منع قناة تلفزيونية شهيرة في السودان    وزارة الصحة تلتقي الشركة المصرية السودانية لترتيب مشروعات صحية مشتركة    ماذا قال ياسر العطا لجنود المدرعات ومتحركات العمليات؟! شاهد الفيديو    تم مراجعة حسابات (398) وحدة حكومية، و (18) بنكاً.. رئيس مجلس السيادة يلتقي المراجع العام    انطلاق مناورات التمرين البحري المختلط «الموج الأحمر 8» في قاعدة الملك فيصل البحرية بالأسطول الغربي    شاهد بالصور.. ما هي حقيقة ظهور المذيعة تسابيح خاطر في أحضان إعلامي الدعم السريع "ود ملاح".. تعرف على القصة كاملة!!    تقارير صادمة عن أوضاع المدنيين المحتجزين داخل الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوهام الأغورا العربية على الشبكة الافتراضية
نشر في حريات يوم 15 - 01 - 2014

ارتبط مفهوم (الأغورا) كساحة عمومية حين ظهرت لدى اليونان بمعنى الديمقراطية، وَاعْتُبِرَتْ تَجْسيداً لها. فَقَدْ كان مِنْ حَقِّ كُلِّ مواطنٍ مِنْ مواطني الدولة المدينة (أثينا) أنْ يُعَبِّرَ عن آرائه في قضايا الشأن العام بهذه الساحة، ويُشارِكَ بصوته فيها، حيث اعْتُبِرَتْ، ولأول مرة في تاريخ البشريةِ، كل القضايا المشتركة بين الناس غير خاضعة للحسم، كما اعْتُبِرَتِ القراراتُ المتعلقة بالمصلحة العامة شأناً عامّاً لا يمكنُ أَنْ يُتَّخَذَ إِلّا بَعْدَ نِقاشٍ عَلَنِيٍّ وَسِجالِيٍّ يَكونُ مَفْتوحاً للجميع، ولا يمكن في أي لحظة إنهاء النقاش أَوْ إيقافُهُ ما لم يحد بالإرادة العامة للناس.
وتدريجيا اتخذت (الأغورا) معنىً مُتَعالياً عن الزمان والمكان لِتَرْقى إلى مستوىً مفاهيمي أكثر تجريدا، ذي علاقَةٍ بالحرية والمساواة والتعدد داخل حدود الدولة المدنية. وبَلَغَ هذا المفهوم، داخل الدول الغربية الحديثة، حدود قطع الصلة نهائيا مع دولة الاستبداد؛ تلك الدولة التسلطية الهاضمة للحقوق الفردية والجماعية والمفتقدة للشرعية والإجماع؛ لتحل محلها الدولة الديمقراطية الحديثة، والتي نجد فيها مُمارَسَةً معقلنةً للسلطة؛ ممارسةً تَتَشَبَّثُ بِالْقانونِ وَبِاحْتِرامِ الحرياتِ، وَاحْتِرامِ كَرامَةِ الشَّخْصِ وَاعْتِبارِهِ قِيمَةً عُلْيَا فَوْقَ كُلِّ المصالح والاعتبارات.
غير أنه، وفي الآونة الأخيرة خاصة مع ظهور ما أَصْبَحَ يُعْرَفُ بمجتمعات الإعلام والمعرفة، والتحول نحو شبكة الإنترنيت بديلاً ثقافِيّاً وإيديولوجِيّاً عَرَفَ مِنَ الْقَبُولِ وَالاِنْتِشارِ ما لَمْ تَعْرِفْهُ أَيُّ أَداةٍ مَعْرِفِيَّةٍ أخرى، تَحَوَّلَتِ المجتمعاتُ الواقِعِيَّةُ إلى مُجْتَمَعاتٍ افتراضية كَوْنِيَّةٍ مُوَحَّدَةٍ بشكل من الأشكال؛ الشَّيْءَ الَّذي أَصْبَحَ يُحِيلُ عَلَى نَوْعِ جديدٍ مِنَ (الأغورا). الأمْرُ إِذَنْ يَتَعَلَّقُ بِأغورا كونيةٍ اِفْتِراضِيَّةٍ، شَكَّلَتْ جُلُّ صَفَحاتِها وَمَواقِعِها حَلَقاتٍ واسِعَةً مِنَ النقاش العمومي والْحُرِّ؛ حَيْثُ يَتِمُّ تَبادُلُ الآراءِ والمواقِفِ بِكُلِّ حرية، وَتُسْتَدْعَى فيها الْأَدِلَّةُ المقنعةُ والواهيةُ، كما تَتَكامَلُ فيها الرِّهاناتُ السياسية، إلى جانِبِ الرِّهاناتِ الفكرية والثقافية: مِنَ التَّثْقيفِ إلى التَّرْفيهِ إِلى الْحَشْدِ والتَّحْريضِ فَالدِّفاعِ والتَّرافُعِ. وَتَنَوَّعَتْ إِثْرَ ذلكَ أَشْكالُ الاِسْتِهْلاكِ الفكري والثقافي؛ مِنْ قِراءَةِ النُّصُوصِ إلى الصور والفيديو. كما تباينت أشكال التفاعلية والردودِ؛ من إعلان القبول والرِّضا، إلى الرفض، إلى الْغَضَبِ والسَّبِّ وَالشَّتْمِ.
وبذلك عَزَّزَتِ الإنترنيتُ مِنْ قِيَّمِ المجتمعاتِ الغربية السائدة على أرض الواقع، والتي ارتبطت تاريخيا بمبادئ وفكر التنوير وفلاسفة العقد الاجتماعي؛ هؤلاء الَّذين لَخَّصُوا غايَةَ الدَّوْلَةِ الْقُصْوى في حِفْظِ "خَيراتِ المدينَةِ" (جون لوك)، وَلَيْسَ في السيادة على الناس وإرهابهم. وَمِنْ ثَمَّ خَضَعَتْ هذِهِ المُجْتَمَعاتُ إْلى ما يُعْرَفُ عِنْدَ (بودريار) بِ (مدار المصطنع) الافتراضي، الَّذي حَلَّتْ فيهِ النُّسْخَةُ الافتراضية للدولة مَكَانَ الْأَصْلِ الْواقِعِيِّ لَها، مِنْ حَيْثُ أَنَّ النُّسْخَةَ الافتراضيةَ حَافَظَتْ عَلَى عَلاقَتِها بِالْأَصْلِ الواقِعِيِّ الْمَرْجِعِيِّ (الدَّوْلَةُ الديمقراطية الواقعيةُ)، الْأَمْرَ الَّذي زادَ مِنْ تأثير هذه الساحة كَفَضاءٍ حُرٍّ لِلنِّقاشِ الْعَلَنِيِّ في قراراتِ الدول والمنظمات، وَحَتّى الأَفْراِد والْجَماعاتِ؛ تَأْكيداً لِفِكْرَةِ المجتمعِ المدنِيِّ الْكَوْنِيِّ، وَكَذا تَجْسِيداً لِفِكْرَةِ (الأغورا) الديمقراطية، كَساحَةٍ عامةٍ لِمُمارَسَةِ النِّقَاشِ المسؤُولِ وَالْحُرِّ.
أمّا بالنسبة إلى المجتمعاتِ العربِيَّةِ، فَقَدِ اعْتُبِرَتْ مفاهيمُ الحرية والديمقراطية والتعددية عَلَى السَّاحَةِ الافتراضيةِ مَحَطَّ نِقَاشٍ وَسِجالٍ طَويلَيْنِ. وَكَأَيِّ نَشَاطٍ فِكْرِيٍّ وَثَقافِيٍّ حَديثٍ، فَقَدْ أَخَذَتْ هذه المفاهِيمُ مِساحَةً مِنَ التَّفْكير والتغيير والإبداع. غَيْرَ أنَّ الخِطابَ الدّائِرَ حَوْلَ هذهِ الْمَفاهيمِ اِتَّسَمَ، في الغالب، بِالْحَماسَةِ والانْدفاع وغلبة الصبغة الجماهيرية والإيديولوجية على المضامين الفكرية والثقافية. وَمِنْ ثَمَّ ارْتَفَعَتِ الْأَصْواُت الْعَرَبِيَّةُ داخِلَ السّاحة الافتراضية تُنادي بضرورة تنزيل شِعاراتِ الحرية وتحرير الفرد وَمَبْدَأ التَّعَدُّدِ وَالْحَقِّ في إِبْداءِ الرأي على أَرْضِها، كَواقِعٍ افتراضي يُعَوِّضُ بِهِ الْفَرْدُ الكثيرَ مِنَ الْقُيُودِ الَّتي تُثْقِلُ مِنْ وُجُودِهِ في الفضاء الواقعي، والتي تَجْعَلُهُ يُحِسُّ بِأَنَّهُ لا يَمْتَلِكُ إِرادَةً حَقيقِيَّةً.
وَهذا هُوَ الْأَمْرُ الذي جعل المواجهةَ التاريخية بين حَقِيقَةِ الديمقراطية العربية المزيفة أو الشَّكْلِيَّةِ في الواقع، وَبَيْنَ مَا هُوَ مَأْمُولٌ عَلَى السّاحَةِ الافتراضيةِ، مَواجَهَةً غَيْرَ مَسْؤُولَةٍ؛ بَلْ عَبَثِيَّةٍ، لا يَحْكُمُها زَمانٌ وَلا مَكانٌ وَلا أَيُّ مَرْجِعِيَّةٍ ثابِتَةٍ، بَلْ صارَتْ تَتَحَرَّكُ مَعَ مُحَرِّكاتِ الْبَحْثِ مِنْ صَفْحَةٍ إِلى صَفْحَةٍ وَمِنْ قيمَةٍ لِأُخْرى. وَنَتَجَ عَنْ ذلِكَ تَرويجُ رَسَائِلَ وَرُموزِ قِيَّمٍ وَصُوَّرٍ لا وُجُودَ لها في الْواقِعِ، بقدر ما هِيَ نابِعَةٌ مِنْ رَغَباتٍ جماهيرِيَّةٍ مُتَفاوِتَةٍ فيما تُوهِمُ بِهِ.
لَقَدْ شَكَّلَتْ هذه الرسائلُ بتداولها مَعَالِمَ لا واعية مُلْزِمَةٍ للمستخدمين، يُكَيِّفُونَ من خلالها رغباتهم وتصوراتهم، وفق ما اخْتَبَروهُ على مدى السنوات القليلة الماضية من الحرية في القول والفعل. وانتهى الأَمْرُ بِأَنْ أَصْبَحَتْ قِيَّمُ وَسُلُوكاتُ المجتمع الافتراضي من صميم الحياة الواقعية للمستخدِمين؛ يُحَدِّدُونَ مِنْ خلالها طريقةَ انخراطهم في الحياة والعالم الواقعي. فلم تَعُدْ ساحَةُ الإنترنيت العربية مُكَيَّفَةً مع الواقع العربي، بل صار الواقعُ العربي هُوَ الْمُكَيَّفُ مع هذه الساحة. ومن المنتظر مستقبلا أن تنتقل الكثير من الظواهر الافتراضية على الشبكة إلى الوجود الواقعي المعيش.
لقد أصبح العالم العربي اليوم يعيش عالماً مِنْ نسج الاِفْتِراضِ والخيال؛ كَيَّفَهُ العالم الافتراضي وقنواتُ الإعلام والاتصال الجديدة، وبَاتَ كُلُّ فَرْدٍ يعيش حياتَه الواقعية وُفْقاً لوجوده وتصوره الافتراضي. وأَخْطَرُ ما في الأمر هو أَنَّ هذِهِ الحياة الافتراضية لَمْ تَعُدْ تَجِدُ لَها مَرْجِعاً ومدلولا تُحيلُ المواطِنَ الْعَرَبِيَّ عليه، فما يروج في الساحة الافتراضية مِنْ حرية وتعددية ودفاع عن حقوق الأقليات وَحَقِّ التعبير عن الرأي والمساواة والتسامح، لا يَجِدُ ما يَسْنِدُهُ في الْواقِعِ. ذلِكَ بِأَنَّ هذه القيم الافتراضية لا تعدو أن تكون شَكْلِيَّةً مِنْ جِهَةِ الْواقِعِ؛ بل إِنَّها تُوحي بِتَراجُعٍ مُقْلِقٍ لِكَثيرٍ مِنْ مُنْجَزَاتِ الديمقراطية بِاسْمِ الوحدة الوطنية والأمن الاجتماعي.
لَقَدِ اخْتَفَتْ علاقة الدال بالمدلول داخل ساحة (الأغورا) العربية، واختفى الواقع من ساحة الافتراضي، وأصبح الافتراضي لا يدل إلّا على نفسه، ولم تعد مفاهيمُ الحرية ومبادئ التعددية الافتراضية تجد ما تَرْتَكِزُ عليه في الواقِعِ وَداخل العالم المعيش للجماهير؛ الأمر الذي أدى إلى سيادة الفوضى والعبثية واللامسؤولية.
إن محاولة التحرر الفكري والسياسي التي سعى إليها الجمهور العربي على الساحة الافتراضية منذ مطلع الألفية الثالثة، جعلته يصطدم واقعيا بالكثير من الثوابت التي كان يتحرك فيها، ويُعيدُ النَّظَرَ في ثَباتِها ومصداقيتها. ومن هذه الثوابت مسألةُ الدولة المدنية والحرية والديمقراطية والشرعية وغيرها؛ الأمر الذي أدى إلى الانتفاضة والثورة تَعْبيراً عن الحرية دَاخِلَ واقِعٍ لَيْسَ حُرّاً على حد تعبير (أَلْبير كامي/ Albert Camus) .
وَمَا يَحْصُلُ الآنَ في العالم العربي، وَثَوراتُ الربيع العربي ما هي في واقِعِ الحالِ سِوى نموذج لهذه الانتفاضة. ذلِكَ بِأَنَّ القيم الفكرية والأخلاقية والجمالية للساحة الافتراضية صارت تُكَيِّفُ النّاسَ وَتَدْفَعُهُم لِتَداوُلِها في الْواقِعِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذي يَنْطَوي على مَخاطِرَ عِدَّةٍ لا مجال لتجاهلها. بالنسبة إِلى الْغَرْبِ لا يزال يحتفظ بمرجعيات المجتمع الواقعي، ويحافظ على مسافةٍ مُحَدَّدَةٍ بين المجتمع الواقعي والافتراضي؛ الأمر الذي ينتفي داخل المجتمعات العربية، حيث طُوِيَتِ المسافَةُ بين الواقعي والافتراضي، وأدى ذلك إلى إفراغٍ تدريجي للواقع مِنْ واقعيته أو ما يُمْكِنُ أَنْ نُعَبِّرَ عَنْهُ بِ (تصحر الواقع)؛ لأنه وبِكُلِّ بَساطَةٍ لَمْ تُوجَدْ يَوْماً (أغورا عربية واقعية) تؤدي مهام التشريع والاقتراح في ما يخص شؤون المجتمع والدولة، فَبِالْأَحْرى أنْ تُوجَدَ لها نسخةٌ رقمية افتراضية كَما حَدَثَ بالنِّسْبَةِ إلى المجتمعاتِ الغربية. ولَعَلَّهُ الأمرُ الذي أدى إلى انتكاساتٍ داخل الحراك العربي؛ ذلك بِأَنَّ الثورةَ بَدَأَتْ افتراضيةً والحراكَ كان افتراضياً أَكْثَرَ مِنْهُ واقعيا، ساهمتْ في صُنْعِهِ صَفَحاتُ الإنترنيت والقنواتُ الفضائية، فَظَهَرَتْ ثَوْرَةُ الشَّعْبِ في حُلَّةٍ هوليودية أو مَلْحَمِيَّةٍ غَدَّتْ الْكَثيرَ مِنْ حالاتِ الغَضَبِ والاِنْفِعالِ الجماهيري، لكِنَّ انْتِقَالَها إلى الفضاء الواقعي سُرْعانَ ما أَكَّدَ مَحْدُودِيَّةَ وَانْحِسارَ الافتراضي الْمَأْمولِ داخِلَ الْمَشْهَدِ الواقِعِيِّ الحقيقِيِّ.
هكذا إِذَنْ لَمْ تَتَجَسَّدِ الحريةُ والتعددية وحق التعبير عن الرأي واقعيا، حتى تَنْتَقِلَ إلى (الأغورا) العربية افتراضيا كما هو الشأنُ لدى الْغَرْبِ، بل العكس تماما هو الَّذي حَدَثَ، إذْ ما تَجَسَّدَ كَحالَةٍ افتراضِيَّةٍ ، هُوَ ما تَمَّ السَّعْيُ إِلى تَجْسِيدِهِ واقعياً؛ وَمِنْ ثَمَّ تَقَدَّمَ الافْتِراضِيُّ عَلَى الْواقِعِيِّ أَوْ لِنَقُلْ شَكَّلَ اسْتِبَاقاً لَهُ، لكِنَّهُ اسْتِباقٌ غَيْرُ مَدْروسٍ أَوْ مُنَظَّمٍ.
لا أَحَد يُجادِلُ في أَنَّ (الأغورا) الافتراضيةَ أَصْبَحَتِ اليومَ بمثابة البنية الأساسية للحوار الفكري الكوني الذي ما فتئت بوادِرُهُ تتجلى وثمارُهُ تُقْطَفُ. لكن الأمر حينما يتعلق بالعالم العربي، لابد من الرجوع إلى الأصل لا إلى النسخة الآلية؛ ذلِكَ بِأَنَّ مفاهيمَ مِنْ قَبيلِ الحرية والديمقراطية والتعددية يجب أَنْ تُبْنَى في الأوَّلِ واقعيا واجتماعيا، وأنْ تَنْطَلِقَ مِنْ إرادَةٍ حقيقيةٍ في بناء مجتمع مَدَنِيٍّ قادِرٍ على ممارسة دَوْرِهِ في الْحَدِّ مِنْ سلطة الدولة وعُنْفِها؛ مُجْتَمَعٍ مَدَنِيٍّ يُؤَدّي دَوْرَ الْمِرْآةِ التي تَنْظُرُ فيها الدَّوْلَةُ وهي تَصُوغُ خطابها، وَتُدَبِّرُ أَجْهِزَتَها، وُفْقَ ما يَخْدُمُ حاجاتِ المواطنِ الإستراتيجية (الاستقرار، السلم، الحرية، والحقوق)، وَتُؤَدّي فيها (الأغورا) الافتراضية دَوْرَ مَجْلِسٍ وَطَنِيٍّ أَوْ كَوْنِيٍّ عادِلٍ، يَسْمَحُ بِالْكَثيرِ مِنَ التَّمَدُّدِ والاتِّساع في الأفكار والآراء، وفي الوَقْتِ نَفْسِهِ يَكُونُ حاجزاً يَحُولُ دُونَ حالاتِ التَّجاوُزِ والتَّطاوُلِ على حقوق الآخرين. وَهذا هُوَ الْأَمْرُ الَّذي سَيُمَكِّنُ، في نهاية المطافِ، مِنْ قِيادَةِ الْإِرادَةِ الجماهيرية إلى حالةٍ مِنْ حالاتِ النِّظامِ وَالرِّضا والْقَبُولِ واقعيا وافتراضيا ذلِكَ بِأَنَّ الفوضى والصراع شَأْنُهُما شَأْنُ الْفَراغِ لا يُمْكِنُ أَنْ يَسُودا دَاخِلَ الطَّبيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ؛ وَلِذلِكَ لابُدَّ لَهُما مِنَ الاِنْتِهاءِ إِلى النِّظامِ.
كاتبة من المغرب
منبر الحرية، 19 نونبر/تشرين الثاني 2013.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.