حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    رئيس مجلس السيادة القائد العام وأعضاء المجلس يحتسبون شهداء مسجد حي الدرجة بالفاشر    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    يرافقه وزير الصحة.. إبراهيم جابر يشهد احتفالات جامعة العلوم الصحية بعودة الدراسة واستقبال الطلاب الجدد    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    البرهان يصدر قراراً بتعيين مساعد أول للنائب العام لجمهورية السودان    راشفورد يهدي الفوز لبرشلونة    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



احترس.. (المنطقة الحمراء)…!!
نشر في حريات يوم 05 - 08 - 2015

مغامرة محفوفة بمخاطر حقيقية.. سجلتها لكم وقد لا تصدقوا ما سأرويه لكم.. لكنها الحقيقة المفجعة التي وثقتها لكم بالكاميرا من باب (ليس من رأى كمن سمع).. هذه المشاهد هنا في ولاية الخرطوم فماذا يكون الحال بعيداً في الأقاصي.. مشاهد تفضح عالم مستور عنا رغم أنه قريب بل يعيش بيننا..
الحلقة الأولى..
تحقيق وتصوير: عبدالله ودالشريف
طرق أذني بعض المعلومات عن عالم يعيش بيننا لا علاقة له بعالمنا.. عزلة كاملة كأنه في كوكب آخر.. فقررت أن أخوض هذه المغامرة الخطيرة لأغوص في هذا العالم وأضعه أمامكم. وذلك من أوجب مهام الصحفي أن يكون عيناً للمجتمع يبصر بها ما لا يمكن رؤيته بالعين المجردة..
البداية..!!
يوم الخميس الماضي في حوالي الساعة التاسعة صباحاً.. بدأت رحلتي من (سوق ليبيا) في أقصى غرب أم درمان.. اتجهت غرباً مسافة قصيرة حيث كنت على موعد مع دليلي ومرشدي لدخول (المنطقة الحمراء)..
انتظرته قليلاً وأوفى بوعده .. لكنه فاجأني بدلاً من إرشادي وتقديم المعلومات التي احتاجها بدأ يبذل جهده لإقناعي بالرجوع والتراجع عن هذه المغامرة. قال لي إنه لا يضمن سلامتي.. وكل شيء متوقع وقد لا أعود.. ومع ذلك أبديت له إصراري..
وعندما تأكد أنني لن أتراجع بدأ في تقديم نصائحه.. أولاً لا تحمل (الموبايل) لأنهم سيأخذونه منك عنوة واقتداراً وفي رابعة النهار ولن تستطيع منعهم أو حتى طلب المساعدة لمنعهم… ثانياً.. احمل في جيبك أكبر قدر من (السجائر) فهي عملة شديدة التأثير.. تساعد في فتح الأبواب المغلقة وإغلاق أبواب الشر المفتوحة..
ثم آخر خدمة قدمها لي دليلي هو اتصاله هاتفياً بشخص داخل (المنطقة الحمراء) ليتولى مساعدتي وتسهيل مهمتي.. وأخيراً (توكلت على الله) وواصلت مسيرتي..
تحركت في اتجاه (المنطقة الحمراء) حوالي (15) كيلومتراً لاح لي المشهد من بعيد.. انتظرني رفيقي الذي أوصاه دليلي خارج المنطقة.. وتسلمني ليقودني إلى داخل دهاليز (المنطقة الحمراء)..
رفيقي في الرحلة يحوز على لقب (السلطان) فهو أحد الزعامات الأهلية التي يحترمها سكان (المنطقة الحمراء) وكلمته المسموعة ربما تساعدني في الوصول إلى موضع ثقة من سأقابلهم داخل (المنقطة الحمراء)..
عندما اقتربنا من (المنطقة الحمراء) أعتليت موقعاً مرتفعاً بعض الشيء لألتقط صوراً للمشهد العام للمنطقة.. مشهد مثير لكل كوامن الدهشة والرهبة.. على امتداد البصر اللون البني الداكن لبيوت الخيش التي تشكل قوام (المنطقة الحمراء) يسد الأفق.. نسيج من البيوت المتشابكة والمتلاحمة يجعل الإحساس بأن المنطقة تحوز على (خصوصية) بل وحرية قد تصل إلى ما يشبه أن تكون (منطقة محررة) من القانون..
عندما وصلت إلى أول بيت في (المنطقة الحمراء) ووضعت قدمي في أول طريق إلى داخلها أحسست بأن الأعين من حولي كلها تراقبني بكل اشتباه.. حالة إحساس ب(العداوة) وليس مجرد الاتهام.. ويبدو أنه لولا وجود (السلطان) معي لما أمكنني أن أضع رجلي داخل (المنطقة الحمراء).. ومع ذلك الأمر لم يسلم. بعضهم حاول منعي من مواصلة طريقي لكن كلمة بل زجرة واحدة من السلطان كانت تكف عني التربص..
حالة توحد!!
الذي استرعى انتباهي منذ الوهلة الأولى أن سكان (المنطقة الحمراء) يكاد يعرفون بعضهم البعض.. ليس من السحنة أو تفاصيل الوجه بل من فرط حالة التوحد الوجداني والخيط الذي يربطهم ببعضهم.. يبدو أنهم يدركون أن مصالحهم مرتبطة بتصالحهم مع واقعهم.. وأن أي حالة نشوز عن الواقع هي في الحقيقة خطر عليهم.. فوجود شخص غريب في (المنطقة الحمراء) ليس خطراً في حد ذاته.. بل خطر من زاوية وجود إحساس إنساني مختلف.. قد يلفت الانتباه لبعض التفاصيل الصادمة للغير داخل (المنطقة الحمراء).. فما يرونه هم عملا عادياً مقبولاً قد يراه الغرباء عنهم شذوذاً وخروجاً عن المألوف..
اللحوم.. الكيلو ب(5) جنيهات فقط!!
أول ما قابلني لحوم مفروشة على الأرض. موضوعة فوق قطع من الخيش.. ليست (جزارة) بالمعنى لأن اللحوم مكومة في (أكوام) كبيرة والبيع بالكوم وليس بالكيلو.. والكوم الذي أجزم أن وزنه يفوق الكيلو يباع ب(خمسة) جنيهات فقط.. هل تنتظرني أن أقول لك سبب هذا السعر المتدني.. لا أظنك تحتاج إلى تفسيري.. فالسر في اللحوم نفسها..
لكني – وأجزم بذلك- لا أعد الأمر غشاً تجارياً إذ سأل بعض زبائن المحل.. الذين يشترون هذه اللحوم هل يعرفون مصدرها.. فأكدوا لي أنهم ليسوا بحاجة لمعرفة المصدر طالما أنهم يدركون في كل الأحوال أنها لحيوانات نافقة.. هم يدركون أنها غير صالحة للاستخدام الآدمي لكنهم يقولون لي بكل بساطة.. (طيب.. نعمل شنو؟).. ما باليد حيلة ويسألون (وهل قتلت منا أحداً؟).. أنظروا إلى الصور المرافقة لهذا التحقيق وتأملوا في شكل هذه اللحوم.. والطريقة التي تعرض بها..
سألت أحد بائعي اللحوم (من أين تحصلون عليها.. رد علىَّ بكل ثقة (الله كتلا).. أتذكرون هذه العبارة..؟؟
سبق لصحيفة "التيار" أن نشرت تحقيقاً كاملاً أنجزته الأستاذة أسماء مكائيل عن سوق (الله كتلا) وهي عبارة تعني أن الحيوان مات موتاً طبيعياً أو غير طبيعي لكن ليس بسكين الجزار.. إشهار حالة اللحوم كونها آتية من جثث حيوانات نفقت ولم تذبح..
لكن ما أثار دهشتي أيضاَ ليس لحوم الحيوانات النافقة المعروضة عياناً نهارًا جهارًا فحسب.. بل منظر مجموعات من الكلاب جنباً إلى جنب الباعة والزبائن.. حالة تعايش وتفاهم محيرة..
عندما أشهرت الكاميرا لالتقاط صورة للحوم والبائع حاول أحدهم التعدي عليَّ.. لكن السلطان أشار إليه بيده فتوقف ورجع إلى مكانه دون أن يتفوه بكلمة واحدة.. كان واضحاً لي أن السلطان كلمته نافذة وأنه محل احترام وطاعة الجميع..
سألت البائع.. من أين تجلب هذه اللحوم؟. رد علىَّ بمنتهى العفوية والصراحة.. من المزارع القريبة بعد موتها.. يرميها أصحابها فنأخذها..
قال لي إنهم يقومون بتسريح عدد من الصبية يوميا بحثا عن النافق من الأبقار والضأن والفراخ حول المزارع.
قلت له لكن كيف يأكلها الناس هنا.. أجابني هم يعلمون جيداً أنها لحوم حيوانات نافقة فلهذا يغسلونها بالماء الساخن والملح.. قلت له لكن ألا تسبب لهم الأمراض؟ . ضحك وقال لي نحن نأكلها منذ زمن وها نحن بأتمَّ صحة وعافية..
(كم سعر الكيلو؟؟) سألته.. أضحكته كلمة (الكيلو!!) .. هنا في (المنطقة الحمراء) لا توجد وحدات أوزان أو قياس سوى (الكوم) أو القطعة.. قال لي القطعة أو الكوم ب(خمسة) جنيهات..
الذباب كان يكسوا وجه اللحوم بمسحة سواد داكنة.. كمية هائلة منه تعلو سطح اللحوم وشدني أنهم لا يحاولون هشها أو طردها بعيداً عن اللحوم على الأقل من باب تحسين العرض.. وعندما سألتهم لماذا لا يطردون عنها الذباب؟.. أجروا أمامي تجربة حية مثيرة للدهشة.. الذباب لا يستجيب إطلاقاً.. مهما حاولوا هشه بالأيدي.. كأنه جزء أصيل من اللحوم المعروضة.. هم تآلفوا معه ولم يعد مهماً الحصول على لحوم بلا ذباب..
تجولت في طرقات (المنطقة الحمراء) لأكثر من ثماني ساعات كاملة.. (منطقة محررة) بالكامل من القانون أو أي سلطة سوى سلطة تراضي الجميع سكانها على التعايش مع الواقع الذي يكتنفهم ويحيط بهم باختيارهم أو بدونه.
لا تذهبوا بعيدا.. انتظروني غداً.. مفاجأة لن تصدقوهاً..ً
………………….
(2)
مقدمة الحلقة الثانية..
في الحلقة الأولى أمس؛ وصفت لكم الطريق من سوق ليبيا غربي أم درمان حتى دخولي هذه المستوطنات العجيبة.. ثم مشاهد لحوم الحيوانات النافقة وهي معروضة عياناً نهاراً للبيع بالكوم.. الكوم بخمس جنيهات و.. والفراخ الميتة بروائحها الكريهة تباع أيضاً في سوق مفتوح للجميع الفرخة بجنيه واحد..
قبل المواصلة..!!
بعد نشر الحلقة الأولى أمس انهالت علي المحادثات الهاتفية ومن جميع أنحاء السودان من القراء الذين اطلعوا على التحقيق وأحسوا بمقدار الصدمة مما ورد فيه..
كان كثير من هذه الاتصالات يسألون عن موقع (المنطقة الحمراء) فيجدر أن أؤكد أنها ليست منطقة معزولة بعيدة عن حرم المدينة.. بالعكس تماماً هي كتلة استيطانية بشرية داخل أم بدة.. تحيط بها الأحياء الأنيقة من جوانبها الأربعة.. وكأنما هي جزيرة في بحر واسع.. لا يفصلها من العمران الحضري إلا بضع مئات من الأمتار.. وهذا هو الأنكى في الموضوع.
لأنها ورغم أنف هذا القرب الجغرافي من المناطق الحضرية إلا أنها منطقة مصنفة (خطر) الاقتراب منها نهاراً .. و(خطر جداً) ليلاً.. بل لا يجرؤ أحد على الاقتراب من محيطها بعد مغيب الشمس.. مناقط مقفولة ومعزولة تماماً ليست حكراً على سكانها فحسب.. بل حزام اجتماعي محكم الإغلاق والعزلة.
من أين يكسبون رزقهم؟.
يبقى السؤال المحتم.. من أين يكسب سكان هذه المستوطنات أرزاقهم.. أين يعملون؟؟ الإجابة هي نفسها بفجيعتها تمثل وجهاً آخر للمأساة الإنسانية التي تكتنفهم..
منطقة صناعية (حرة)!!
لن تصدق ما سأقوله لك إلا بعد أن تلقي نظرة على الصور المصاحبة لهذا التحقيق الاستقصائي.. هذه المستوطنات البشرية التي تعيش تحت سطح المجتمع تضم أكبر معامل تصنيع الخمور.. ليس مصنعاً واحداً ولا إثنين ولا ثلاثة بل عدة مصانع كبيرة تكفي بإنتاجها استهلاك جميع ولاية الخرطوم.
ومصانع الخمور هنا لا تبدو عملاً محجوباً عن الأنظار أو متستراً تحت أية واجهة.. لا.. هنا كل شيء في الهواء الطلق فلا الشرطة تستطيع أن تدخل وتخترق هذه المستوطنات البشرية ولا القانون ولا يحزنون..
دخلت المصنع الأول.. هالني وجود عاملات نظيفات جميلات يعملن في الدوام العادي.. مثل أية منشأة تجارية في أية منطقة صناعية أو حي من الأحياء العادية بالخرطوم.. ويبدو من طريقة عملهن أنهن –رغم شبابهن الظاهر- نلن تدريباً وخبرة جلية تؤهلن لإدارة المصنع بكل جدارة.
المصنع مقسم إلى أقسام منظمة.. قسم التخمير.. وقسم التقطير.. وقسم التعبئة والتخزين وإدارة المبيعات..
وإنتاج المصنع متفاوت في الأسعار حسب النوع والصنف..
عندما دخلت المصنع لأول مرة استشعرت تخوف العاملات مني.. ومحاولتهن الابتعاد بقدر الإمكان عني.. لكن السلطان الذي رافقني في هذه الجولة تحدث إليهن و برر لهن مهمتي الصحفية بأنها لصالح الجميع.. وكما ذكرت لكم يبدو أن السلطان محل ثقة الجميع هنا.. فهم يوقرونه وكلمته مسموعة ومطاعة..
إحدى العاملات في المصنع دعتني لتناول كوب من القهوة معهن.. رغم تخوفي الشديد من مصادر الماء التي تصنع بها القهوة والتي بالضرورة هي التي نفسها التي تستخدم في المصنع، إلا أنني كنت بحاجة لكسب ثقتهن أولاً وودهن ثانياً حتى أفتح الصدور المغلقة بالمعلومات.
ارتشفت القهوة.. ولا تسألني عن طعمها لأني لم أك أفكر إلا في مابعدها..
قصة مصنع
روت لي إحدى العاملات طريقة تصنيع الخمور وتسويقها وتهريبها من داخل المعسكر إلى أسواق الاستهلاك في أرجاء ولاية الخرطوم.
قالت لي أن المصنع تمتلكه ثلاث نساء يقمن في مناطق مختلفة داخل ولاية الخرطوم، أي أن المصنع يدار من خارج هذه المستوطنة (المنطقة الحمراء). وذات الأمر ينطبق على بقية المصانع في بقية أجزاء (المنطقة الحمراء) تتكفل ثلاثتهن بمرتبات العاملات في المصنع بأجر أسبوعي (300) جنيهاً، بالإضافة لنفقات العلاج والترحيل والغرامات القضائية إن ألقي القبض عليهن.
إجمالي المرتب الشهري للعاملة (1200) شهرياً عدا الحوافز والميزات الأخرى مثل العلاج والترحيل ومخاطر الغرامات في حالة القبض عليهن خارج المستوطنة بواسطة الشرطة. بحسبة بسيطة أدركت أن جملة المرتب بمتوسط هذه المزايا قد يتعدى ثلاثة آلاف جنيه في الشهر.. بمعنى أنهن يقبضن أكبر من مرتب أستاذ جامعي في أرقى الجامعات السودانية..والأرزاق بيد الله..
كل شروط مكتب العمل مطبقة عليهن.. ولا تسألني هل يذهبن في حالة الخلاف بالشكوى إلى مكتب العمل.. فلربما ل(المنطقة الحمراء) محاكمها وأسلوبها الخاص في فض النزاعات دون الحاجة للتدخل (الأجنبي) من خارج المستوطنة..
مصانع الخمور هي المكون الأساسي لموارد أهل (المنطقة الحمراء) وحاولت الاجتهاد في تقدير كمية وحجم الإنتاج اليومي لهذه المصانع فحصلت على عدة أرقام تبدو مربكة لكنها تؤشر في اتجاه يمنح الفرصة في التأمل.
أحد المشتغلين في المصانع قال لي أن الإنتاج قد يصل حوالى مليون (قارورة) صغيرة في العام من حجم قارورة المشروبات الغازية مثل الببسي والكولا.
في واحد من هذه المصانع قالت لي إحدى العاملات أن المصنع ينتج (5000) قارورة من الحجم الكبير.. عبوة 2 لتر تباع الواحدة ب(30) جنيهاً.. وعند الاستهلاك تباع ب(الكباية) حيث تبيع المصنع (الكباية) بما يعادل (3) جنيهات وتصل للمستهلك في حدود (5) جنيهات..
(شطة) و(السيوبر) و(البكري) و(عرقي الجوافة) و(الجن) هي مسميات الأصناف التي تنتجها هذه المصانع وتختلف أسعارها حسب النوع.
التصنيع
تصنع الخمور عن طريق التخمير حتى التعفن قبل غليها في النار.. بعدها يتم تبخيره بواسطة ماسورة بلاستيكية ثم أخيراً تتم التعبئة لبيعها للمستهلك.
حسب حديث العاملة فإن المواد المستخدمة في التصنيع هي البلح والخميرة وبقايا الجوافة المتعفنة. لكن محدثتي أسرت لي أن أكثر أنواع الخمور تركيزاً يتم إضافة (البول) لها علاوة على الأسفنج والفحم على أن تتم عملية التخمير لعدة أيام.
جولة في المصنع..
تجولت في المصنع الذي يعد أكبر المصانع في (المنطقة الحمراء)..كانت أشعة الشمس تتسلل من فتحات الخيش المستخدم في تشييده.. مقسمة لثلاثة أجزاء مختلفة الجزء الأول للتخمير يليه التصنيع ثم التعبئة تغطي البراميل البلاستيكية والحديدية جنبات المصنع .
في الجزء المخصص للتخمير توجد بركة صغيرة (أنظر الصور) تستخدم لحفظ الماء المستخدم في صناعة الخمور حيث تنعدم المياه في المعسكر، ولاحظت أن الكلاب المنتشرة بكثرة في (المنطقة الحمراء) كذلك تستخدم ذات المياه للاستحمام.
خلال تجوالي داخل المعسكرات لاحظت ممارسات البعض لأعمال فاضحة علناً دونما مراعاة للآخرين لم يبدِ مرافقي تذمره تجاهها ربما لأنها من الأشياء المعتاد عليها هنا.
محاولة تسلل..
بصراحة لم يكن الأمر بالنسبة لي مجرد جمع معلومات ومشاهدات.. حاولت التسلل خلسة إلى داخل ضمير (المنطقة الحمراء).. كنت أنثر بعض الأسئلة التي تبدو عفوية لكني كنت أحاول من ورائها سبر غور المشكلة من الناحية الإنسانية.. سألت إحدى الفتيات.. هل أنت راضية عن عملك في المصنع؟؟ الإجابة كانت مباشرة وصادمة (هل لديك لي عمل آخر؟).. لم أجد إجابة تنقذي من حرج سؤالها..
لكني باغت السلطان بسؤال موازٍ.. أليس من بديل لمصانع الخمور لكسب العيش.. كان صريحاً معي.. قال لي من السهل إغلاقها كلها في يوم واحد.. عندما تتحول (المنطقة الحمراء) إلى (منطقة خضراء) مثلها وبقية أحياء العاصمة.. أن تنال الخدمات ويدخلها الهواء النقي ويجد الشباب مكاناً للعمل ومهن أو حرف يدوية تستوعب طاقاتهم الكبيرة.
هذه الإجابات جعلتني أحس بأننا نرتكب وزرين.. وزر اتهام هذه المستوطنات المهمشة بكثير من الموبقات والتأفف منها.. ووزر أننا نجبرهم على الحياة تحت خط القانون..
هؤلاء الشباب الذين رأيتهم في طرقات (المنطقة الحمراء) موفوري العافية والهمة.. ويمكن أن يكونوا جزءاً من تروس ماكينة الإنتاج بل ومحرك أساسي فيها.. لكنهم هنا بلا أمل.. بلا مستقبل.. بلا وجيع.. أفظع ما يوجعهم أنه لا أحد حتى يحفل بهم أو يعتبر قضيتهم تستحق المتابعة والتبني..
وغداً نواصل في الحلقة الثالثة والأخيرة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.