ليس من شك في أن ثقافة المواطنة التي تبنتها الدول الديموقراطية الحديثة في مرحلة نهوضها ساهمت في تطوير مؤسساتها، وحماية سيادتها الوطنية. وساعدت ثقافة المواطنة وقيم العيش المشترك على تعزيز الانسجام والتناغم بين قوميات متعددة، وتحقيق التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة لجميع شعوبها. لكن تلك الدول تواجه اليوم عولمة همجية متفلتة من جميع الضوابط الأخلاقية. وهي ترصد موازنات ضخمة للتعريف بالتراث الثقافي الإنساني ومساهمته في الحضارة الإنسانية، وتسعى إلى الحوار مع الثقافات الأخرى من موقع الإحترام المتبادل لبناء عولمة اكثر انسانية. دلالة ذلك أن ثقافة المواطنة، في صيغتها الأولى على خلفية مقولات عصر الأنوار في أوروبا، بُنيت على قيم إنسانية وأخلاقية جامعة، ونجحت في تعزيز الثقة المتبادلة بين الدول إنطلاقا من احترام سيادتها الوطنية، وقرارها السياسي المستقل. نشر المتنورون الأوروبيون ومَن تأثر بهم من متنوري الدول الأخرى، مقولات نظرية تؤكد أن ثقافة المواطنة تتطلب احترام اللغة القومية كفاعل أساسي في إطلاق نهضة سليمة. فاللغة القومية أداة للتواصل الدائم مع التراث التقليدي من جهة، ومع تراث شعوب العالم وثقافاتها وترجمة أعمالها الإبداعية إلى اللغة القومية من جهة أخرى. إهمال اللغة القومية وإحلال لغات اخرى مكانها في المخاطبة اليومية والتدريس والانتاج الثقافي تحت ستار الدخول الخادع في العالمية، يقود في الضرورة إلى تبعية ثقافية يصعب تجاوزها أو التخلص من أضرارها الكبيرة. بدا واضحا أن التبعية الثقافية للعرب اليوم تجاه الثقافات الغربية قادت إلى الاستيلاب، وتمخضت عن إنتاج ثقافي هزيل باللغة العربية. علما أن غالبية المتنورين العرب شددوا على ضرورة التمسك باللغة العربية لكي تلعب الدور الأساسي في المحافظة على هويتهم المميزة وخصوصيتهم الثقافية. ومع أن بعض الدول تبنت القوة الناعمة وليس العسكرية لحل الأزمات الموروثة بالطرق الديبلوماسية، فإن تلك القوة نجحت في بناء التضامن الإنساني لمعالجة الأزمات الداخلية في الدول المتطورة، لكنها بدت عاجزة عن درء أخطار النزعة العسكرية لدى دول متحكمة في عصر العولمة، وتدعم منظمات تكفيرية دمرت ولا تزال تدمر ركائز الثقافات القديمة في منطقة الشرق الأوسط التي ابتُليت بأنظمة ديكتاتورية تسلطية، وبمعارضة دموية فاقت الأنظمة التسلطية من حيث درجات العنف والتدمير الممنهج للتراث الثقافي. في هذا المجال لا بد من طرح أسئلة منهجية حول ما قدمته الأنظمة التسلطية العربية لتعزيز موقع العرب في النظام العالمي الجديد، وفي الثقافة الكونية. فهل أفادت الدولة العربية من الغرب لتبني حداثتها بخصائص عربية متميزة عن الحداثة الغربية؟ هل درس مثقفوها اسباب نجاح منظومة الدول في الاتحاد الأوروبي، وأميركا اللاتينية، والشرق الأقصى، بالإعتماد على الديموقراطية وليس الحكم التسلطي؟ هل أن لدى منظومة الدول العربية رؤية استراتيجية للتضامن الداخلي والانسجام مع الخارج لبناء عولمة أكثر إنسانية من العولمة الغربية التي تأسست على نيوليبيرالية متوحشة تهدد اليوم بإنهيارها؟ ولماذا تجاهلت ما نشره المتنورون من مقولات نظرية كثيرة تطالب الدول العربية باحترام شعوبها كمواطنين لا كرعايا؟ تتضمن تلك المقولات مبادئ عامة كاحترام الإنسان بصفته قيمة إنسانية في ذاتها، واحترام المواطن في إطار نظام القيم الأخلاقية والانسانية. وحددت واجبات الحاكم الصالح تجاه رعيته والرعية تجاه الحاكم، وشرعية الدولة العادلة، وصفات الراعي الصالح. ودعت إلى الاستقامة والاخلاص في العمل، واحترام القوانين، والمعاملة الحسنة في العلاقات الاجتماعية، والمحافظة على كل ما هو إيجابي في التقاليد والأعراف الموروثة. وركزت تلك المقولات على احترام جميع الأديان، وتعزيز الروابط بين مختلف القوميات الموجودة منذ قرون طويلة على امتداد العالم العربي. وحذرت من تدخل رجال الدين في السياسة. ودعت إلى تعليم الأجيال الشابة ممارسة السلوك الحسن، والرصانة، والإخلاص في العلاقات المتبادلة، والانسجام مع الجماعة، والتناغم مع البيئة الطبيعية، وحب الوطن، والتركيز على الوحدة الوطنية لبناء دولة عصرية قادرة على مواجهة تحديات العولمة. شكلت المقولات التنويرية مدخلا عقلانيا للتفاهم بين القوميات المختلفة، ورابطا قويا لمجموعات بشرية كبيرة تنتسب إلى اديان سماوية وغير سماوية. كانت غايتها الأساسية إيجاد العروة الوثقى لحماية الوحدة الداخلية في جميع الدول العربية، وذلك من خلال احترام كرامة الإنسان، والمحافظة على خصوصية الجماعات القومية والدينية، والتفاعل الايجابي في ما بينها حفاظا على التعددية الثقافية والتنوع الديني، وهما سمتان أساسيتان من سمات الدولة الديموقراطية العصرية في زمن العولمة. وقد أفادت منها دول كثيرة لبناء نظام سياسي عقلاني يحرص على التناغم الداخلي والانسجام بين جميع المواطنين على قاعدة أن البشر أخوة في الإنسانية، بمعزل عن طبيعة معتقداتهم وطقوسهم الدينية. وشددت على دور ثقافة العيش المشترك لتحصين المجتمعات العربية بالقيم الأخلاقية والانسانية. وعقدت سلسلة متواصلة من مؤتمرات الحوار الثقافي والديني في أكثر من دولة عربية. وأوصت بضرورة تطبيق القيم الإنسانية في الممارسة العملية بين الشعوب العربية ومع شعوب العالم الأخرى على قاعدة تعزيز التفاهم والثقة المتبادلة لضمان المصالح المشتركة. في زمن العولمة وثورات التواصل والإتصال والإعلام والإعلان، تلعب وسائل الإعلام العصرية، المكتوبة منها، والمسموعة، والمرئية، دورا أساسيا في سرعة انتقال المعلومات، وفي التأثير المباشر على الأفراد من خلال ال"فايسبوك"، وال"تويتر"، والأنترنت، ومحطات التلفزة، والإذاعات، والصحف وغيرها. وقد انحرفت بعض وسائل الإعلام العربية في زمن إنفلات الغرائز الطائفية والمذهبية والقبلية على إمتداد العالم العربي عن رسالتها التنويرية في تحويل ثقافة المواطنة إلى قوة فاعلة على أرض الواقع. فهي تشجع اليوم سجالات يومية بين قوى تحرض على العنف من مواقع سياسية متباينة. وتخلى بعضها عن وظيفة الإعلام الحر المسؤول، والدعوة إلى الإنفتاح على معرفة الآخر واحترام خصوصياته لتعزيز الروابط معه، وتطوير التبادل الثقافي، ورفض كل أشكال الحروب والتدخل في شؤون الدول الأخرى، ودعوة الدول الكبرى إلى المشاركة الدولية الفاعلة في حل الأزمات الموروثة وليس دعمه بالمال والسلاح، ومنع انتشار السلاح النووي ووضعه تحت رقابة فاعلة من الأممالمتحدة، وتغليب الحلول الديبلوماسية التي ترعاها الأممالمتحدة. لذا تواجه قوى التنوير العربية اليوم ظروفا صعبة جدا قادت الكثيرين منها إلى مغادرة العالم العربي في هجرة دائمة إلى الخارج بعدما سدّت الآفاق أمام العمل الثقافي العربي الفاعل الذي يحتاج إلى نضالات طويلة الأمد لتوعية الرأي العام، ودعوته إلى الإنخراط المباشر في معالجة قضاياه الملحة التي تطول مستقبل البشرية جمعاء، والتصدي لقوى التدمير الإنساني والثقافي بكل الوسائل المتاحة. وفي حين تطور التعاون الإعلامي المثمر بين شعوب العالم في مختلف المجالات من خلال ثورات التواصل والإعلام والإعلان التي حولت العالم إلى قرية كونية، فقد ارتدّت الأنظمة العربية نحو تبني المزيد من الشعارات الايديولوجية الدينية المتشددة، وتفككت الروابط الداخلية بين مكوناتها السكانية، وهي تواجه تحديات العولمة في ظل غياب الوحدة الوطنية، وغياب الممارسة الديموقراطية السليمة على امتداد العالم العربي. ولم تعد وسائل الإعلام العربية تولي الإهتمام الكافي بنشر القيم الثقافية التي شدد عليها الفلاسفة والمتنورون العرب منذ عصر النهضة الأولى، وفي طليعتها قيم المواطنة، والتسامح، والوحدة الوطنية، واحترام التعددية والتنوع. وهي تخوض معارك إعلامية يومية عبر سجالات متلفزة تشجع على التفرقة الداخلية، وتعزيز النزاعات الطائفية والمذهبية. تعيش منطقة الشرق الأوسط اليوم مرحلة السباق على امتلاك أسلحة الدمار الشامل وهي غير مؤهلة على صيانتها ودرء أخطارها الكبيرة والمحتملة. ختاما، تمر النخب الثقافية العربية في المرحلة الأكثر صعوبة في تاريخها الحديث والمعاصر. لذا تبدو شعاراتها طوباوية، ولا تترك أثرا يذكر في الحياة السياسية أو الثقافية العربية. وما برحت تطالب السلطة القمعية بتبني المساءلة والشفافية. وتدعو القوميات والأديان، وهي في قمة ممارسة العنف الدموي، الفردي والجماعي، إلى بناء الوحدة الوطنية في غياب دولة مركزية قوية وجامعة. فتحقيق تلك المقولات الطوباوية رهن بقيام قاعدة صلبة لمنظومة تربوية حداثية في الدول العربية تؤسس للمواطنة المدنية، والمشاركة في مؤسسات المجتمع المدني المسؤولة في الدرجة الأولى عن تطوير معارف الفرد، واستثمار التكنولوجيا الرقمية وإيجاد سبل الانخراط المدروس في ثورات العلم والتواصل التي غيّرت وجه العالم وجعلته قرية كونية تقوم على اقتصاد المعرفة. يلاحظ أن فشل العرب في مواجهة تحديات العولمة، دفعهم إلى التقاتل الداخلي، وفق أجندات إقليمية ودولية قادت إلى مقتل مئات الألوف، وتهجير الملايين، وتدمير الكثير من التراث الإنساني الذي تحتضنه المجتمعات العربية الراهنة، وساهمت في بنائه شعوب عربية وغير عربية. وباتت تيارات واسعة من العرب تظهر حذرا شديدا تجاه أخطار العولمة الثقافية، وتخشى على خصوصية الثقافات العربية والإسلامية المحلية. تمتلك النخب الثقافية العربية تراثا انسانيا حافلا بالقيم الثقافية التي ناضل من أجلها المتنورون العرب ودفعوا الثمن في مواجهة قوى ظلامية وتكفيرية من جنسيات مختلفة، في الداخل ومن الخارج. وكانت تشكل على الدوام كتلة صلبة تصر على بناء دول ديموقراطية على أسس سليمة تجعل من العرب قوة بشرية واقتصادية كبيرة، وتمتلك ثقافة إنسانية عريقة. فهل تستطيع النخب العربية إعادة رص صفوفها للجم وحش التطرف الديني والسياسي، ونشر ثقافة التسامح لتعزيز الثقة المتبادلة بين العرب أنفسهم، والتضامن السياسي، والتكامل الإقتصادي لتحويل العرب إلى قطب إقليمي فاعل في النظام العالمي الجديد؟ نعيد التذكير هنا بعبارة غبريال غارثيا ماركيز: "إن لحظة من الظلام لا تعني أن الناس قد اصيبوا بالعمى". وحتى تستعيد النخب الثقافية العربية ثقتها بقدرتها على لعب دورها الفاعل في التغيير الديموقراطي عليها أولا إدانة قوى التدمير، الداخلية منها والخارجية، بجرأة، وعدم تبرير ممارساتها الهمجية. وحبذا لو تستذكر مقولة الفيلسوف نيتشه: "وأنت تقاتل الوحش، إحذر أن تصبح وحشا". عن ملحق النهار.