فالنسا الذى أصبح أول رئيس غير شيوعي لبولندا عام 1990،… وخرج ياروزلسكي من المسرح بلا ضوضاء….
ومن ذلك الدرس تفطنت باقي شعوب المعسكر الاشتراكي، فانهارت أنظمته كأعجاز نخل خاوية، عبر ثورات سميت بأسماء الزهور والمخمل…وأطل علي البشرية فجر جديد ينذر ب "نهاية التاريخ"، بمعني ذهاب الأنظمة الشمولية إلي الأبد وترسيخ الديمقراطية الليبرالية…بما سمح بالتعاون المفتوح بين كافة الدول التى تدين بهذه القيم، فدخلت دول المعسكر الإشتراكي السابق فى منظومة حلف الناتو والإتحاد الأوروبي…وقاد ذلك لتقوية وتدعيم تلك المنظومة، ومن هنا جاءت مقولة "نهاية التاريخ"….فمن ذا الذى يستطيع أن يقف في وجه هذه الكتلة الهائلة فى عالم اليوم،… بعد زوال الاتحاد السوفيتي ومن دار في فلكه…علماً بأن أمريكا جزء من تلك المنظومة؟
وعلي هذا المنوال، يستطيع البشير كذلك، إذا أراد، أن ينسل من هذه الورطة التي وجد نفسه في لبّها…(بتدبير من الشيخ حسن الترابي)…فلقد كانت الحركة الإسلامية تعتبر البشير "مغفلا نافعاً"… إلي حين تمكنها من إماطة اللثام الذي تدثرت به تقية وتمويهاً فى أول أيام الانقلاب…ومع نهاية العقد الأول لحكمها، أخذ الترابي يضيّق الخناق علي البشير وجهازه التنفيذي، فحاول أن يسحب منه سلطة تعيين ولاة الأقاليم…وبدأت الإجراءات الخاصة بالإنتخابات الرئاسية التى كان الترابي ينوي خوضها…باعتبار أن البشير قد استنفد أغراضه…وجاء زمان ولاية الفقيه philosopher king ولكن الأخير، وبتخطيط وتآمر من تلاميذ الترابي "العشرة الأوائل"، انقلب علي الترابي بحركة سمرصولت غير مسبوقة فى التاريخ، وانتهي الأمر بشيخ الحركة حبيساً ببيته بالمنشية، مراوحاً بينه وبين معتقل كوبر بالخرطوم بحري….وقد تبخرت من يافوخه أحلام الخلافة الإسلامية التى أعد نفسه لها باعتباره بديرياً دهمشياً قرشياً…حتي تدخل القرضاوي مدعوماً بالريالات القطرية فحمي الترابي من السجن….ولكنه علي كل حال بقي خارج السلطة….وذلك مربط الفرس.
غير أن "العشرة الأوائل" أنفسهم تشتتوا أيدي سبأ خلال الخمس عشرة سنة الماضية…واستطاع البشير ومن بقي منهم معه أن يصمدوا فى الحكم…رغم أنهم لا يملكون العمق الفكري والخبرة التنظيمية التى يتمتع بها الترابي…فركنوا عوضاَ عن ذلك للقبضة الحديدية والبطش المتوحش بالخصوم، سواء كانوا في دارفور وغيرها من مناطق النزاعات، أو في شكل جماهير المدن التي تعبر عن رأيها بالمواكب السلمية…وأخذت تتجاذبهم أمواج السياسة السودانية والشرق أوسطية…فلاذوا بالأحزاب الطائفية التقليدية وأشركوها في الحكم (بقسمة الثعلب – أبو الحصين)، ولكن ذلك لم يسعف نظامهم المفلس سياسياً والمنهار إقتصادياً، فالأحزاب التى لجأوا لها منقسمة فى داخلها… ومتشظية لأبعد الحدود…وغالبية عضويتها لم تتصالح بعد مع نظام المؤتمر الوطني الحاكم، وغير راضية عن المشاركة فى جهاز البشير السيادي والتنفيذي، واعتبرتها فتاتاً لا يسمن و لا يغني من جوع.
وعلي مستوي الشرق الأوسط، لا تخفي حكومة البشير استجداءها لحكومات الدول العربية المنتجة للنفط، و لا يمر يوم من أيام الله السبعة إلا وتتهافت وفودها علي هذه الدول طالبة الإعانات والقروض والاستثمار….وفي نفس الوقت، وبلا أدني خجل، تضع حكومة البشير يدها في يد أكبر عدو لهذه الدول، وهي إيران، وتدخل معها فى حلف استراتيجي منذ أول أيامها بمطلع التسعينات، كان من ثماره مصنع اليرموك الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية فى مساء الثلاثاء 23 أكتوبر من العام الماضي…والتسهيلات الممنوحة لإيران بالموانئ السودانية المطلة علي البحر الأحمر، ليس بعيداً عن الشواطئ السعودية…والسماح لإيران بتهريب الأسلحة لحماس عبر الأراضي السودانية المحازية للبحر الأحمر…عبر قوافل من الشاحنات ما فتئت المقاتلات الإسرائيلية تتعرض لها وتبيدها من الوجود…ويعني ذلك فيما يعني التعدي علي الحرمات والسيادة السودانية التى لم تهم نظام الخرطوم كثيراً.
وهكذا، وبقدرما نجح النظام فى إضعاف المعارضة ورشوة زعمائها وتحويلهم إلي زومبيات وخيالات مآتة….بقدرما فشل فى الخروج من عزلته المحلية والإقليمية والدولية…خاصة إذا تذكرنا أن رئيسه مطلوب لدي محكمة الجنايات الدولية ومحظور عليه السفر أو الطيران فوق سموات الدول الموقعة علي اتفاقية روما التي أنشئت تلك المحكمة بموجبها…….هذا، ولقد أضافت الانتفاضة الأخيرة بعداً جديداً لعزلة النظام وسط جماهير الشعب…وذلك ما ترمز له المعاملة التى لقيها الرجل الثالث بالنظام…د. نافع علي نافع…الذى طرد من بيت العزاء…وألقم "مركوبا" علي وجهه بالهلالية…إلخ….ولا ننسي جرأة ذلك الصحفي الذي واجه وزير الداخلية ووزير الإعلام فى مؤتمرهما الصحفي بسبتمبر قائلا: "لماذا تصرون علي الكذب علي الشعب السوداني بلا توقف؟…..إلخ.".
ولو كان أباطرة هذا النظام أعلي قليلاً من مستوي الإمبسيلز والمتخلفين عقلياً… لأرسلوا فى طلب المعارضة الحقيقية الموجودة بالشارع: قوي الإجماع الوطني والجبهة الثورية والمنظمات الجماهيرية والشبابية، كما فعل عبود ومن بعده سوار الدهب…وتفاوضوا معها حول سبل الخروج من هذه الورطة.
قالت العرب:
إن اللبيب إذا تفرق شأنه فتق الأمور مشاورا ومناصحا
ويقول مثل أولاد الريف: (ألف نطة…و لا واحد بعبوص.)
ألا هل بلغت…اللهم فاشهد! والسلام.
الهمّ السوداني…!
الفاضل عباس محمد علي
أقعدني هم ثقيل عن الكتابة لبضع أسابيع، وتذكرت أبا الطيب المتنبي عندما لامه سيف الدولة الحمداني علي طول غيابه عن قرض الشعر، خاصة في باب المديح،…فأنشده:
ولكن حمي الشعر إلا القليل همّ حمي النوم إلا غرارا
وما أنا أسقمتُ جسمي به ولا أنا أضرمتُ في القلب نارا
فلا تلزمنّي ذنوب الزمان، إلي أساء وإياي ضارا…
ولقد أساء الزمان لمعظم بني وطني الواقعين علي الضفة الأخري من النظام الإخواني الدكتاتوري الجالس علي أنفاسهم لخمس وعشرين سنة…وما زالوا يقاومونه بشراسة…كأسلافهم الذين نازلوا التركية السابقة والاستعمار البريطاني المصري ودكتاتورية عبود ودكتاتورية نميري….وهزموها جميعاً.
ولكن، هذا نظام أكثر لزوجة وتشبثاً من سابقاته…وقد وهن العظم منا في هذه الأثناء…واشتعل الرأس شيبا…ومعظمنا في غربة مرة بطعم الحنظل… استطالت لربع قرن…ولا ندري كيف ومتي ستنتهي!…وما يضاعف من الحسرة والأنين أن الحكومة بلا شك شر مستطير وبلاء مستديم (حتي الآن)…والمعارضة شر مثلها…خاصة علي نطاق رموزها وسادتها الذين راهنّا عليهم طوال سنوات التجمع الوطني الديمقراطي، وسرنا خلفهم …فإذا بهم يتركونا فى العراء وظهورنا مكشوفة أمام شراذم الإخوان المسلمين …ويمسكون بالعصا من منتصفها….ولا يفتح الله عليهم بكلمة واحدة عندما تساقط أبناء الشعب كالذباب أمام رصاص مليشيات النظام فى الأسبوع الأخير من سبتمبر الماضي…وما كل هذا إلا رضوخٌ لرغبات حفنة من المرتشين والفاسدين المندسين وسط الحركة الوطنية…عيوناً وعملاء للمؤتمر الوطني.
علي كل حال، جاء في محكم التنزيل: (و لا تيأسوا من روْح الله إنه لا ييأس من روْح الله إلا القوم الكافرون…الآية 87 سورة يوسف)…وقد علمتنا الثورة السودانية متجلية في آخر ملاحمها – انتفاضة سبتمبر – أن شعبنا ولود مخصب (حواء والدة!)،… وأن عبقريته قد تمخضت عن أشكال جديدة من النضال تجاوز بها الأطر التى حبسه فيها التجمع الوطني منذ تأسيسه في مطلع التسعينات…وأن الشارع يفرز قياداته ويصقل تكتيكاته بأساليب مبتكرة…من خلال النضال اليومي…وفي خضم التظاهرات والعمل الجماهيري والمواجهات مع جلاوزة الأمن… وداخل بيوت العزاء التي تقام للشهداء…، ومن خلال المجموعات المتجانسة والمترابطة بأدوات الاتصال الاجتماعي…بلغة العصر التى يتداولها ويجيدها شباب اليوم… و في نفس الوقت، لا تستعصي علي الوطنيين الآخرين المواكبين…والذين لم تنطفئ جذوة الوطنية فى وجدانهم بعد.
كما وضّحت لنا الملحمة الأخيرة أن سفينة المؤتمر الوطني مثقوبة فى قعرها… وفي طريقها للغرق…وقد أخذ سدنتها فى القفز من فوقها بكل الاتجاهات…بمنتهي الانتهازية…وبلا تروٍّ أو خجل…ومن مظاهر الاضطراب والتلجلج المراوحة بين العنف الهمجي المفرط فى مواجهة جماهير الانتفاضة…وبين الحديث الثعلبي الناعم هنا وهناك عن الدستور المرتقب والانتخابات والأبواب المفتوحة للجميع…والتدثر بأحلاف خبيثة مع أجنحة مغسولة الدماغ بالأحزاب الوطنية الكبري……ومهما يكن من أمر، فنحن نتذكر نصيحة محمد أحمد المرضي – أحد مؤسسي الحركة الوطنية – عليه الرحمة: "إذا لاحظت شقاً فى الحائط…فاتبعه حتى تصل لقعره ومنبعه"…ومن هنا ننظر فى الوضع الراهن، متكئين علي نظرية الثورة… وعلي الشواهد العالمية والتاريخية.
فلم يعد هناك من يقهر الناس إلي الأبد، ولقد أخذت الشعوب أمرها بيدها منذ تحطيم سجن الباستيل بواسطة كادحي باريس يوم 14 يونيو 1789…حيث انطلقت أول ثورة جماهيرية قضت علي الملكية والأرستقراطية وهيمنة الكنيسة الكاثوليكية في بضع أيام…وتساقطت الرؤوس من المقصلة بالجملة والقطاعي…بما في ذلك رأسا لويس السادس عشر ومليكته ماري انطوانيت…….ولكن، سرعان ما انقلب الثوار علي بعضهم البعض وأطعموا الجيلوتين كثيراً من زملاء النضال ورفاق السلاح،… وأصبح ذلك ديدناً لكل الانتفاضات والثورات التي تأكل بنيها بانتظام……رغم ذلك، فقد توصلت البشرية لاختراع الانتفاضة الجماهيرية السلمية، أي خروج الشعب للشوارع بالسواعد والحناجر وفروع الشجر…متحدياً العروش أياً كانت…في لحظة الإجماع الوطني (الأزمة الثورية).
وظلت الانتفاضات الشعبية تتواتر عبر التاريخ البشري منذ ئذ، بدءاً بثورات 1845 التى اجتاحت أوروبا كلها، واضعة حداً نهائياً لدولة الإقطاع والأوليقاركيات المتسلطة …وهيمنة الكنيسة…إلي أن تفجرت ثورة البلاشفة الروس عام 1917 التى قضت علي حكم القياصرة وجاءت للسلطة بتحالف العمال والمزارعين بقيادة الحزب الشيوعي…ولكن، بعد وفاة لينين قفز جوزيف ستالين للحكم فى قصر الكرملين علي جماجم رفاقه أعضاء اللجنة المركزية الذين اغتال 90% منهم، وأرسل الباقين لمعتقلات سيبريا…وأصبحت الشيوعية ملكاً عضوداً أناخ علي شعوب أوروبا الشرقية لنيف وسبعين سنة….حتي أطلت عليهم ثورات الربيع الشرق أوروبي بنهاية ثمانينات القرن العشرين…وخلصتهم من ذلك الكابوس اللعين.
وفي نفس تلك الأيام، أودت أمريكا الجنوبية بالدكتاتوريات العسكرية التي جثمت علي صدورها طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، بدعم وتحريض من الإمبريالية الأمريكية التى أحالت القارة بأكملها لإقطاعيات تسرح وتمرح فيها البيوتات والإحتكارات الأمريكية، فوق أجداث الشعوب اللاتينية المهمشة والمستضعفة… والمسلوبة الإرادة.
وتوالت ثورات البشرية: فشهدنا فى السودان ثورتي أكتوبر 1964 وإبريل 1985…كما شهدنا مؤخراً ثورات الربيع العربي التي أطاحت بالأنظمة الاستبدادية فى تونس ثم مصر ثم اليمن…و لا زالت الحرب سجالاً بالساحة السورية منذ ثلاث سنوات….كما شهدت القارة الإفريقية انعطافاً ملموساً نحو الديمقراطية الليبرالية.
ولكن، علمتنا الإنتفاضات آنفة الذكر أن الأمور ليست أبيض وأسود فقط، وأن الإطاحة بنظام دكتاتوري لا تعني بالضرورة استبداله بالديمقراطية المستقرة المشفوعة بالتحول الاجتماعي السلس والتقدم الاقتصادي المستدام…فقد تأكل الثورة بنيها…وقد تتنكب الطريق…وتتحول بلدانها إلي ساحات للفوضي وحرب المدن بين المليشيات المتناحرة، خاصة تلك التى تسعي لخلط الأوراق وطمس الآثار وإسكات صوت الجماهير واستبدال الدكتاتورية التى عفا عليها الزمن بأوليقاركية دينية متطرفة….كما هو الحال في ليبيا.
لذلك، ربما تفكر القوي الوطنية السودانية فى تحصين انتفاضتها الحالية (والقادمة) إزاء الانفلات المرتقب إذا تمت الإطاحة بالنظام عن طريق السلاح…(وهو أمر يبدو ألا مفر منه طالما أن النظام لا يلتفت إلا لمن يحمل السلاح في وجهه،… وقد قال رئيسه عدة مرات: نحن جئنا بالبندقية…ومن أراد أن يخلعنا فليواجهنا ببندقية مماثلة)……
وقد يكون هذا التحصين بتكثيف العمل الدعائي وتنشيط الحراك الجماهيري…مهما كلف…حتي يأتي سدنة النظام لطاولة المفاوضات…كما فعل الجنرال عبود فى أكتوبر 1964 والمشير سوار الدهب فى إبريل 1985.
ومن الناحية الأخري، إذا أراد نظام البشير أن يتخلص من التبعة التاريخية لما اقترفه فى حق البلاد:… من فصل للجنوب… واشعال للفتن بدارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ومنطقة أبيي…ومن تهميش وإفقار لأهل السودان خلال 24 سنة من السياسات الاقتصادية البلهاء المتخبطة والتجريبية العشوائية…ومن النهب المنظم لموارد البلاد بواسطة الإخوان المسلمين ورهطهم المحليين والإقليميين والعالميين…ومن تدمير للبني الإقتصادية الأساسية كمشروع الجزيرة والسكة حديد وسودان لاين وسودان إير والمناطق الصناعية والصناعات الوطنية…ومن تخريب للتعليم والخدمات الصحية…وإفساد للبيئة الطبيعية والمعنوية والأخلاقية…..فلديه الكثير من النماذج التاريخية التى يمكن أن يستأنس بها…إذ أن هنالك العديد من الأنظمة الإيديولوجية الشمولية "صاحبة الرسالة الأممية" التى تخلت عن رسالتها، وانسلت منها كما تنسل السبيبة من العجين.
ودونك المعسكر الإشتراكي:…بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا وألمانيا الشرقية وألبانيا،… وكبيرهم الذى علمهم السحر: الاتحاد السوفيتي العظيم…إذ ما هي إلا بضع شهور عند منحني القرن العشرين المطل علي هذا القرن حتى تحولت كل هذه البلدان إلي ديمقراطيات ليبرالية (إلي أبعد الحدود الممكنة)… ونفضت عن أبدانها أوضار سنين التكلس الماركسي والآحادية ودكتاتورية الحزب…ويممت وجهها شطر الديمقراطية التعددية والتحول الاجتماعي والتقدم الاقتصادي وفق نواميس العصر….واضعة نصب أعينها مصالح شعوبها…وليس الشعارات والتشنج والتصوف الإيديولوجي الذى لا يقدم ولا يؤخر.
وبولندا، علي سبيل المثال، كان يقودها عسكري متجلبب ببزته العسكرية "الجنرال ياروزلسكسي"… رغم أنه المسؤول الأول بالحزب الشيوعي (وذلك وضع قريب من الخاصية التى يتمتع بها البشير رئيس النظام السوداني…فهو عسكري متمنطق ببزته الرسمية… رغم أنه كادر قائد بالحركة الإسلامية التى استولت علي السلطة في 30 يونيو 1989 و لازالت ممسكة بزمام الأمور)…ولقد أبلي ياروزلسكي بلاءاً حسناً وطويلاً بصفوف الجيش والحزب الشيوعي منذ المقاومة ضد الغزو النازي الألماني، …وفي عام 1981 أصبح زعيماً للحزب الشيوعي ورئيساً للوزراء…وفي هذه الأثناء، قويت شوكة نقابة عمال صناعة السفن بقدانسك بزعامة النقابي الفطن الجسور لك فالنسا …وجرب معهم ياروزلسكي أسلوب العنف المفرط لسنين طويلة، ولكنه فى نهاية عقد الثمانينات رضخ لمطلب حزب "سوليداريتات" بالانتخابات التعددية النزيهة والشفافة، فاكتسحتها جماعة فالنسا الذى أصبح أول رئيس غير شيوعي لبولندا عام 1990،… وخرج ياروزلسكي من المسرح بلا ضوضاء….
ومن ذلك الدرس تفطنت باقي شعوب المعسكر الاشتراكي، فانهارت أنظمته كأعجاز نخل خاوية، عبر ثورات سميت بأسماء الزهور والمخمل…وأطل علي البشرية فجر جديد ينذر ب "نهاية التاريخ"، بمعني ذهاب الأنظمة الشمولية إلي الأبد وترسيخ الديمقراطية الليبرالية…بما سمح بالتعاون المفتوح بين كافة الدول التى تدين بهذه القيم، فدخلت دول المعسكر الإشتراكي السابق فى منظومة حلف الناتو والإتحاد الأوروبي…وقاد ذلك لتقوية وتدعيم تلك المنظومة، ومن هنا جاءت مقولة "نهاية التاريخ"….فمن ذا الذى يستطيع أن يقف في وجه هذه الكتلة الهائلة فى عالم اليوم،… بعد زوال الاتحاد السوفيتي ومن دار في فلكه…علماً بأن أمريكا جزء من تلك المنظومة؟
وعلي هذا المنوال، يستطيع البشير كذلك، إذا أراد، أن ينسل من هذه الورطة التي وجد نفسه في لبّها…(بتدبير من الشيخ حسن الترابي)…فلقد كانت الحركة الإسلامية تعتبر البشير "مغفلا نافعاً"… إلي حين تمكنها من إماطة اللثام الذي تدثرت به تقية وتمويهاً فى أول أيام الانقلاب…ومع نهاية العقد الأول لحكمها، أخذ الترابي يضيّق الخناق علي البشير وجهازه التنفيذي، فحاول أن يسحب منه سلطة تعيين ولاة الأقاليم…وبدأت الإجراءات الخاصة بالإنتخابات الرئاسية التى كان الترابي ينوي خوضها…باعتبار أن البشير قد استنفد أغراضه…وجاء زمان ولاية الفقيه philosopher king ولكن الأخير، وبتخطيط وتآمر من تلاميذ الترابي "العشرة الأوائل"، انقلب علي الترابي بحركة سمرصولت غير مسبوقة فى التاريخ، وانتهي الأمر بشيخ الحركة حبيساً ببيته بالمنشية، مراوحاً بينه وبين معتقل كوبر بالخرطوم بحري….وقد تبخرت من يافوخه أحلام الخلافة الإسلامية التى أعد نفسه لها باعتباره بديرياً دهمشياً قرشياً…حتي تدخل القرضاوي مدعوماً بالريالات القطرية فحمي الترابي من السجن….ولكنه علي كل حال بقي خارج السلطة….وذلك مربط الفرس.
غير أن "العشرة الأوائل" أنفسهم تشتتوا أيدي سبأ خلال الخمس عشرة سنة الماضية…واستطاع البشير ومن بقي منهم معه أن يصمدوا فى الحكم…رغم أنهم لا يملكون العمق الفكري والخبرة التنظيمية التى يتمتع بها الترابي…فركنوا عوضاَ عن ذلك للقبضة الحديدية والبطش المتوحش بالخصوم، سواء كانوا في دارفور وغيرها من مناطق النزاعات، أو في شكل جماهير المدن التي تعبر عن رأيها بالمواكب السلمية…وأخذت تتجاذبهم أمواج السياسة السودانية والشرق أوسطية…فلاذوا بالأحزاب الطائفية التقليدية وأشركوها في الحكم (بقسمة الثعلب – أبو الحصين)، ولكن ذلك لم يسعف نظامهم المفلس سياسياً والمنهار إقتصادياً، فالأحزاب التى لجأوا لها منقسمة فى داخلها… ومتشظية لأبعد الحدود…وغالبية عضويتها لم تتصالح بعد مع نظام المؤتمر الوطني الحاكم، وغير راضية عن المشاركة فى جهاز البشير السيادي والتنفيذي، واعتبرتها فتاتاً لا يسمن و لا يغني من جوع.
وعلي مستوي الشرق الأوسط، لا تخفي حكومة البشير استجداءها لحكومات الدول العربية المنتجة للنفط، و لا يمر يوم من أيام الله السبعة إلا وتتهافت وفودها علي هذه الدول طالبة الإعانات والقروض والاستثمار….وفي نفس الوقت، وبلا أدني خجل، تضع حكومة البشير يدها في يد أكبر عدو لهذه الدول، وهي إيران، وتدخل معها فى حلف استراتيجي منذ أول أيامها بمطلع التسعينات، كان من ثماره مصنع اليرموك الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية فى مساء الثلاثاء 23 أكتوبر من العام الماضي…والتسهيلات الممنوحة لإيران بالموانئ السودانية المطلة علي البحر الأحمر، ليس بعيداً عن الشواطئ السعودية…والسماح لإيران بتهريب الأسلحة لحماس عبر الأراضي السودانية المحازية للبحر الأحمر…عبر قوافل من الشاحنات ما فتئت المقاتلات الإسرائيلية تتعرض لها وتبيدها من الوجود…ويعني ذلك فيما يعني التعدي علي الحرمات والسيادة السودانية التى لم تهم نظام الخرطوم كثيراً.
وهكذا، وبقدرما نجح النظام فى إضعاف المعارضة ورشوة زعمائها وتحويلهم إلي زومبيات وخيالات مآتة….بقدرما فشل فى الخروج من عزلته المحلية والإقليمية والدولية…خاصة إذا تذكرنا أن رئيسه مطلوب لدي محكمة الجنايات الدولية ومحظور عليه السفر أو الطيران فوق سموات الدول الموقعة علي اتفاقية روما التي أنشئت تلك المحكمة بموجبها…….هذا، ولقد أضافت الانتفاضة الأخيرة بعداً جديداً لعزلة النظام وسط جماهير الشعب…وذلك ما ترمز له المعاملة التى لقيها الرجل الثالث بالنظام…د. نافع علي نافع…الذى طرد من بيت العزاء…وألقم "مركوبا" علي وجهه بالهلالية…إلخ….ولا ننسي جرأة ذلك الصحفي الذي واجه وزير الداخلية ووزير الإعلام فى مؤتمرهما الصحفي بسبتمبر قائلا: "لماذا تصرون علي الكذب علي الشعب السوداني بلا توقف؟…..إلخ.".
ولو كان أباطرة هذا النظام أعلي قليلاً من مستوي الإمبسيلز والمتخلفين عقلياً… لأرسلوا فى طلب المعارضة الحقيقية الموجودة بالشارع: قوي الإجماع الوطني والجبهة الثورية والمنظمات الجماهيرية والشبابية، كما فعل عبود ومن بعده سوار الدهب…وتفاوضوا معها حول سبل الخروج من هذه الورطة.
قالت العرب:
إن اللبيب إذا تفرق شأنه فتق الأمور مشاورا ومناصحا
ويقول مثل أولاد الريف: (ألف نطة…و لا واحد بعبوص.)
ألا هل بلغت…اللهم فاشهد! والسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.