السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    دبابيس ودالشريف    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجديد الفكر الدينى
نشر في حريات يوم 22 - 09 - 2014


(المصرى اليوم)
تجديد الفكر الدينى
رفعت السعيد
كان الرئيس السيسى هو أول رئيس يدرك خطورة التطرف في الفكر الدينى وخطورة التأسلم فيدعو في خطابه بقصر القبة إلى ضرورة السعى معاً مسلمين ومسيحيين، أزهر وكنيسة نحو تجديد الفكر الدينى كسبيل لهزيمة الإرهاب المتأسلم وفكر الجماعة الإرهابية.
والحقيقة أن التأسلم والدعاوى المتشددة لا تأتى عبر جرعة زائدة من الإيمان بل عبر تجنب صحيح الإسلام واتخاذ الدين المقدس لشحن الأتباع بفكر متشدد يخضعهم به لإرادة «المرشد» أو «الأمير» و«الإمام». ويمكن القول بأن منشأ التأسلم جاء عبر الخلاف على الخلافة، بين على وبين عثمان ثم بينه وبين معاوية. فهو إذاً خلاف على السلطة التي هي دنيوية وشخصية. وكان من الضرورى أن تكتسى أطراف هذا الصراع بثياب دينية والى الإمعان في التشدد كسبيل لإقناع المسلم العادى بأن ينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك ويضحى بحياته واثقاً أنه ذاهب للجنة. ولهذا صاح الصحابى سعد ابن أبى وقاص في وجه من دعوه من الطرفين للانحياز إليهم «والله لا أقاتل حتى تأتونى بسيف له عينان وشفتان ويقول هذا مسلم وهذا كافر».
لكن هذا الشحن لا يكفى فيكون من الضرورى إطفاء وهج العقل حتى يمضى المسلم مغمض القلب والوجدان مطيعاً منصاعاً. ذلك أن إعمال العقل سيحفز المسلم إلى تعقل، فتأمل، فالإسلام صحيح، والمطلوب مقاتل متوحش مطيع منصاع فتكون الخرافة والوهم سبيلاً للسيطرة على هذه الجموع التي تراكم في وعيها تراث من حكايات وروايات بعضها صحيح وبعضها خرافى والمثير أنه كلما كانت الكلمات أكثر بعداً العقل كانت أكثر تأثيراً. فكيف صدق العقل «أن الشيخ كان يسير على الماء والأسماك تأتى لتسلم عليه، وإذا مر فاسق طار نعله وضرب الفاسق على رأسه حتى تلف» وأن الشيخ رفض ثدى أمه وهو مولود وصام رمضان، وأن الشيخ تشفع لتابع له عند الله ليغفر له ذنباً فرفض تعالى شفاعته فامتنع الشيخ عن أداء مراسم الغوثية [هل يعرف أحد معنى هذه المراسم] فكان أن قبل الله شفاعته. وكذلك سيدى أبوالعلا صاحب المسجد الذي في بولاق أتته أمرأة باكية لأن التمساح التهم ابنها فصاح يا تمساح هات الولد فلم يستجب التمساح فأمر الماء أن تنزاح وجف النيل فأتت التماسيح باكية وأعاد التمساح الولد سليماً. فكان مسجد سيدى أبوالعلا.. وتظل الخرافة سلاحاً للتأسلم حتى الآن، ففى ميدان رابعة صاح الشيخ أن الرسول أتاه في المنام وأن الرسول دعا مرسى ليؤمه في الصلاة.. وصدق الحضور من مثقفين وأساتذة جامعات وبشرا عقلاء في ظاهرهم وهللوا واندفعوا ولم يزالوا في ولاء غير مستحق لمن لا يستحق. وتظل بقايا الإرهاب المتأسلم تعبيراً عن عقل شحن بالخرافة.
ويلعب الإعلام والفضائيات دوراً في شحن العقل المسلم بالخرافة فعلى اليوتيوب شيخ يصرخ في فضائية «أكل الأرنب حرام لأن الأرنب حشرة وأكل الحشرات حرام». فقط هل يتذكر العقل أن الأرانب من الثدييات. ونعود إلى دعوة التجديد ونقراً للشيخ أمين الخولى «إن الأفكار حين تجد في العقل خواء، وتصادف في الدماغ خلاء تعشش وتستقر ويصعب انتزاعها من العقول مهما كانت درجة زيفها ويزداد استقرارها بالتكرار حتى تصبح الفكرة الخاطئة عقيدة ثابتة» والحل هو تنظيف العقل من هذه الخرافات أولاً. فلا تجديد دون عقل عاقل قادر على التمييز بين صحيح الإسلام والخرافات المتأسلمة. فنحتاج تعليماً وإعلاماً وفناً وعلماً وعقلاً نشطاً يمايز بين المعقول وغير المعقول ويتحرر العقل من كل قيد إلا ما يفرضه العقل ذاته. وهى معركة حتمية وإلا بقى العقل أسير الخرافة فيزداد التأسلم تأسلماً، والإرهابى إرهاباً والجاهلون جهلاً. وقد خاض العقل المصرى معارك ضارية للتجديد.. فإلى مقال آخر.
(2)
ولأن الأزهر كان محور المعرفة الدينية والحياة العقلية فقد نشأت داخله وبين شيوخه معارك التجديد الدينى حاول البعض محاذراً مثل رفاعة الطهطاوى، والبعض شجاعاً مثل الشيخ حسين المرصفى فى كتابه «الكلم الثمانى» ثم كان الشيخ محمد عبده الذى خاض معارك إصلاح العقل الأزهرى والتعليم الأزهرى فهوجم هجوماً شديداً غير مهذب، بل أسمته بعض النشرات الأزهرية السرية «بالشيخ المهياص الهجاص» لكن الشيخ رد هجوماً بهجوم فأسمى أزهر ذلك الزمان «بالإسطبل» و«المارستان» وقال وهو راحل عن دنيانا:
ولست أبالى أن يقال محمد أبلى – أم اكتظت عليه المآتم. ولكنه دين أردت صلاحه – أحاذر أن تقضى عليه العمائم.
وعندما كانت مجلة «المنار» معبرة عن أفكار محمد عبده جاء فى مقدمة المجلد الأول «أن هدف المنار هو بيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل وموافقته لمصالح البشر فى كل قطر وكل عصر وإبطال ما يرد عليه من الشبهات وتفنيد ما يعزى إليه من الخرافات». والحقيقة أن معارك التجديديين الأزهريين كانت تمضى عبر مسارين. أزهريون لم يطالعوا الأفكار العقلانية والليبرالية الحديثة التى أثمرتها الثورة الفرنسية وتداعياتها أمثال الشيخ عبدالمتعال الصعيدى الذى أعمل العقل فى الحصاد الفكرى الأزهر«وفى أساسيات الدين الإسلامى فصاغ أفكاراً صادمة أثارت هجوم الشيوخ الجامدين ضده. فقد أفتى بأن من حق المسلم أن يعمل عقله فيختار أى طريق إيمانى يسلك أو حتى لا يسلك وهاجمه الأزهريون فهاجمهم شعراً.
الجامع الأزهر ابتلاه – رب له العز والوجود – بكل قحف وطرف – عليك بالبشر لا يجود
قطعة صخر أليس فيه – الثقل واليبس والجمود – صلوا وصاموا والليل – قاموا والقلب عن كل ذا بعيد
أما الأزهريون الذى تلامسوا وانغمسوا فى دراسة المعطيات الثقافية الأوروبية فقد كتبوا بطريقة أخرى، فطه حسين يكتب مقالاً فى عام 1912 فى مجلة «الجريدة» بعنوان «الأزهر وتعليم الدين» جاء فيه «للأزهر الشريف خصلتان هو فيهما متفرد وبهما مستأثر، وهو لهما محب وعليهما حريص. الأولى هى مزج الصحيح بالمحال، والملاءمة بين حقائق الخاصة وأوهام العامة، وبين فلسفة العقل وخطرفة الخيال بما يجعلها تعبث بعواطف القلب وتمسخ حقيقة الدين وتفسد أعمال الناس. والثانية هى فساد اللغة العلمية وإغراقها فى التعقيد والغموض، والنتيجة هى أن العقل لا يحسن تعليم الدين بل هو يحدث فى العقل آثاراً سيئة، وفى الدين هنات مذمومة ويؤدى إلى فساد الحياة العقلية وقصور العقل عن فهم الأشياء ووضعها فى منازلها، ومصدر ذلك هو الأوهام والأباطيل التى تتخذ سبيلها للدين». لكن الجامعة التى أنشئت بجهود أزهريين مستنيرين أمثال محمد عبده ودعاة تنويريين، ما لبثت أن تحولت إلى الجمود خوفاً من الانغماس فى معارك مع الأزهريين المتطرفين كما حدث مع منصور فهمى وغيره.
وتمضى معارك الأزهريين مع بعضهم البعض حتى تتوج بمعركة كتاب «الإسلام وأصول الحكم» فالشيخ على عبدالرازق جمع بين الثقافتين الأزهرية والغربية فكان حاداً فى كتابته وينتهى الأمر بطرده من هيئة كبار العلماء وشطبه من سجلات الأزهر. لكنه يبقى على موقفه ويهاجم الأزهريين هجوماً شديداً. ونقرأ منه رداً على رسالة لطه حسين أرسلها من باريس وأتى فيها على ذكر الأزهر فأرسل له على عبدالرازق [فى 9 أغسطس 1926] رداً يقول «حرام أن تذكر وأنت فى باريس مشايخ الأزهر فتشوه به ما يعمر الذهن من صور الجمال، وأقسم لو أنك أخذت من زريبة الأزهريين الشيخ بخيت والشيخ شاكر فقط وربطتهما فى حبل واحد ودليتهما من برج إيفل لأظلمت باريس» [طه حسين الوثائق السرية – ص233].
(3)
وعندما دخل محمد رشيد رضا المعركة متنكراً لكل تراث أستاذه محمد عبده، متبنياً أشد المواقف والأفكار السلفية تطرفاً ازدادت حدة الكلمات واستخدمت فيها ألفاظ لم تكن واردة فى الكتابات الصحفية. فرشيد رضا يصف عباس العقاد بأنه كاتب «مراحيضى» ويصف سلامة موسى بأنه نصرانى كافر وبلشفى عميل، ويكيل له سلامة موسى الصاع صاعين متهماً إياه بأنه عميل للأمن، متسائلاً من أين لك هذه الثروة؟ ولعل تردى أدوات الحوار كان أحد أسباب تسحّب الكثيرين من المعركة. لكننا نخطئ كثيراً إذا تصورنا أن الأمر كان مجرد شتائم، بل كانت المعركة جادة وتداولت وأرست قواعد فهم راق لتجديد الفكر الدينى.
فمحمد عبده خاض معركته على مستويين الأول الدفاع عن الإسلام ذاته ضد هجمات من أمثال كرومر وهاناتو ورينان، وثانيهما محاولة إنقاذ الإسلام من فكر التطرف والجمود والخرافة. فكرومر عندما كتب «إن الإسلام إذا لم يكن ميتاً فإنه فى طريقه إلى الاحتضار اجتماعياً وسياسياً، وتدهوره المتواصل لا يمكن إيقافه عبر إصلاحات تحديثية لأن التدهور كامن فى جوهره الاجتماعى، فالنظرة للمرأة متخلفة وهناك تغاض عن الرق وجمود الشرع وقطعية النص» (Modrn Egypt P.134ٍ) ويدافع محمد عبده بعبارات تصيب الهدفين معاً «فالإسلام برىء من الجمود والنصوص قابلة للتأويل»، ويقول «لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله بدون توسط من أحد لا من سلف ولا من خلف»، ويقول «إذا تعارض النص مع العقل أخذنا بما دل عليه العقل» (الأعمال الكاملة – ج3 – ص582)، وعندما أصبح مفتياً للديار المصرية قدم فتاوى تقتاد مصر فى سبيل تجديد حقيقى وبناء دولة حديثة، فأفتى بأن الملبس هو مجرد أداة وزينة تختلف بحسب المقتضيات، وأفتى بصحة التعاملات المصرفية والفائدة وبجواز التأمين على الحياة والأموال، وبإقامة التماثيل والتصوير الفوتوغرافى وأكل ذبائح أهل الكتاب وحقوق المرأة فى التعليم ورفض تعدد الزوجات إلا لعلة.
أما الشيخ على عبدالرازق فقد هدم بكتابة الرائع «الإسلام وأصول الحكم» جوهر فكرة الخلافة، وأكد أنه «إذا كان فى الحياة الدنيا شىء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم ويسهل عليه العدوان والبغى فذلك هو مقام الخلافة»، ويقول «ليس من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا أو لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولا تزال نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد». ونتوقف أمام ملاحظة هامة. هذا الكتاب التجديدى الرائع والذى أسهم فى تدمير حلم الملك فؤاد فى الخلافة أيده بحماس قادة حزب الأحرار الدستوريين [حزب كبار الملاك] وعارضه سعد زغلول الذى كتب «قرأت كثيراً للمستشرقين ولسواهم فما وجدت من طعن فى الإسلام مثل على عبدالرازق، وقد عرفت أنه جاهل بأبسط قواعد دينه».
وبرغم هجوم هيئة كبار العلماء وسعد زغلول ظل كتاب على عبدالرازق علامة شامخة مزقت وهم الخلافة. ثم كانت كتابات عاصفة من مفكرين غير أزهريين، فيكتب إسماعيل مظهر «أن عصوراً بأكملها قتلت فيها العقول لأن أصحاب المصالح السياسية أوهموا المسلمين بأن أوهامهم وخرافاتهم ومصالحهم جزء من العقيدة»، ثم يؤكد «الحاضر قائدنا وهادينا وما الماضى إلا صفحة طويت وفيها كثير من الخرافة والأوهام». كما أبدع المفكرون المحدثون مثل العقاد ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين عشرات من الكتب جمعت بين فهم صحيح الإسلام وبين العقل وتحريره من الوهم والخرافة، ومن الخضوع لسلطان رجال الدين الذين يرفضون التجديد والاستفادة من المعارف الغربية. هكذا كانت دعوة التجديد عبر القرن الماضى أساساً لما نستشعره الآن ببعض حداثة.. وحافزاً كى نواصل.
(4)
ومع إصدار الشيخ على عبدالرازق كتابه الشهير والرائع «الإسلام وأصول الحكم» أصبح الكتاب هو محور معركة التجديد. واشتبك مخالفوه ومؤيدوه فى معارك كلامية ضارية، جعلت من فكرة التجديد نقطة حوار بين كثيرين من مثقفى ذلك الزمان، وانتقل الصراع من ميدان الأزهريين إلى المفكرين والمثقفين المدنيين. ونبدأ بموقف كان ولم يزل مثاراً لدهشة الباحثين هو موقف سعد زغلول زعيم ومؤسس الحزب الليبرالى الأكبر حزب الوفد، ونقرأ لسعد زغلول «قرأت كثيراً للمستشرقين ولسواهم فما وجدت ممن طعن منهم فى الإسلام حدة كهذه الحدة فى التعبير على نحو ما كتب الشيخ على عبدالرازق.. لقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينه، بل بالبسيط فى نظريته وإلا فكيف يكتب ما كتب؟ ثم هو يؤيد قرار هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ من جماعتهم زاعماً «أن ذلك أمر لا علاقة له مطلقاً بحرية الرأى التى تعنيها السياسة». ونعرف أن سعدا قد اتخذ ذات الموقف من كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى» وصاح فى طلاب الأزهر المتظاهرين ضده «هبوه مجنوناً يهرف القول». ونسأل هل هو الموقف؟ أم هى السياسة التى تقف به ضد خصومه فى حزب الأحرار الدستوريين ورغبة فى اكتساب «العامة» على حساب المبدأ؟ غير أن كثيرين من المثقفين ذوى الثقافة الغربية قد ساندوا الشيخ على وكتبوا دفاعاً عنه ومنهم د. منصور فهمى صاحب رسالة الدكتوراه الشهيرة «حالة المرأة فى التقاليد الإسلامية وتطوراتها» والتى أثارت صخباً انتهى بطرد صاحبها من هيئة التدريس بالجامعة. وكان هناك أيضاً محمود عزمى الذى دعا إلى «علمنة» القوانين وتوحيدها لتسرى على جميع المصريين بحيث تجعل من المصريين متساوين تماماً فى الحقوق والواجبات. وانحازت عدة مجلات إلى الشيخ على عبد الرازق ومنها مجلة «الهلال» التى نشرت «إن كل أمة إسلامية حرة فى انتخاب من تريده حاكماً عليها.
وسواء كان الأستاذ على عبدالرازق قد وفق إلى أن يسند نظريته هذه إلى الدين- كما يعتقد- أم لم يوفق فإن هذه النظرية تتفق وأصول الحكم فى القرن العشرين الذى يجعل السيادة للأمة دون سواها من الأفراد مهما كانت ولادتهم وميزاتهم الأخرى» [يوليو 1925]، وكذلك «المقتطف» وكانت مجلة علمية رصينة أيدت الشيخ «لأننا نعتقد أن كل ما قاله حضرة القاضى على عبدالرازق وأمثاله قرين الصواب وخال من الخطأ، ولأننا نرى أن قيام بعض المفكرين ووقوفهم موقف الانتقاد والشك يشحن الهمم ويغرى بالبحث والتنقيب» [أغسطس 1925]. ويكتب سلامة موسى فى الهلال «لعلى عبدالرازق الحق فى أن يكون حراً يرتئى ما يشاء من الآراء دون أن يقيد بأى قيد سوى الإخلاص» [أكتوبر 1925]. وحتى من صفوف حزب الوفد صعدت أصوات تخالف رأى الزعيم الذى لا يجرؤ أحد على مخالفته ففى «كوكب الشرق» يكتب أحمد حافظ عوض «هل لمصر نظام هو الدستور تحكم بموجبه؟ أم لها غير الدستور نظام خفى تمتد عبر ظلماته أيد تفتك بما قرر الدستور من حقوق مثل حرية التعبير والتفكير» [17 أغسطس 1925]. وتحول الجدل إلى نقاش شارك فيه كثيرون من كبار مثقفى العصر ساندوا الشيخ على وكتابه ومنهم «عزيز ميرهم- حسين عامر المحامى- محمد كامل الحمامصى- د. محمد حسين هيكل- طه حسين- عبدالقادر المازنى- أحمد أمين، وغيرهم». لكن هذا الحشد من كبار المثقفين لم يكن سوى قشرة انطلقت فى حماس ثم ما لبثت فى كثير من الأحيان أن تراجعت عن النهج الليبرالى المتكامل وتحولت إلى ما يمكن اعتباره «حل وسط» بين الفكر الليبرالى والعقلانى وبين الفكر التراثى.. وكان على رأس هؤلاء د. محمد حسين هيكل وأحمد أمين. ولأن الحياة تتجدد أبداً فإن الفكر الدينى مطالب بأن يتجدد أبداً وأن تظل معركته متواصلة أبداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.