الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة مصرية : مياه النيل .. فى خطر !!
نشر في حريات يوم 01 - 01 - 2014


(ولاء الشيخ – العربية للدراسات )
فى صيف 2009 تصاعدت حدة الخلافات بين مصر والسودان من ناحية ودول منابع النيل من ناحية أخرى و تطورت هذه الخلافات لتصنع أزمة حقيقية بين دولتى المصب – مصر والسودان- ودول منابع النيل مازالت تداعياتها مستمرة حتى الآن ، من ينظر إلى هذه الأزمة لأول وهلة يعتقد أنها طارئة ، لكن فى الواقع فإن أزمة مياه النيل لها جذور تاريخية .
وكان إستقلال (( دول المنابع )) عن الدول الإستعمارية .. كلمة السر فى أزمة مياه النيل ، المحرك الأساسى لرفض هذه الدول الإعتراف بحصتى مصر والسودان من مياه النيل ، أعلنت كل من إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا – عقب إستقلالها – عدم إعترافهم بالإتفاقيات المنظمة لتقاسم مياه النيل وخاصة إتفاقيتى 1929 و 1959 ، عللت هذه الدول رفضها لهذه الإتفاقيات التاريخية بأن هذه الإتفاقيات تم توقيعها بين مصر والسودان من ناحية والدول الأوروبية الإستعمارية من ناحية أخرى ، نيابة عن دول منابع النيل والتى كانت تقع تحت إحتلال الدول الإستعمارية وبالتالى – بحسب زعمهم – كانت دول المنابع دولاً غير مكتملة السيادة .
وأيدت دول المنابع ما أطلق عليه (( مبدأ نيريرى )) الذى نسب إلى الرئيس التنزانى الأسبق جوليوس نيريرى والذى أكد فيه (( أن الدولة المستقلة عن الإستعمار غير ملزمة بما سبق أن وقعته الدول الإستعمارية قبل الإستقلال من إتفاقيات ومعاهدات )) .
…. وقبل أن نتطرق لتداعيات الأزمة وتفاعلاتها نعرض الإتفاقيات التى تنظم مياه النيل ، وتستند عليها كل من مصر والسودان كحجج تحفظ حقوقهما فى مياه النيل .
إتفاقيات مياه النيل
ينظم وصول مياه النيل إلى كل من مصر والسودان إلى جانب قانون الطبيعة عدة إتفاقيات وهى :
1- بروتوكول روما :
وقد تم توقيع هذا البروتوكول فى روما فى 15 أبريل من عام 1891 بين كل من بريطانيا وإيطاليا ، فيه تعهدت إيطاليا وتحديداً فى مادته الثالثة ب (( عدم إقامة أية منشآت لأغراض الرى على نهر عطبرة يكون من شأنها تعديل تدفق مياهه إلى نهر النيل على نحو محسوس )) .
2- المعاهدة البريطانية – الإثيوبية :
ووقعت هذه المعاهدة بين بريطانيا وإثيوبيا – التى كانت تسمى آنذاك بالحبشة – فى 15 مايو من عام 1902 ، فيها تعهد ملك الحبشة لحكومة بريطانيا ب (( أن لايصدر تعليمات أو يسمح بإصدارها فيما يتعلق بعمل أى شىء على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط يمكن أن يسبب إعتراض سريان مياهها إلى النيل دون الموافقة المسبقة لحكومة بريطانيا وحكومة السودان)) .
3- الإتفاق البريطانى – الفرنسى – الإيطالى :
ووقع هذا الإتفاق فى لندن فى 13 ديسمبر من عام 1906 ، بموجبه وافقت الدول الثلاث على أن (( تتعاون فى حفظ الوضع الراهن فى إثيوبيا )) … كما اتفقوا على (( أن يعملوا معاً لتأمين مصالح بريطانيا ومصر فى حوض النيل .. وخصوصاً تأمين وصول النيل الأزرق وروافده إلى مصر مع الأخذ فى الإعتبار المصالح المحلية للدول التى يمر فيها النهر )) .
4- الإتفاق البريطانى – البلجيكى :
ووقع هذا الإتفاق فى لندن فى 12 مايو من عام 1906 بين (( إدوارد السابع )) ملك بريطانيا و (( ليوبولد الثانى )) ملك بلجيكا وعاهل دولة الكونغو المستقلة ، ذلك لتعديل مناطق نفوذهما فى إفريقيا الوسطى التى كانت محددة من قبل بموجب (( إتفاق بروكسل )) الذى تم توقيعه فى 12 مايو من عام 1894 ، فى البند الثالث من الإتفاق الجديد تعهدت حكومة الكونغو (( بأن لا تقيم أو تسمح بإقامة أية أشغال على نهر سمليكى أو نهر أسانجو أو بجوار أى منهما يكون من شأنها خفض حجم المياه التى تتدفق فى بحيرة ألبرت مالم يتم ذلك بموافقة الحكومة السودانية )) .
5- إتفاقية 1929 :
وقد وقعت هذه الإتفاقية بين مصر من ناحية وبريطانيا وكيلاً عن السودان من ناحية أخرى ، قد نتجت هذه الإتفاقية عن الأزمة التى نشبت بين مصر وبريطانيا بسبب تأجيل مصر للأخذ بتوصيات لجنة (( ماكدونالد )) التى رأسها السير مردوخ ماكدونالد ونشر تقريرها فى عام 1920 ، أوصت هذه اللجنة بإنشاء خزان سنار على النيل الأزرق لتأمين مياه مشروع الجزيرة بالسودان ، إنشاء خزان فى جبل الأولياء لتأمين إحتياجات مصر من المياه صيفاً .
ولكن بريطانيا استغلت مقتل السردار البريطانى فى عام 1924 ، أنذرت الحكومة المصرية بأنها ستستخدم ما شاءت من مياه نهر النيل لتزرع ما تريده من الأراضى فى السودان إذا لم تقم الحكومة المصرية بتشكيل لجنة دولية تبت فى مسألة نصيب كل من مصر والسودان من مياه النيل ، قد استجابت الحكومة المصرية حينها وقامت بتشكيل لجنة لبحث نصيب كل من مصر والسودان من مياه النيل ، تشكلت هذه اللجنة برئاسة المهندس الهولندى (( كانتر كرمرز )) وبعضوية (( عبدالحميد سليمان )) ممثلاً لمصر و(( ماكجريجور )) ممثلاً لبريطانيا .
واعترف تقرير هذه اللجنة بحق السودان فى التوسع الزراعى بشرط ألا يسبب ذلك إفتئاتاً على حقوق مصر التاريخية فى مياه النيل ، حددت حصة كل من مصر والسودان بناءاً على إحتياجات الأراضى التى كانت تزرع فى البلدين حينها بنحو 48 مليار متر مكعب سنوياً لمصر و 4 مليارات متر مكعب سنوياً للسودان .
وأخذ ما انتهت إليه (( لجنة كرمرز )) فى تقريرها أساساً للإتفاقية التى وقعت بين مصر وبريطانيا فى مايو من عام 1929 بل وأصبح هذا التقرير جزءاً من الإتفاقية .
6- الإتفاقية المصرية – البريطانية :
وقد نشأت هذه الإتفاقية من مذكرتين الأولى بعثت بها الحكومة البريطانية – كوكيل عن أوغندا التى كانت جزءاً من إمبراطوريتها – إلى الحكومة المصرية بتاريخ 19 يناير من عام 1949 وجاء فيها (( نظراً لحاجة أوغندا الملحة للطاقة الكهربائية فإنها تنوى عمل خزان لتوليد الكهرباء … مؤكدة أن إنشاء الخزان وتشغيله لن يكونا من شأنهما خفض كمية المياه التى تصل مصر أو تعديل تاريخ وصولها إليها أو تخفيض منسوبها بما يسبب أية أضرار لمصالحها )) .
وقد ردت الحكومة المصرية على المذكرة البريطانية بمذكرة مؤرخة فى 5 فبراير من عام 1949 جاء فيها (( لما كانت سياسة الرى المصرية تقوم على أساس إقامة عدة مشروعات للتحكم فى مياه النيل من بينها التخزين السنوى وتكوين إحتياطى فى بحيرة فيكتوريا ، فإنه يبدو أن من المصلحة المتبادلة لكل من مصر وأوغندا أن تتعاونا فى بناء الخزان عند مخارج البحيرة لأغراض الرى فى مصر وتوليد الكهرباء لصالح أوغندا )) .
وبموجب هذه الإتفاقية تم إنشاء الخزان فى عام 1954 و الذى أطلق عليه إسم (( خزان أوين )) ، بعد أن أخذ فى الإعتبار الملاحظات المصرية حيث تم تعديل التصميم المعد للمشروع من أجل توليد الكهرباء لصالح أوغندا وتخزين المياه لصالح مصر ، مازال هذا الخزان يعمل حتى الآن دون أية عوائق .
7 – إتفاقية 1959 :
فى 8 نوفمبر من عام 1959 وقعت كل من مصر والسودان الإتفاقية الخاصة بإنتفاع البلدين بمياه نهر النيل وقد نصت الإتفاقية عدة بنود أهمها أن ما تستخدمه مصر من مياه نهرالنيل حتى توقيع هذه الإتفاقية هو الحق المكتسب لها قبل الحصول على الفوائد التى ستحققها مشروعات ضبط النهر ويقدر حق مصر المكتسب بنحو 48 مليار متر مكعب عند أسوان سنوياً ، كما نصت الإتفاقية على أن مايستخدمه السودان وقت توقيع الإتفاقية هو الحق المكتسب له قبل الحصول على فائدة المشروعات المائية ، قدر حق السودان فى مياه النيل بنحو 4 مليارات متر مكعب سنوياً.
وبموجب هذه الإتفاقية وافق السودان على إنشاء السد العالى فى أسوان كاول حلقة فى مشروعات تخزين المياه على مجرى نهر النيل ، كما وافقت مصر على السماح للسودان بإنشاء خزان الروصيرص على النيل الأزرق لكى يتمكن السودان من إستغلال حصته من مياه النيل .
كمادفعت مصر للسودان بمقتضى هذه الإتفاقية مبلغاً يقدر بنحو 15 مليون جنيهاً مصرياً كتعويض عن الأضرار التى تلحق بالممتلكات السودانية ، كما تعهدت حكومة السودان بأن تتخذ إجراءات ترحيل سكان حلفا وغيرهم من السكان السودانيين الذى ستغمر أراضيهم بمياه التخزين خلف السد العالى ، بالإضافة إلى ذلك وضعت الإتفاقية الأسس التى ستسير عليها مصر والسودان لمنع ضياع كميات من مياه النيل فى مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال ونهر السوباط ، كما أرست الإتفاقية قواعد التعاون الفنى بين البلدين فيما يتعلق بإجراء دراسات ضبط النهر وزيادة إيراده .
وطبقاً لهذه الإتفاقية وزع صافى الفائدة من المياه الناتج من بناء السد العالى على الدولتين لتصبح حصة مصر السنوية من مياه النيل نحو 55,5 مليار متر مكعب ولتصل حصة السودان السنوية من مياه إلى نحو 18,5 مليار متر مكعب .
8- إتفاق القاهرة :
وتم توقيعه فى يوليو من عام 1993 بين الرئيس المصرى آنذاك حسنى مبارك ونظيره الإثيوبى ميلس زيناوى أثناء زيارة الأخير للقاهرة ، فى هذا الإتفاق تعهد الطرفان بالإمتناع عن أى نشاط يؤدى إلى إحداث ضرر بمصالح الطرف الآخر فيما يتعلق بمياه النيل ، كما تعهد الطرفان على التشاور والتعاون فى المشروعات ذات الفائدة المتبادلة ، كما اتفقا على إنشاء آلية لمناقشة الموضوعات ذات الإهتمام المشترك بما فيها ملف (( مياه النيل )) .. وهذا الإتفاق تم توقيعه وإثيوبيا دولة مستقلة ذات سيادة .
الإتفاقيات التاريخية لمياه النيل .. والقانون الدولى
استقر الفقه الدولى على إطلاق وصف (( النهر الدولى )) على الأنهار الممتدة بين إقليمى دولتين أوأكثر ،يعد نهر النيل بحسب الفقه الدولى (( نهراً دولياً )) شأنه فى ذلك شأن أنهار الراين والدانوب وغيرها.
وقد جرت العادة على أن تدخل الدول المشتركة فى أحواض الأنهار فى إتفاقيات تنظم طريقة إستغلال الأنهار الدولية ، كما أن مبادىء عامة يحددها القانون الدولى يجب مراعاتها عند التعامل مع الإتفاقيات التى تنظم إستغلال مياه الأنهار الدولية ومنها بالطبع نهر النيل ، من أهم هذه المبادىء مراعاة الحقوق المكتسبة للدول المشتركة فى النهر من حيث كميات المياه التى كانت تحصل عليها كل دولة فى الماضى ، مراعة التوزيع العادل لمياه النهر ويتم ذلك عن طريق تقدير حاجة كل دولة من دول الحوض على حدة ، مدى إعتمادها على مياهه ، كما يجب على الدول المشتركة فى أحواض الأنهار الإعتداد بالقواعد التى اتفقت عليها من قبل الدول المشتركة فى النهر الدولى ، كذلك تؤكد هذه المبادىء على أن الدولة التى ترغب فى إدخال تعديلات فى طريقة الإنتفاع بنهر معين مثل إنشاء مشروع مائى جديد أو تحويل مجرى النهر أن تدخل فى مفاوضات مع الدول الآخرى المشتركة معها فى النهر الدولى للحصول على موافقتها ، فإذا لم يتم الإتفاق بين هذه الدول يتم عرض الأمر على التحكيم الدولى لتقريب وجهات النظر والوصول إلى حل يرضى جميع الأطراف ، فإذا قامت الدولة بمثل هذه المشروعات أو التعديلات دون موافقة الدول الآخرى وبدون عرض النزاع على التحكيم الدولى فأنه يترتب على ذلك مسئولية هذه الدولة عن الأضرار التى تصيب تلك الدول نتيجة هذه الأعمال .
والإتفاقيات والمعاهدات وقواعد القانون الدولى لا تلغى بالتقادم ولا تخضع للإنتقائية ، كما أن هذه الدول الأوروبية قامت بحكم قواعد القانون الدولى عند إحتلالها لدول منابع النيل بتوقيع هذه الإتفاقيات فيما بينها لتنظيم العلاقات فى الدول الواقعة تحت إحتلالها .
ومما يؤكد ذلك الحكم الذى أصدرته محكمة العدل الدولية فى عام 2010 بمناسبة النزاع بين الأرجنتين وأوروجواى وكذلك فى النزاع بين المجر وسلوفاكيا ، حيث أكدت المحكمة أن المعاهدات ذات الطابع الإقليمى ومنها الإتفاقيات المتعلقة بالأنهار الدولية هى من المعاهدات التى لايجوز المساس بها نتيجة للتوارث الدولى ، أى أنها من المعاهدات الدولية التى ترثها الدولة الخلف – المستقلة- … عن الدولة السلف – المحتلة – ولايجوز التحلل منها لأى سبب من الأسباب .
…ومنذ أن تم الإعلان عند مبدأ (( نيريرى )) واستمر الوضع على ماهو عليه من رفض دول المنابع للإتفاقيات التاريخية لمياه النيل مع عدم تحركها لتغييرها لأسباب داخلية ، لكن مع موجة الجفاف التى ضربت دول منابع النيل فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى عادت نغمة (( تقاسم مياه النيل )) مرة أخرى .
مصر .. ولغة التعاون
ورغبة من مصر فى فرض لغة (( التعاون)) على العلاقات بين دول حوض النيل بدلاً من لغة (( التنافس )) وعدم الإعتراف بحقوق دولتى المصب – مصر والسودان- فى مياه النيل ، فإن (( القاهرة )) اقترحت إنشاء تجمع لدول حوض النيل تحت إسم (( مبادرة حوض النيل )) ، وافقت دول الحوض على إنشاء هذه المبادرة فى فبراير من عام 1999 وضمت فى عضويتها دول الحوض التسع – آنذاك – بإستثناء أريتريا التى تمتعت بصفة المراقب .
وقد وضعت المبادرة عدة أهداف لتنفيذها ومنها تحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية لدول حوض النيل من خلال الإنتفاع العادل والإستفادة المنصفة من الموارد المائية المشتركة لنهر النيل ، تشجيع التعاون بين دول الحوض وبما يحقق النفع المتبادل لها جميعاً ، فضلاً عن محاربة الفقر فى هذه الدول ، فضلاً عن التوصل إلى إتفاقية تضمن التوزيع العادل والمنصف لمياه النيل .
وبدأت بالفعل دول حوض النيل فى التفاوض للتوصل إلى إتفاقية ترضى كافة الأطراف … ولكن فى إجتماع وزراء مياه دول حوض النيل الذى عقد فى العاصمة الكونغولية (( كينشاسا )) فى مايو من عام 2009 أعلنت دول منابع النيل – إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندى والكونغو الديمقراطية – أن دول الحوض يجب أن توقع على الإتفاقية الإطارية لمياه النيل ، هو الأمر الذى رفضته مصر والسودان لأن التوقيع على الإتفاقية بالصيغة التى تطالب بها دول المنابع معناها أن دول المنابع لاتعترف بحقوق مصر والسودان فى مياه النيل – 55,5 مليار متر مكعب سنوياً لمصر و 18,5 مليار متر مكعب للسودان – ، أكدت القاهرة والخرطوم أنهما لن يوقعا على الإتفاقية مالم تتضمن البنود الثلاثة التى تحفظ حقوقهما فى مياه النيل وهى بنود الأمن المائى والإخطار والإجماع .
إتفاقية عنتيبى
ومع الرفض المصرى وإنسحاب السودان من الإجتماع .. اضطر وزراء دول المنابع إلى تأجيل المناقشة إلى إجتماع لاحق يعقد فى مدينة الإسكندرية المصرية وعقد هذا الإجتماع بالفعل فى يوليو من عام 2009 .. وفى هذا الإجتماع استمرت الخلافات بين دول المنابع من ناحية ومصر والسودان من ناحية أخرى … واقترح السودان مهلة 6 أشهر للتفاوض بين دول الحوض حول البنود الخلافية .
وبعد إنتهاء المهلة اجتمعت دول حوض النيل فى مدينة شرم المصرية فى 13 أبريل من عام 2010 ، وبعد إجتماع وزراء مياه دول حوض النيل الذى استغرق 17 ساعة ، مع حلول فجر اليوم التالى أصدرت دول منابع النيل السابع وهى (( إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندى والكونغو الديمقراطية ))، بياناً رسمياً يمكن أن نطلق عليه (( بيان الفجر )) جاء فيه (( أن الدول الموقعة على هذا البيان ستبدأ فى 14 مايو من عام 2010 إجراءات التوقيع على الإتفاقية الإطارية منفردة دون مصر والسودان على ألا تزيد مدة هذا التوقيع على عام واحد )) … وهو ماتم بالفعل فى 14 مايو من عام2010 ووقعت أربعة منها وهى (( إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا )) على الإتفاقية الإطارية لمياه النيل – دون موافقة مصر والسودان- فى مدينة عنتيبى الأوغندية ، فى الأسبوع التالى لتوقيع هذه الدول (( وقعت )) كينيا على الإتفاقية ، ثم تبعتها (( بوروندى )) ووقعت على الإتفاقية فى 1مارس من عام 2011 ، ثم أعلنت دولة جنوب السودان بعد حصولها على إستقلالها عن السودان أنها ستوقع على الإتفاقية الإطارية لمياه النيل ، ولم يوقع (( الكونغو الديمقراطية )) حتى الآن على الإتفاقية لظروف لم يتم الإعلان عنها ، وإن كان يتفق مع دول المنابع على ضرورة أن تحل هذه (( الإتفاقية )) محل (( الإتفاقيات التاريخية )) لمياه النيل ، أما أريتريا – دولة المنبع – والتى تتمتع بصفة المراقب فى مبادرة حوض النيل فلم تعلق على توقيع أغلب دول المنابع على الإتفاقية الإطارية لمياه النيل بشكل منفرد وإن كانت أريتريا تدعم حقوق مصر والسودان فى مياه النيل فإن إسهامها فى مياه النيل محدود كما أن وزنها النسبى بين دول المنابع التى وقعت ضعيف وبالتالى فإن الدول التى وقعت على الإتفاقية هى الدول المؤثرة وبالتالى نستطيع أن نطلق عليها مصطلح ((دول المنابع )) عند الحديث عن توقيعها على الإتفاقية وإن لم تضم الكونغو الديمقراطية وأريتريا للأسباب التى ذكرناها عاليه .
أزمة سد النهضة
وبدأت إثيوبيا فى إنشاء (( سد النهضة )) التطبيق العملى الأول لرفض إتفاقيات مياه النيل التاريخية التى ترفضها إثيوبيا كغيرها من دول منابع النيل فى حين أن مصر والسودان تتخذها كحجج لإثبات حقوقهما فى مياه النيل ، للمفارقة فإن السودان رغم تمسكه مع مصر بالإتفاقيات التاريخية لمياه النيل ورفض الإتفاقية الإطارية الجديدة لمياه النيل والتى يطلق عليها (( إتفاقية عنتيى )) فإن السودان يوافق على إنشاء إثيوبيا لسد النهضة … فماهى قصة هذا السد الذى شغل الناس ؟!
بدأ التفكير فى إنشاء سد النهضة بمبادرة من رئيس الوزراء الإثيوبى الراحل (( ميليس زيناوى )) فى أبريل من عام 2010 – وإن كان أصل فكرة المشروع يرجع إلى الدراسات الأمريكية فى ستينيات القرن الماضى – ، أطلق عليه فى البداية إسم المشروع ((x)) ، عند طرح هذه الفكرة الفكرة لاقت معارضة شديدة من قطاعات كبيرة داخل إثيوبيا لتكلفة بناؤه المرتفعة ، فضلاً عن أن إنشاؤه سيفتح باب الحرب مع مصر ، انقل هنا ماقاله أكاديمى إثيوبى هو (( ميركاب نيجاش )) محاضر العلوم السياسية فى جامعة جيما الإثيوبية حيث قال (( بعض المحللين قالوا أن خطوة إنشاء السد سوف تدخلنا فى حرب مع عدونا اللدود مصر )).!!
ورغم المعارضة الداخلية فى البداية فإن العمل بدأ فى مشروع السد فى 2 أبريل من عام 2011 فى منطقة بنى شنقول على بعد نحو 40 كيلو متر من الحدود الإثيوبية السودانية ، قد تعمدت إثيوبيا البدء البدء فى تنفيذ المشروع فى هذا التوقيت حتى تضمن إنشغال مصر بشئونها الداخلية بعد الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك .
ويهدف مشروع السد إلى تخزين نحو 74 مليار متر مكعب سنوياً ، بالإضافة إلى توليد كميات من الطاقة الكهرومائية تقدر بنحو 6000 ميجاوات سنوياً ، المشروع تموله الصين بشكل أساسى و التى دفعت أيضاً نحو مليار دولار لإنشاء خطوط نقل الكهرباء المنتجة فى السد بعد الإنتهاء من إنشاؤه ، أما المصدر الثانى للتمويل فهو تبرع الإثيوبيين بنحو 8 % من دخولهم الشخصية .
وتقوم شركة إيطالية تدعى (( سالينى )) بتنفيذ المشروع وهى أيضاً من وضعت تصميمه تحت إشراف شركة إستشارية فرنسية ، تقدر التكلفة الإجمالية لإنشاء السد بنحو 4,8 مليار دولار .
ويوفر مشروع السد فرص عمل لنحو 5 آلاف مواطن إثيوبى ، بعد الإنتهاء من إنشائه سيعمل على إستمرار تصدير إثيوبيا للطاقة الكهربائية إلى الدول المجاورة … ولكن هل سيؤثر هذا السد على حصة مصر والسودان من مياه النيل
الآثار المتوقعة للسد على مصر والسودان
أفضل السيناريوهات التى تتعلق بسد النهضة وبما فيها تقرير اللجنة الثلاثية لدراسة آثاره ، تؤكد أن مصر والسودان ستتأثران سلباً بعد إنشاء هذا السد ، يمكن إجمال هذه الآثار السلبية فى النقاط التالية :
1 – السعة التخزينية لسد النهضة تبلغ نحو 74 مليار متر مكعب سنوياً من مياه النيل ، بالتالى فإن تخزين هذه الكمية من المياه فى بحيرة السد الإثيويى ستؤثر وبعنف على على حصة مصر المائية حيث ستقل هذه الحصة وكذلك حصة السودان ، بالتالى ستنخفض كميات الكهرباء المنتجة فى السد العالى والتى يتوقع البعض انخفاضها إلى النصف ، سوف تزداد حدة هذه الآثار السلبية خلال فترات الجفاف … وعموماً فإن توسع إثيوبيا فى توليد الطاقة الكهربائية من سد النهضة يتعارض مع عملية إمداد مصر والسودان بمياه النيل .
2 – خفض الحصة المائية المصرية سيؤدى إلى بوار مساحات كبيرة من الأراضى الزراعية فى مصر ويقدرها البعض بنحو 5 ملايين فدان من جملة الأراضى الزراعية فى مصر والتى تبلغ نحو 9,2 مليون فدان ، بالتالى حدوث أزمات غذائية وتشريد ملايين الأسر ، زيادة التلوث فى المسطحات المائية وكذلك ستحدث مشكلات فى مياه الشرب والصناعة ، سيتأثر النقل النهرى سلباً وكذلك المزارع السمكية … وهذا السيناريو مرشح للتطبيق فى السودان أيضاً .
3 – إنهيار سد النهضة – وهو أمر متوقع – سيؤدى إلى حدوث كوارث فى مصر والسودان ومنها غرق العديد من المدن والقرى وبالتالى تصبح حياة الملايين فى خطر ، لدرجة أن هناك سيناريوهات تتوقع أن إنهيار سد النهضة كفيل بمحو العاصمة السودانية (( الخرطوم )) من الوجود بل وكل مدن صعيد مصر ، لدرجة وصول آثارإنهياره إلى الإسكندرية .
النيل شريان حياة مصر
فى إستعراضنا لتفاعلات وتداعيات الأزمة قد يعتقد القارىء الكريم أن ماسبق يدخل فى إطار (( الشوفينية )) لكون كاتب هذا المقال – الدراسة – مصرىاً ، لكن مصر وبحكم القانون الدولى وكذلك بحكم الطبيعة تستحق كل قطرة من مياه النيل فهى تعتمد على مياه النيل بنسبة تصل إلى 97 % فى حين أن إثيوبيا مثلاً يصل إعتمادها على مياه النيل صفر % ، فالنيل شريان حياة مصر ولو – لاقدر الله – قطع هذا الشريان ستتحول مصر إلى صحراء جدباء، تنقل لنا صفحات التاريخ تأثير (( النيل )) على حياة المصريين فإذا جاء الفيضان مرتفعاً بإعتدال عم الرخاء ، إذا جاء منخفضاً عمت الفوضى العارمة والمجاعات التى كانت تضرب مصر من وقت لآخر منذ أن استقر الإنسان المصرى على ضفافه بسبب إنخفاض منسوب فيضان النيل ، حدث ذلك أيضاً فى ظل (( الإخشيديين )) الذين حكموا مصر قبل قيام الدولة الفاطمية بها ، استمرت المجاعة فى عهدهم لمدة تسع سنوات مما أدى إلى سقوط الدولة الإخشيدية بسبب الإضطرابات الداخلية التى نتجت عن وقوع هذه المجاعة ، لتحل محلها دولة (( الفاطميين )) بعد أن كاتب المصريون الخليفة المعز الفاطمى .
و لما قامت دولتهم دولتهم عملوا على تخفيف حدة المجاعات المستمرة من خلال عدة إجراءات منها حملهم للغلال معهم من المغرب ، كما كانوا يكتمون منسوب مياه الفيضان إذا انخفض حتى لاترتفع الأسعار ويختفى الطعام ، كان الخليفة الفاطمى (( الحاكم )) الذى حكم مصر فى الفترة من 1003 إلى 1009 م مهتماً بمواجهة إنخفاض فيضان النيل الذى يتسبب بدوره فى وقوع المجاعات بمصر ، فسمع أن هناك شخصاً بالعراق يدعى (( أبو على الحسن بن الهيثم )) أبدى نبوغاً فى الهندسة .. وأنه قال: – لوكنت بمصر – أى بن الهيثم – لعملت فى نيلها عملاً يحصل به النفع فى كل حالة من حالاته من زيادة ونقص … فأرسل الحاكم فى طلبه ولما وصل مصر استقبله بنفسه وبعثه مع مجموعة من الصناع جابوا الأراضى المصرية حتى وصلوا إلى اسوان … ولكن بن الهيثم لم يستطع أن ينفذ مشروعاً لضبط النيل … ومع ذلك أبقاه الحاكم مكرماً فى مصر حتى وفاته .
وبعد (( الحاكم )) استمرت المجاعات تضرب مصر ، حيث وقعت أعوام 1052 و 1055 و 1058 م ، لكن المجاعة الأضخم وقعت فى عهد (( المستنصر )) الفاطمى فى الفترة من 1065 م إلى 1071 م ، استمرت لمدة سبع سنوات وشكل متصل مما دفع المؤرخون إلى تسميتها ب (( الشدة المستنصرية )) لوقوعها فى عهد المستنصر الفاطمى ، خلال هذه الأعوام السبع اضطر المصريون إلى أكل الميتة من الكلاب والقطط بل وصل الأمر إلى أكل الأطفال الصغار بعد ذبحهم وشيهم ، قدر عدد من هلكوا فى هذه المجاعة – الشدة – بنحو ثلث سكان مصر حينها .
واستمرت الشدة إلى أن جاء منسوب فيضان النيل مرتفعاً وحينها ذهبت الفتن وعادت الزراعة وأقبل الخير .
ولما كانت الشدة المستنصرية قد حدثت بسبب إنخفاض فيضان النيل ، فإن مايمكن أن نسميها ب (( النكبة الأيوبية )) والتى وقعت فى عهد العادل الأيوبى الذى حكم مصر فيما بين 1199 م إلى 1218 م كانت أيضاً بسبب إنخفاض منسوب فيضان النيل كمايروى أحداثها الرحالة (( عبداللطيف البغدادى )) فيقول (( ودخلت سنة سبع مفترسة أسباب الحياة وقد يئس الناس من زيادة النيل وارتفعت الأسعار وأقحطت البلاد وأشعر أهلها البلاء وهرجوا من خوف الجوع وانضوى أهل السواد والريف إلى أمهات البلاد وانجلى كثير منهم إلى الشام والمغرب والحجاز واليمن وتفرقوا فى البلاد ومزقوا كل ممزق )) .
ويكمل البغدادى شهادته على هذه الأحداث العصيبة التى ألمت بمصر سنة 595 هجرية بقوله (( ودخل القاهرة ومصر منهم خلق عظيم واشتد بهم الجوع ووقع فيهم الموت عند نزول الشمس الحمل … وبىء الهواء ووقع المرض والموتان واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بنى أدم فكثيراً ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون أو مطبوخون فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل )) .
ويستفيض البغدادى فى روايته المفجعة ويقول (( رأيت صغيراً مشوياً فى قفة ، قد احضر إلى دار الوالى ومعه رجل وإمراة يزعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما )) .
ويستطرد البغدادى ليقول (( ووجد فى رمضان وبمصر رجل وقد جردت عظامه عن اللحم ، فأكل وبقى قفصاً كما يفعل الطباخون بالغنم )) .
ويكمل البغدادى بقوله (( ومثل هذا أعوز جالينوس مشاهدته ولذلك تطلبه بكل حيلة وكذلك كل من آثر الإطلاع على علم التشريح … وحينما نشم الفقراء فى أكل بنى آدم كان الناس يتناقلون أخبارهم ويفيضون فى ذلك إستفظاعاً لأمره وتعجباً من ندوره … ثم اشتد قربهم إليه وإعتيادهم عليه بحيث اتخذوه معيشة ومطية ومدخراً وتفننوا فيه … وفشا عنهم ووجد بكل مكان من ديار مصر فسقط حينئذ التعجب والإستبشاع واستهجن الكلام فيه والسماع له )) .
ويسهب البغدادى فى روايته لتداعيات القحط الذى حل بمصر لإنخفاض فيضان النيل بقوله (( ولقد رأيت إمرأة يسحبها الرعاع فى السوق وقد ظفر معها بصغير مشوى تأكل منه وأهل السوق ذاهلون عنها ومقبلون على شئونهم وليس فيهم من يعجب لذلك أو ينكره فعاد تعجبى منهم أشد وما ذلك إلا لكثرة تكراره على إحساسهم حتى صار فى حكم المألوف الذى لايستحق أن يتعجب منه … ورأيت قبل ذلك بيومين صبياً نحو الرهاق مشوياً وقد أخذ به شابان أقرا بقتله وشيه وأكل بعضه )) .
ويكمل البغدادى بقوله (( وفى بعض الليالى بعد صلاة المغرب كان مع جارية فطيم تلاعبه لبعض المياسير فبينما هو إلى جانبها ، اهتبلت غفلتها عنه صعلوكة فبقرت بطنه وجعلت تأكل منه نياً … وحكى لى عدة نساء أنه يتوثب عليهن لإقتناص أولادهن ويحامين عنهم بجهدهن )) .
ويمضى البغدادى فى وصفه ل(( النكبة )) التى ألمت بمصر ليقول (( وظهر من هؤلاء الخبثاء من يصيد الناس بأصناف الحبائل ويجتلبونهم إلى مكانهم بأنواع المخاتل وقد جرى ذلك لثلاثة من الأطباء أما أحدهم فإن أباه خرج فلم يرجع ، أما الآخر فإن امرأة اعطته درهمين على أن يصحبها إلى مريضها فلما توغلت به مضايق الطرق استراب وامتنع عنها وشنع عليها فتركت درهميها وأما الثالث فإن رجلاً استصحبه إلى مريضه فى الشارع بزعمه وجعل فى أثناء الطريق يصدف بالكسر ويقول اليوم يغتنم الثواب ويتضاعف الأجر ولمثل هذا فليعمل العاملون ، ثم كثر حتى ارتاب منه الطبيب ومع ذلك فحسن الظن بقلبه و قوة الطمع تجذبه حتى أدخله داراً خربة فزاد إستشعاره وتوقف فى الدرج وسبق الرجل فاستفتح ، فخرج إليه رفيقه يقول له (( هل مع إبطائك حصل صيد ينفع ، فخرج الطبيب لماسمع ذلك وألقى نفسه إلى اصطبل من طاقة صادفها السعادة فقام إليه صاحب الإصطبل يسأله عن قضيته فأخفاها عنه خوفاً منه أيضاً … فقال له : قد علمت حالك فإن أهل هذا المنزل يذبحون الناس بالحيل )) .
ويكمل البغدادى روايته ليقول (( ومما شاع أيضاً نبش القبور وأكل الموتى وبيع لحمهم )) .
ويقول البغدادى كذلك (( وهذه البلية التى شرحناها وجدت فى جميع بلاد مصر ليس فيها بلد إلا وقد أكل فيه الناس أكلاً ذريعاً من أسوان وقوص والفيوم والمحلة والإسكندرية ودمياط وسائر النواحى )) .
ويكمل البغدادى المأساة ليقول (( وأما الضواحى والقرى فأنه هلك أهلها قاطبة إلا ما شاء الله ، إن المسافر ليمر بالبلدة فلا يجد فيها نافخ ضرمة ويجد البيوت مفتحة وأهلها موتى متقابلين بعضهم قد رم وبعضهم طرى وربما وجد فى البيت أثاثه وليس له من يأخذه )) .وكذلك شاع بيع الفتيات وعن ذلك يقول البغدادى (( سألتنى امرأة أن اشترى إبنتها وكانت جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم فعرفتها أن ذلك حرام ، فقالت خذها هدية ، كثيراً ما يترامى النساء والولدان الذين فيهم صباحة على الناس بأن يشتروهم أو يبعوهم ، قد استحل ذلك خلق عظيم ، وصل سبيهم إلى العراق وأعماق خراسان وغير ذلك )) .
وقدر عدد من لقوا حتفهم فى النكبة الإيوبية بنحو 220 ألف مصرى من مختلف مناطق مصر .
… وبالتالى فإن وقائع (( الشدة المستنصرية )) و (( النكبة الإيوبية )) مرشحة للتكرار والإستدعاء من ذاكرة التاريخ – لاقدر الله – فى حالة الإنتقاص من حصة مصر من مياه النيل والمقدرة بنحو 55,5 مليار متر مكعب سنوياً سواء عن طريق إعادة توزيع حصص المياه بين دول منابع النيل بموجب الإتفاقية الإطارية لمياه النيل التى وقعتها ((6 )) من دول المنابع ، أو بناء سدود جديدة لمنع مياه النيل من التدفق الطبيعى إلى مصر … ليس هذا تهويلاً بالطبع ولكنها أحداث وقعت بالفعل – وإن كانت جزءاً من التاريخ – ومرشحة للحدوث الآن لأن الأوضاع لم تتغير عن وقت وقوع (( الشدة المستنصرية )) أو (( النكبة الأيوبية )) فمصر تعتمد بصورة أساسية على نهر النيل …. والنيل ببساطة شريان حياة مصر فإذا قطع الشريان – لاقدر الله – ماتت مصر فى الحال !!
المخرج من الأزمة
لن تحل أزمة مياه النيل إلا بدخول دول حوض النيل وبإقتناع تام فى منظومة تعاون، وآفاق التعاون بين دول حوض النيل رحبة وتسع الجميع ومنها وقف إهدار المياه فى دول حوض النيل والتى تقدر بنحو 70 مليار متر مكعب سنوياً تذهب دون إستفادة بسبب التبخر وفى المستنقعات ، ذلك من خلال مشروعات تشترك فيها كل دول الحوض وفى القلب منها مشروع (( قناة جونجلى )) المعطل الذى لو تم تنفيذه سينتج عنه فى مرحلته الأولى فقط نحو 25 مليون متر مكعب يومياً ، لترتفع هذه الكميات فى مرحلته الثانية لتصل إلى نحو 55 مليون متر مكعب ، يمكن تقسيمها بالتساوى بين مصر والسودان وجنوب السودان ، هذه الكميات للأسف تضيع هباءاً فى جنوب السودان يومياً بسبب التبخر والمستنقعات .
وفيما يتعلق بأزمة (( سد النهضة )) فعلى دول حوض النيل الشرقى – مصر والسودان وإثيوبيا – الدخول فى مفاوضات جادة وفق إطار زمنى محدد لايتجاوز ستة أشهر للتوصل إلى صيغة توافقية حول سد النهضة ، فإذا فشلت المفاوضات فيمكن لمصر – المتضرر الأكبر من السد – اللجوء لمحكمة العدل الدولية .. فإذا أصدرت المحكمة حكماً فيجب على كل الأطراف إحترامه .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.