شاهد بالفيديو.. فنان سوداني يعتدي على أحد الحاضرين بعد أن قام بوضع أموال "النقطة" على رأسه أثناء تقديمه وصلة غنائية بأحد المسارح    شاهد بالفيديو.. التيكتوكر السودانية خديجة أمريكا تظهر بإطلالة ملفتة وتزعم أنها "هندية" الجنسية    شاهد بالصورة.. بعد أن أعلنت في وقت سابق رفضها فكرة الزواج والإرتباط بأي رجل.. الناشطة السودانية وئام شوقي تفاجئ الجميع وتحتفل بخطبتها    البرهان : لن نضع السلاح إلا باستئصال التمرد والعدوان الغاشم    وفد عسكري أوغندي قرب جوبا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    شغل مؤسس    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    الشان لا ترحم الأخطاء    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإرهاب الفكري بين الشرق والغرب : محاكمة غاليلي وابن رشد نموذجا
نشر في حريات يوم 14 - 11 - 2013


( الكرامةهي الملاذ الأخيرلمن جارعليه الزمن)
ماكسفريش: مسرحيوروائي ألماني
بات معلوما لدى الجميع أنّ إرهاب الغرب الإستعماري الدموي قد طال البشر والحجرفي كل مكان من العالم. فقتل الإنسان وحاول تقويضوتدمير الحضارة التي يعاديها،وانتهى به الأمر خلال القرن الماضي إلى أطلاق القنابل النووية في هيروشيما و ناغازاكي، ومع مطلع هذا القرن إلى تدمير كل من أفغانستان والعراق ذي الحضارة السومرية التي هي أقدم الحضارات.ولكنّه لم يكن إرهابا فكريّا بالأساس، رغم وحشيّته وبربريّته و تسبّبهفي الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين كان من نتائجهما قتلما يزيد عن 82 مليون نسمة،وتسبّبهقبل ذلك في مقتل حوالي 20 مليون من السكان الأصليين الاستراليين،و أكثر من 150 مليون هندي أحمر في الأمريكيتين الشمالية والجنوبيّة،و استعباد أكثر من 180 مليون أفريقي، بل وإلقاء88٪ ممن قتلوا من بينهم في المحيط الأطلسي.ذلك أّنّه لم يطل العلم و الفكر والإبداع سواء بالمصادرة أو بالمنعولا المفكّرين الأحرار بالمضايقة أوالإهانة أوالتهميش والتنكيل إلّا في حالات-ليست نادرة- ولكنّها قليلة وقليلة جدّا بالقياس لمثيلاتها في الوطن العربي والإسلامي. ولعلّ أشهر هذه الحالات على الإطلاق هي الحادثة الشهيرة لمن سمّاهاينشتاين "أبو العلم الحديث" الفلكي والفيزيائي الإيطالي الجريء غاليليو غاليلي التي سنأتي عليها فيما بعد.
ولكن، لعلّه يكون من المفيد التذكير ببعض حالات الإرهاب الفكري القليلة التي عاشتها أوروبّا والغرب عموما، والتي كانت آخرتها حادثة إعدامأنطوان لافوازييهأكبر عالم فرنسي في زمانه و أبو الكيمياء في العصر الحديث، خمس سنوات فقط بعد الثورة الفرنسيّة.
وقبل ذلك بقرون عديدةأعدم سافنو رولا حرقا في فلورنسا سنة 1498 جرّاء نقده اللاذع لكل من رجال الدين والسلطة الحاكمة.وبعد أكثر من قرن أحرقفي ساحة روما سنة 1600، الفيلسوف المجدّد جيوردانو برونو جرّاء صموده وتمسّكهبآرائه وأفكاره ذات النزعة التجديدية التي تناقض قناعات الكنيسة وطروحاتها إن في الدين أو في العلم.
أمّا السجن فقد كان من نصيب المفكّر فولتير الذي اعتقل في سجن الباستيل الشهير وأطلق سراحه بعد موافقته على النفي إلى إنجلترا. وأمّا المطاردةفقد كانت من نصيب الفيلسوف جون جاك روسو. وذلك بعد أن أصدر برلمان باريس حكما في حقّه بالسجن وإحراق كتابه "إميل"Emileou De l'éducation الذي يبحث في فن تكوين الرجال. وهو من الكتب الاكثر قراءة في المجال التربوي إلى اليوم.
وبالعودة إلى غاليلي الذي أعتبرته الكنيسة مهرطقا، فإنّ محنته أنطلقتبعد قيامه بإثبات خطأ نظرية أرسطو حول الحركة، وهي التي سادت على مدى عشرين قرنا.فضلا عن نشرهعلى نطاق واسع لنظرية نيقولا كوبرنيكحول مركزيّة الشمس، والدفاع عنها بقوّة وشجاعة كانت تعوز كوبرنيك نفسه باعتباره كاهن كنيسة وليس عالما فحسب. وبصفته تلك لم يكن بإمكانه الإعلان جهرا عن مخالفته الكنسية فيما كانتتعتقده منذ 12 قرنا خلت.ووفق المؤرخ جاكوب برونسكي: «كان من تأثير محاكمة غاليليو انتقال الثورة العلمية من الآن فصاعدا إلى أوروبا الشمالية». بما يعني أنّ الإرهاب الفكري الذي سلّط على غاليلي كانت نتائجه عكسيّة وساهم بفعاليّة، بل ولعب دورا محوريا في نهضة أوروبّا والغرب عموم.ولذلك إعتبر غاليلي أحد خمسة علماء، من بينهم كوبرنيكو كبلر و براههو نيوتن، كان لهم الفضل الكبير في نقل أوروبا من حالة السبات العميق الي مرحلة النهضة التي طالت كل مجال. لأنّهم، بما توصّلوا إليه من أفكار علميّة ورؤى جديدة، أحدثوا رجّة عنيفة في العقول هي أقرب إلى الصدمة الإيجابيّة التي كان من أهمّ نتائجها التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي حدثت في أوربا خلال القرنين 15 و 16 والتي مهّدت لا فقط لبروز فلاسفة عظام مثلرينيه ديكارت زعيم مذهب العقلانية في القرن17وباروخسبينوزا الذي يرى أنّ «أهواء الإنسان الدينيةّ والسياسيّة هي سبب بقائه في حالة العبوديّة»، بل وكذلك لبروز فلاسفة عصر الأنوارالأنجليز توماس هوبز وجون لوك وربّما الصحفي والثوري توماس بينThomas Paine و فلاسفة التنوير الفرنسيين وأهمّهم مونتسكيو ، فولتير وجون جاك روسو خلال القرنين17 و18،والذين مهّدوا بدورهم لإعلان إستقلال الولايات المتّحدة الأمريكيّة و تفجير الثورة الفرنسيّة العظيمة التي قامت على مبادئ لا تزال تحتفظ بألقها رغم مرور ما يزيد عن قرنين وعشريتين على وضعها. ولعلّ أبرزها مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة وما رمز له شعارالثورةالفرنسية من وجوب ضمان "الحرية والمساواة والعدالة" للجميعوالإلتزام بتطبيق العقد الإجتماعي الذي يصل الحاكم بالمحكوم وفق مضمون نصوصه.
ما يستثير في خواطرنا الكثير من الشجون، أنّنا في العالم العربي والإسلامي، ومنذ القرون الوسطى وتحديدا بعد سقوط غرناطة، أعوزتنا القوّة، قوّة الحديد والنار فأسقط في يدنا في مجال إرهاب القوّة الممارس على الخارج، وتركّز إرهابنا بصفة خاصّة ومكثّفة على ممارسة الإرهاب على الدّاخل ممثّلا في القمع والإ رهاب الفكريالمنظّم والممنهج، المسلّط على صفوة المفكّرينالإحرار،من عرب ومسلمين،ممّن كانلهم أفكار حرة وآراء جريئة ومواقف مستقلة نضجت من خلال تناولهم نقد موضوعات فلسفيّة أو دينيّة أو حتّى أدبيّة وفق منهج مستحدث يفرز بالضرورة مباحث وأفكار ورؤىجديدةتدكّ أعماق العقول المتكلّسة دكّا عنيفا، لأنّها تتخطّى السياقات المعهودةوتخترق الزمان والمكان وتتجاوزالمسكوت عنه ثمّ تكشفه وتعرّيه تماما. بما يزعج من تعوّدوا، على عدم التفكير-وهم كثر- أو في الحدّ الأقصى على التفكير التقليدي، بما هو جمود يزلزل كياناته القائمة ويحدث فيها شروخا، كلّ فكر يخرج عن السائد ويفرز تصدّعات في خرسانة التفكير التقليدي المتكلّس التي يتحصّن خلفها التقليديون "الجامدون"غائمي الرؤية، المتعوّدون على "طاحونة الشيء المعتاد"، الذين يمثّلون دوها عوائق كأداء في سبيل التغيير نحو الأفضل،ويصيبهم كلكل من اليأسوالإحباط كلّما برزت على السطح فكرة جديدة ومختلفة تقوّض مسلّماتهموأفكارهم بالغة الرجعية التي يقتاتون منها على الموائد الفاخرةلأسيادهم الذين لا يستحقّون الوضع الذين هم فيه ولا حتّى مجرّد الألقاب التي تضفى عليهم. بل إنهم عبيدلآرائهم ولا يعتقدون في نسبية الحقيقة العلمية. لذلك ينطبق عليهم ما قالهتوماس بين من أنّ« من ينكر على الآخرين حقهم في إبداء رأيهم إنما هو عبد لرأيه الحالي لأنه يسلب نفسه حق تغيير هذا الرأي»
والتركيز على الإرهاب الفكري عند العرب لا يعني بالضرورة غياب جميع أشكال الإرهاب الأخرى، بقدر ما يعنيإحتلال الإرهاب الفكريلموقع الصدارة في ترتيب صنوف الإرهاب و ضروبهالمختلفة.
أنّنا عندإستحضارنا وإستبطاننا لتاريخنا نقف، قطعا، على صور رهيبة كثيرة من فضاعات الإرهاب الفكري المسلّط عبر العصور على أصحاب الرؤى الثورية الحرّة والأفكار الجديدةالذين كان حالهم كمن يصرخ في صحراء ولا أحد يسمعه. إلّا انّنا لضيق المجال سنقتصر على عرضمحنة ابن رشد فحسب بعد الإشارة-ودون توسّع- إلى حالات قليلة أخرى تعود بالأساس إلى التاريخ المعاصر والحديث.
فقد كانت مأساة ابن المقفّع الذي ينتمي فكريّا إلى فرقة "إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء"لمجرّد كتابة مخطوطة كانت سببا في تقطيع جسده الذي أكره على أكله مشويًّا حتى مات وهو في مقتبل العمر، ولم يتجاوز السادسة والثلاثين.
ولقي الحلّاج بعد تكفيره، مصيرا مشابها، حيث تمّ صلبه حيًّا، وفي مرحلة ثانية وقع تقطيع جسده هو الآخر، لأنّه هو وابن العربي الذي كفّروه أيضا، يعتقد بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ.
أمّا البيروني، الذي أطلق اسمه على بعض معالم القمر، وقال عنه المستشرق سخاو: « إن البيروني أكبر عقليّة في التاريخ»، فقد تمّ تكفيره بعدما ناقش مسألة تكوين مرصد للتنبّؤ بأحوال الطقس. ضرورة أن ذلك من اختصاص الله وحده !!!
وأمّا فيلسوف الأدباء أبو حيّان التوحيدي، الكاتب المعتزلي المبدع، فقد اتّهم بالزندقة والإلحاد لقوله بالتعطيل-وهو النفي والإنكار- فأحرق كتبه بنفسه نتيجة الأحباط ، بعد أن تجاوز التسعين من العمر وعاش بقيّة أيامه مستترا خوف من القتل.
وأمّا عميد الأدب العربي طه حسين- فقد كفّروه ، لما ورد في كتابه "في الشعر الجاهلي". لأنّ التكفيريين رأوا فيه محاولة للاعتداء على التراث العربي الإسلامي وزرع الأساطير والشبهات في قلب السيرة النبويّة لتلويثها بعد أن نقّاها مؤرخو الإسلام!!!
وأمّا في التاريخ الحديثّ فلا يمكن تجاوز محنة الباحث الأكاديمي نصر حامد أبى زيد، ، فهي جاءت بعد تكفير فرج فوده وقتله، وإثر محاولة نصر حامد، ممارسة الفكر النقدي العلمي الخالص، بتأليفه لكتاب "نقد الخطاب الديني" الذي رأى أنّه يخلط ما بين الديني والفكري و يعتمد على آليّة النقل ، دون تدبُّر وتفكُّر؛ بما يناهض الإبداع ويسبّب العقم الفكري.كما دعا إلى وجوب التحرّر من سلطة النصّ القرآني و من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان. فوقع اتهامه بالارتداد والإلحاد، ثمّ وقع التفريق بينه وبين زوجته قسراً.
وفي ذات السياق نذكر علي عبد الرّازق صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم" الذي كفّروه وسحبوا منه شهادته العلميّة وقطعوا عنه راتبه كموظّف، ومحمود محمد طه وهو مفكّر إسلامي سوداني، أتهم بالردّة ثمّ أعدموه رغم سنّه المتقدمة ، وابن الرواندي صاحب كتاب"فضيحة المعتزلة" ردا على كتاب الجاحظ "فضيلة المعتزلة" الذي كفّروه بعد تشيّعه ثمّ خروجه عن الإسلام، وكذلك المفكّر حسين مروة الذي قتلوه، ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي اللذان كفّروهما واتهموهما بأنّهما عميلان للغرب. أمّا على الوردى وعلى شريعتي، اللذان نقدا الدّين والأنبياء وأصناف من رجال الدين، ودعيا إلى ثورة في الفكر الإسلامي فقد أعتبروهما تنويريين ووقع تكفيرهما بتلك "التهمة"!!!
ناتي الآن إلىالفيلسوف إبن رشد،الذي كتب المستشرق الإسباني البروفيسور ميغيل هرنانديز يقول في شأنه« إن الفيلسوف الأندلسي ابن رشد سبق عصره، بل سبق العصور اللاحقة كافة، وقدم للعلم مجموعة من الأفكار التي قامت عليها النهضة الحديثة». لأنّه يعتبر-عن جدارة- أفضل فيلسوف أنتجته الحضارة العربيّة الإسلاميّة على مدى تاريخها المديد. فهوقامة علميّة عالميّة سامقة.أثّر في العالم الإسلامي والمسيحي وأوروبا، لا سيما أنّه المترجم والشارح الأكبر لنظريات أرسطو. وهو أبرز المنتقدينلزعيم المتكلمين الامام أبو حامد الغزاليالذي كفّر فلاسفة الإسلام في كتابه تهافت الفلاسفة الذي شرح فيه تناقض منهجهم. فردّ عليه إبن رشد منتقدافيكتاب (تهافت التهافت) الذي أكّد فيه على الاعتراف بحق الاختلاف وبالحق في الخطأ.وأمّا محنته فكانت على خلفيّة اتهامهبالكفر والضلال والمروقعن الدين. وذلكبمجرّد وشاية من خصومه أفضت إلى محاكمته.حيث لعنه الحاضرونمن كبار القوم. ثمّ تمّإخراجه من المحكمة على حال سيئة، ونفيه إلى قرية لا يسكنها غير اليهود. ليس هذا فحسب، بل أمر الخليفة المنصور بحرق جميع مؤلفاته الفلسفية وبمنعه من الاشتغال بالفلسفةوالعلوم ما عدى الطبّ.
إلّا انّ السبب الحقيقي للمحاكمة كان في جوهره علىخلفيّة موقفه من فقهاء عصره / أهل النقل الذين قال عنهم: « ظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام و أنّهم مقلدون. و الفرق بين هؤلاء و بين العوام أنّهم يحفظون الآراء الّتي للمجتهدين فيخبرون بها العوام من غير أن تكون عندهم شروط الاجتهاد, فكأن مرتبتهم في ذلك مرتبة الناقلين عن المجتهدين ».كما كان بسببتأكيد ابن رشد على أن الأرض كرويّة. وبصفة خاصة على موقفه المتميّز من قضيّة العلاقة بين الدين والفلسفة أو الشريعة والحكمة من خلال كتابه (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال). حيث يقول أن « لا تعارض بين الدين والفلسفة، وإذا كان هناك من تعارض فالتعارض ظاهري بين ظاهر نص ديني وقضيّة عقليّه ونستطيع حلّه بالتأويل…». ومن هذا المنطلق فهويرى أن الشرع أوجب ليس فقط النظر بالعقل في الوجود بل أوجب كذلك دراسة المنطق.ويرى أيضا «أنّ القضايا البرهانيّة العقليّة هي حقّ، وما نطق به الشرع حقّ، والحقّ لا يضاد الحقّ بل يؤكّده ويشهد له»، بما يعني أنّ الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين)لايتناقضان كما ذهب الغزالي إلى ذلك في "تهافت الفلاسفة "الذي شكّل في تقديري تكريسا للإنغلاق ومصادرة للرأي الآخر .ذلك أنّه بموتإبن رشد -وياللأسف- انتصرت مدرسة النقل لزعيمها "حجّة الإسلام" الغزالي، و"العالم الأوحد"، كما يلقّبه مريدوه، نهائيّا، على المنهج العقليالذي مثّله ابن رشد ، باعتباره كاد يؤلّه العقل رغم تديّنه الشديد..وكان من نتائج ذلك أن أغلق باب الاجتهاد، واستسلم المسلمون لنوم عميق، ما زالوا يغطّون فيهإلى اليوم. فلعلّهم استمرؤوه.
ورغم محنته، فقد ظلّ ابن رشد، مبتدع مذهب "الفكر الحر" كما قيل عنه، رغم أسبقيّة أبي بكر بن الصائغ (ابن باجة) الذي يعود له الفضل في تحرر الخطاب الفلسفي وتلميذه ابن طفيل ، شامخا بفضل حرّيته الفكريّة واستقلاليته وعدم تبعيّته لأحد، بما ينطبق عليه قولة فريدريك نيتشه«امتياز امتلاك المرء لنفسه لا يقدر بثمن».ولذلك فقد قال ابن رشد عند موته كلمته المأثورة في ذات السياق«تموت روحي بموتِ الفلسفة». لكنّ ما حصلهو العكس تماما. إذ أنّ الفلسفة الإسلامية هي التي ماتت بموت روحه. فهو دون شكّ أخر فيلسوف مسلم.
وما يمكن إستنتاجه من محاكمة كل من إبن رشد وغاليليأن تداعياتهماكانتمتناقضة وأثّرت على مسار التاريخ في الشرق والغرب. فقد أدّت محاكمة ابن رشد إلى أفول الفلسفة الإسلاميّة و بداية تخلّفوانحطاط العالم العربي والإسلامي الذي لا يزال متواصلا إلى اليوم بشكل جنوني، لاسيما من خلال سعي المتشدّدين، الذين يحنّون إلى تطبيق أحكام الردّة في غير سياقها الموضوعي، إلى إرساء الدولة الدينيّة لإرهاب البشر واسترقاقهم باسم الدين. بما يذكّرني بمقولة فريدريك نيتشه« أشعر كلما تعاملت مع رجل متدين بالحاجة إلى أن أغسل يَدَيّ».بينما ساهمت محاكمة غاليلي بشكل محوري في قيام نهضة أوروبّا والغرب عموما، وبروز فلاسفة عصر الانوار وقيام الثورة الفرنسيّة وتكريس قيم الديمقراطيّة والمواطنة واحترام حقوق الإنسان عبر إرساء الدولة المدنيّة الحديثة التي حرّرت الإنسان من عقاله وفجّرت طاقاته الكامنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.