تشكل ولادة «داعش» وإعلانها «الخلافة الإسلامية»، في المناطق التي سيطرت عليها، مرحلة جديدة من بناء الجدران العالية مع العالم. صحيح أن أغلبية الدول العربية والإسلامية لم تكن متصالحة تماماً مع العالم المعاصر، لكنها كانت أكثر اقتراباً مما هو عليه الحال اليوم، في ظل مزيد من الجدران العالية التي تبنيها «داعش» بالصورة التي تبثها عن الإسلام، أو بالأصح عن نوع معين من الإسلام، وتسعى إلى تعميمها بوصفها الصورة طبق الأصل ل»الإسلام الأول»، و»الإسلام الصحيح». يمكن توصيف «داعش» بأنها اللقاء بين المحلي والغريب، بين العنفين العام والخاص، بين أردأ ما في التراث وآخر صرعات الاستعراض العنفي الحداثي، داعش هي اجتماع الرداءة بين عالمين وبين زمنين. زمن يعتقد أنصار «داعش» ومؤيدوها أننا ننتمي إليه، زمن مضى، لكنه شكل الذروة الانتصارية الإسلامية، بوصفها اللحظة التي جعلتنا نُخضع العالم بحد السيف، لا أن نخضع له، وحتى نُخضع العالم من جديد، علينا أن نعود إلى العنف بوصفه سيف العالم الحديث. واللحظة ذاتها هي اللحظة الانتقامية من عالم غربي أخضعنا وأذلنا من خلال حروبه المستمرة علينا، الحروب التي خاضها تحت راية الصليب، والانتقام، ليس له مفعول حديث وحسب، بل هو انتقام من الغرب بأثر رجعي أيضاً، وعلى كل ما فعله بنا. الصراع بحسب هذا المنطق هو الحقيقة المطلقة، هو الصراع الأقصى، هو صراع الجواهر التي لا تتصالح، الصراع الإلغائي بالوسائل الأكثر عنفاً، أما تَخضع أو تُقتل، فلا حوار مع الأخر المختلف سوى بلغة الدم. يستدعي صراع الجواهر سياسة إلغائية بالضرورة، وبذلك لا يتم الانطلاق من السياسة بوصفها تعبيراً عن مصالح. وهنا يتم استدعاء الأيديولوجيا بوصفها المُخفي والساتر لهذه المصالح، بتصوير الصراع بوصفه صراعاً وجودياً، لا صراع مصالح. وإذا حركت المصالح الآخرين، فنحن يُحركنا «حماية الدين»، حتى الغرب نفسه عندما يهاجمنا، لا يخوض حربه ضدنا من أجل مصالح له في الدول الإسلامية، بل يخوضها من أجل كسر شوكة «الإسلام»، فالإسلام هو المستهدف وليس المسلمين، الإسلام بوصفه جوهراً ثابتاً لا يتغير على مر العصور، جوهر لا يدركه سوى هؤلاء القتلة الجوالين. وحتى نستحق أن نكون مسلمين، يجب ان يكون الإسلام جوهرياً وتطهرياً، لذلك يجب الذهاب إلى الحد الأقصى في الصراع مع أعداء الإسلام، صراع مع جميع الأعداء دفعة واحدة، الأعداء الداخليين، والأعداء الخارجيين، ليس هناك رحمة، فالصراع يحتاج إلى «إدارة التوحش» وهو عنوان وثيقة من وثائق «داعش». ليس لبناء الجدران العالية مع العالم وظيفة أيديولوجية دينية وحسب، بل وظيفة سياسية أيضا. لإنجاز المهمة يجب ممارسة السياسة بأقصى تطرفها ودمويتها، على اعتبار أن من يمارس هذه السياسة: «الفرقة الناجية»، وهي الوحيدة القادرة على انقاذ الإسلام من المسلمين المرتدين الكفرة، وحمايته في مواجهة حرب الالغاء التي يشنها الغرب الصليبي على الإسلام. أقصى السياسة، يعني اعتماد «سياسة الارعاب» المدعوم ب»فقه ارعابي» يُفتي بقطع رؤوس الصحافيين وعمال الإغاثة الأجانب على أسناد دينية واهية، ويتم تصوير هذه الجرائم البشعة بطريقة هوليوودية، والاحتفال بها وبثها بطريقة صاخبة، حتى تكون الرسالة في غاية الوضوح، لبث كراهيتنا للعالم، واستنفار كراهية الغرب ضدنا، كراهية عميقة، تسعى لاستدعاء كل غرائز الكراهية في المجتمعات الغربية، لتعزيز «فوبيا» الإسلام، وتوسع هذه «الفوبيا» يعزز الاستقطاب، ويعزز الجدران العالية مع «الغرب الصليبي». وحتى لا يكون هناك أوهام، فيجب ممارسة أقصى السياسة العنفية حتى مع العرب الشركاء في التحالف الدولي ضد «داعش«، لذلك كان الاحراق الهوليوودي للطيار الأردني معاذ الكساسبة، الذي وقع بأيدي داعش. بحيث يبدو أن لا مساومة في الصراع في عالم مقسوم إلى فسطاطين، فسطاط الحق، وهو عالم «داعش»، وفسطاط الباطل وهو عالم الآخرين، فليس هناك أجوبة احتمالية في عالم المطلق، كل الاجابات قطعية ومدعومة بالدم. طبعا، ليس كل القتل الداعشي قتلاً من النوع الهوليوودي، فحتى في عالم الضحايا هناك تمييز وتفريق، هناك ضحايا عالية القيمة، وهناك ضحايا لا قيمة لها، وقد مارست داعش هذا التمييز العنصري حتى بالنسبة إلى الضحايا. فهناك ضحايا يساهم اعدامها بطريقة استعراضية بحمل رسالة تعزيز جدران الكراهية العالية مع العالم، ومع الغرب تحديدا. وهناك ضحايا لا قيمة لها، حتى العالم نفسه يسكت على قتلها، مع أنه أقر شرعة حقوق الإنسان منذ أكثر من ستة عقود. الضحايا المنتمون إلى المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش»، والذين يشكلون رعية «الدولة الإسلامية» لا قيمة لهم، فلا أحد يلتفت إلى مصيرهم. لذلك، فإن اعدامات الرعية في المناطق التي تسيطر عليها داعش، تكون بلا تكلفة وبلا ضجيج، فالضحية لا تستحق حتى الرصاصة التي تقتل بها، فهي لا تشغل بال أحد، ولا تحمل رسالة لأحد. تسعى «داعش» وأمثالها من الحركات الإرهابية إلى انجاز قطيعة نهائية مع العالم، كل العالم، المسؤول عن خرابنا، العالم العدو الذي لا تصالح معه. وإذا كان العنف يولد «من تصغير البشر» بحسب تعبير الهندي أمارتا صن، فإن تصغير البشر واحتقارهم وقتلهم بأبشع الوسائل هو الوصول إلى نهايات الطريق العنفي. على ذلك، فإن الارهاب الداعشي وأشقاءه يسير بهذا الطريق إلى نهايته العنفية الأقصى، التوغل في دم الجميع من أجل انجاز القطيعة النهائية مع العالم الكافر. لا شك في أننا نعاني مشاكل كثيرة في العلاقة بالعالم، بفعل تعقيدات تاريخية وسياسية وثقافية واقتصادية، وبفعل تطور لا متكافئ تعيشه بلدان العالم. والغرب مسؤول عن العديد من المشاكل التي نعانيها، ولكنه ليس مسؤولاً عن كل مشاكلنا. فخلط القضايا، لا يؤدي إلى عدم حلها وحسب، بل هو يؤدي بها إلى مزيد من التعقيد أيضاً، ويجعلها غير قابلة للحل إلا بالطرق التدميرية. مجتمعاتنا ونخبنا قررت أن تؤجل مواجهة قضاياها الرئيسية، فسكتت عنها، وهذا ما جعلها تتعفن، ومن هذا التعفن ولدت «داعش»، لتجيب عن أسئلة الواقع القائم بالذبح، بوصفه طريق الخلاص، والقطيعة مع العالم والانعزال في صحراء لا يدخلها هواء غريب. أنها الوصفة النموذجية للدمار الذاتي النهائي، ولبناء قلاع مع العالم، لكن بوصفنا التمثيل النموذجي لأشراره. إنه الإنجاز الأكبر لداعش ول»دولة الخلافة». عن ملحق نوافذ – جريدة المستقبل.