دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد المحمود أبو : منهج الوسطية
نشر في حريات يوم 23 - 08 - 2015


بسم الله الرحمن الرحيم
مركز الخرطوم الدولي لحقوق الإنسان
السبت: 22 أغسطس 2015م
منهج الوسطية .. بين الغلو والاستلاب
تقديم: الأستاذ عبد المحمود أبو
رئيس منتدى العالمي للوسطية في السودان
أمين عام هيئة شؤون الأنصار للدعوة والإرشاد
المقدمة:
الدعوة الإسلامية منذ أن انطلقت في مكة المكرمة واجهت تحديات كثيرة من المجتمع الجاهلي؛ تمثلت في الصدود، والإنكار، والتشكيك، والمواجهة، ومحاولة الاستئصال؛ ولكن الدعوة كانت تحمل عناصر القوة في داخلها، فتمكنت من الصمود في وجه الابتلاءات، وحققت انتصارات تلو انتصارات على النظام الجاهلي؛ فثبتت أقدامها، وأبطلت مفعول أدوات الخصم حتى ضاق بها ذرعاً وقرر القضاء عليها؛ فانتقلت إلى المدينة المنورة . وفي المدينة واجهت الدعوة تحديات من نوع مختلف؛ تتعلق ببناء النظام الجديد على أسس ومفاهيم غريبة على النظام القبلي؛ الذي كانت تسيطر عليه قبيلتا الأوس والخزرج وحلفاؤهما من اليهود, فكانت التحديات تتمثل في : بناء المجتمع على مفاهيم الدين الجديد، وتجاوز الصراع الأوسي الخزرجى , ومواجهة التيار السلولي ؛ – نسبة إلى عبد الله بن أبي بن سلول- والتصدي للمكر اليهودي , فضلاً عن الاستعداد للمواجهة المحتملة مع أهل مكة؛ الذين لن يسكتوا على اللطمة التي وجهها لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة وإفشال مخططهم الذي اتفقوا عليه في دار الندوة .
وعلى طول المسيرة التاريخية تعرضت أمة الإسلام لتحديات كثيرة، داخلية وخارجية؛ استطاعت أن تواجهها وتخرج منها منتصرة بالرغم من الخسائر التي تعرضت لها , وأخطر تلك التحديات؛ تمثلت في الخلاف الذي فرق الأمة إلى فرق وجماعات؛ جرت بينها حروب أزهقت فيها آلاف الأرواح , ثم الاستعمار الخارجي، وغير ذلك من التحديات التي لا تزال آثارها تنهش في جسد الأمة الممتلئ بالقروح والأمراض .
إن أمتنا اليوم تمر بمنعطف تاريخي خطير؛ حيث تكالبت عليها الأمم من كل الأرجاء للقضاء عليها، وأنهكتها الحروب الداخلية، والخلافات الطائفية والمذهبية , وعطلت نهضتها النظم الشمولية، والصراعات السياسية , واختطف شعارها المتطرفون فشوهوا صورة الإسلام وشاركهم في جرمهم الطغاة والغزاة .
المسلمون يشكلون خُمْس سكان العالم تقريباً , ويتوزعون في كل القارات , والعالم الإسلامي يوجد جغرافياً في قلب المعمورة وله صلاة جغرافية بمعظم قارات الدنيا , بل يسيطر على أهم الطرق والممرات الدولية , ومعظم الطاقة البترولية في العالم الإسلامي, فأمة الإسلام من حيث العدد، والموارد، والموقع الاستراتيجي، والرباط الروحي؛ أمة متفردة لا تضاهيها أمة أخرى . ولكن مع هذه الميزات البارزة تعاني من معيقات مُعَطِّلة. إن أمتنا مطالبة بمراجعة مسيرتها، وتشخيص أمراضها، وتحديد الدواء، حتى تنهض من جديد لمواصلة مسيرتها القاصدة بإذن الله .
إن الرأي العام في بلداننا؛ يتطلع لقادة الفكر والرأي أن يقوموا بتشخيص الأوضاع، ويقدموا الحلول التي يمكن أن تنتشل الأمة من هذا الواقع المرير, ويُبَيِّنوا الوسائل التي تؤدي إلى استنهاضها، وبعث الأمل فيها.إن ورقتي تشتمل على مقدمة وثلاثة محاور وخاتمة , وهي مساهمة متواضعة أرجو أن أوفق لتقديم مايفيد.
المحور الأول : الفكر الداعشي ومغذياته:
تنظيم الدولة الإسلامية، والذي يعرف اختصارا بعبارة داعش؛ هو في الظاهر يبدو كأنه امتداد لفكر الغلو والتطرف؛ الذي ظهر في الساحة الإسلامية في وقت مبكر في نهاية عصر الخلافة الراشدة، ونمى في العهد الأموي ثم تراجع وعاد في شكل حركات متقطعة في كافة العصور التي مرت بها أمة الإسلام؛ ولكن بالتمحيص والتدقيق يتبين أن هذا الفكر الداعشي يختلف عن فكر الخوارج. فالخوارج تمردوا على الخلافة بتأويل خاطئ، ووجهوا سلاحهم ضد الدولة، والدواعش زعموا أنهم أقاموا دولة الخلافة وطالبوا المسلمين بمبايعتهم، وسلاحهم في الغالب موجه ضد مخالفيهم في الرأي وضد الأبرياء المدنيين، والخوارج أمنوا أهل الذمة وحرموا قتلهم، ولكن الدواعش قتلوا المستأمنين وخفروا ذمتهم، والخوارج اعتمدوا على القرآن دون الأحاديث في الغالب، والدواعش اعتمدوا على الأحاديث وأولوها تأويلا خاطئا؛ والخوارج كان يقودهم علماء أهل ورع! والدواعش يقودهم أشخاص قليلوا الفقه؛ وهكذا فالفكر الخارجي اعتمد على تأويل خاطئ ولذلك عندما حاورهم ابن عباس وعدد من العلماء تراجعوا واتبعوا الحق.
إن الفكر الداعشي يستند أساسا على المفهوم السلفي للإسلام، والمفهوم السلفي يختلف عن المنهج السلفي، فالمفهوم السلفي يحاول أن يفهم الحاضر بفهم السلف، ويسعى لإسقاط اجتهادات السلف على الواقع، بل يعمل من أجل استعادة الخلافة شكلا لامضمونا! بينما المنهج السلفي يعتمد على الالتزام بقطعيات الشرع مع مراعاة المقاصد، ويجتهد لمواجهة المستجدات بما يلائمها، والدواعش الحاليون لم يتخرجوا من معاهد علوم شرعية، ولم يدرسوا في جامعات إسلامية، وحظهم من العلوم الشرعية لايتعدى بضعة أحاديث وبعض سور القرآن الكريم؛ ومعظمهم درس في مدارس مدنية، وتلقى معلوماته الشرعية عن طريق وسائط التواصل الاجتماعي، وهم بارعون في استخدام التقنية الحديثة.
إن رصد الفكر الداعشي ومواقفه وسلوكه يبين أن الباعث لهذه الظاهرة يتمثل في عدة عوامل فكرية واجتماعية وثقافية وسياسية ونفسية؛ وهي متراكمة في الساحة الإسلامية منذ أمد بعيد تبلورت في الآتي:
أولاً : التقسيم القطري : فمنذ سقوط السلطنة العثمانية؛ وريثة الخلافة في تركيا عام 1924م؛ فقدت الأمة الرباط السياسي، وتقسمت إلى دويلات قطرية صغيرة منغلقة على نفسها، وحلت المواطنة محل الرباط الديني, وفي معظم الأحيان توجد مشاكل بين الدولة وجاراتها من الدول التي تنتمي إلى نفس الدين؛ بل دخلت كثير من الأقطار الإسلامية في حروب ضد بعضها بعضا استعانت فيها بالأجنبي على جارتها المسلمة! فاتسعت شقة الخلاف، وصار الغريب أقرب من الجار الشقيق! الذي تجمعه مع جاره ديانة واحدة، وثقافة واحدة، وتاريخ مشترك؛ هذا العامل وسع الشقة بين المسلمين وضيق فرص الوحدة بينهم.
ثانياً : التفاوت الاقتصادي : بعض الدول الإسلامية تصنف من الدول الغنية، وبعضها متوسطة الحال، وأخرى تعيش تحت خط الفقر, فالفوارق الاقتصادية أفرزت فوارق اجتماعية ونفسية قتلت الشعور بالوحدة عند كثير من المسلمين, مع أن الدعوة الإسلامية في الأصل جاءت لتصحيح العقيدة، وللتقسيم العادل للثروة , وشنّت حملة كبيرة على المُحتكرين، والمُرابين، وأصحاب الكنوز، والمانعين الماعون، والممتنعين من الحض على طعام المسكين . هذا التفاوت لم يقتصر على الدول، بل انسحب حتى على المواطنين في الدولة الواحدة، فبعضهم يموتون من التُّخمة، وآخرون يموتون من الجوع! وصدق إمام المتقين علي عليه السلام عندما قال : " ما جاع فقير إلا بتخمة غني " ..
ثالثاً : الصراع السياسي : لا تكاد دولة إسلامية تخلو من صراع على السلطة , والصراع والتدافع جبلة بشرية ولكن طبيعة الصراع السياسي في البلدان الإسلامية صراع خشن؛ إلا من رحم الله، فالدول الغربية مثلاً حلت هذا الإشكال، واهتدت إلى التداول السلمي للسلطة؛ فوفّرت كثيراً من الطاقات والإمكانات والأرواح المهدرة في الصراع من أجل السلطة، ووظفتها لصالح نهضة شعوبها, ولكن عالمنا الإسلامي في الغالب يخلو من الحاكم السابق الحر الطليق! فهو إما في السجن، وإما في المنفى، وإما في القبر, وطبيعة الصراع السياسي عندنا تخلو من التسامح! فالحكومة لا ترى في المعارضة إلا متآمرة وخائنة ومخربة! والمعارضة لا ترى في الحكومة إلا الوجه القبيح المُتَمثل في البطش والتنكيل والفساد …الخ
رابعاً : الخلاف: أصبح الخلاف سمة غالبة عند المسلمين! فهناك خلاف طائفي، وهناك خلاف سياسي، وهناك خلاف فكري، وهنالك خلافات مذهبية , والخلاف سنة إلهية، وضرورة اجتماعية، وواقع كوني؛ ولكن طبيعة الخلاف؛ هي التي تفرق بين الخلاف المذموم، والاختلاف المحمود , إن الواقع الإسلامي يبين أن معظم الخلافات مذمومة؛ لأن كل صاحب مذهب أوطائفة أو فكر؛ لا يقبل بالآخر، ويسعى لاستئصاله , بل انتشرت ظاهرة التكفير التي أصبحت سمة غالبة لغلاة العصر الحديث , فالخلافات داخل الأمة واحدة من عوامل التراجع والاحباط..
خامساً : الأطماع الخارجية : تلك العوامل أظهرت الأمة بمظهر الضعف , فقد عجزت أن تحرر القدس أولى القبلتين والحرم الثالث في الإسلام , وهذا الضعف أطمع العدو؛ فصار ينفذ سياساته في بلاد المسلمين عبر بلدان وشخصيات مسلمة , وصارت ديار المسلمين ساحة للحروب الدولية بالأصالة أوبالوكالة , وفقدت الأمة شخصيتها الاعتبارية، وصار الغرب مبهراً لكثير من الشباب المسلم؛ لأنه يجد عنده ما يفتقده في بلده! كالتنمية، والحرية، واحترام حقوق الإنسان ..الخ فهاجر كثير من أبناء المسلمين للغرب طلباً للرزق، أو فراراً من البطش، أو تلبية لحاجة نفسية .
تلك العوامل ولدت الإحباط عند كثير من المسلمين، وساهمت في تشكيل العقل الرافض للواقع عند كثير من الشباب، فأصبح مهيئا للدخول في أي تنظيم يجد فيه تنفيسا لإحباطاته وتفريغا للمشاعر المضطربة في داخله؛ فالمظالم المشار إليها أصبحت بيئة صالحة لولادة التطرف , واستغل المتطرفون هذا الواقع، فاندفعوا ينشدون التغيير،واستقطبوا الشباب ودفعوا بهم في حروب سميت جهادا زورا وبهتانا.
إن ظاهرة داعش وأخواتها صنيعة شارك في بروزها تحالف آثم بين الاستبداد، والتطرف السلفي، وتيارالمحافظين الجدد في أمريكا , هذا التحالف هو المسئول عن الكارثة التي تمر بها أمتنا في الوقت الراهن .
المحور الثاني : المشاكل التي تواجه الفكرالاسلامي :
الفكرالاسلامي؛ هو نشاط عقلي يقوم به العلماء والمفكرون؛ لبلورة رؤية إسلامية تعالج الأزمات، وتتصدي للتحديات التي تواجه الأمة ، فهو اجتهاد بشري يستند علي أصول إسلامية، ولا يدعي قدسية النصوص والثوابت ، والفكر يتطور حسب تطور الأحداث والقضايا التي يتصدي لمعالجتها، إن الفكر الإسلامي يعاني اليوم من مشاكل كثيرة تعيق تطوره أذكر منها الآتي:
أولا:الجانب المعرفي :
تميز الإنسان على المخلوقات الأخرى بالعقل، والإرادة، والحرية، وبالمعرفة الواسعة التي خصّه الله بها قال تعالى : ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿31﴾ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿32﴾ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بأسمائهم فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بأسمائهم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة :31-33] إن معجزة الرسول الخاتم تتمثل في القرآن الكريم الذي نزلت آياته الأولى مبينة قيمة العلم والمعرفة قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق:1-5] والحضارة الإسلامية تاريخياً؛ قامت على صرح علمي متكامل؛ شمل كل جوانب الحياة، وتوفر في ظلها المناخ الذي ساعدعلي تفجير الطاقات الإنسانية؛ فاكتُشِفت العلوم، وتَوَسَّعت المعارف، ووضعت المناهج العلمية التي اهتدى بها اللاحقون, غير أنّ هذا العطاء تراجع لعدة عوامل؛ أهمها : أن المناهج السائدة في عالمنا الإسلامي؛ لا تساعد على الإبداع، والابتكار، والتجديد؛ فهل من سبيل لإيجاد منهج يتعامل مع القرآن والسنة بأسلوب الاستنطاق؛ كما سمّاه الشهيد الإمام محمد باقر الصدر, منهج يؤسس لمنظومة معرفية، تنطلق من الكتاب المقروء ( القرآن الكريم ) والكتاب المنظور( الكون ) منهج يغرس في المسلم ملكة النقد والمقارنة والاستنتاج العقلي , منهج يواكب حركة التطور التي حدثت في الكون؛ بسبب ثورة الاتصالات والمواصلات وضخ المعلومات بصورة لم يسبق لها مثيل! فالمعرفة مصادرها أربعة: الوحي، والإلهام، والعقل، والتجربة؛ ولكن الواقع الماثل يفيد أن المصادر قداختزلت، فتكونت عقلية قاصرة عجزت عن تقديم حلول ناجعة لأمراض أمتنا. إن أول إشكال يعاني منه الفكرالاسلامي هو التحدي المعرفي ..
ثانيا: تناقض الخطاب:
إن أهم إشكال يواجه الفكر الإسلامي؛ هو تناقض الخطاب عند دعاة الإسلام! فكثير من المسلمين وغير المسلمين يستغربون من تناقضات خطابات العاملين في مجال الدعوة الإسلامية، والمتحمسين لها من العلماء، والمفكرين، وخطباء المساجد، وغيرهم من النشطاء في هذا المجال! وهذا الاستغراب مرجعه التعارض بين المفاهيم والمواقف؛ التي تصدر عن هؤلاء المعنيين مع أنها مدعومة بالنصوص والأدلة , بل أكثر من ذلك نجد أن هذا التناقض أدى إلى إضعاف الالتزام بالإسلام عند كثير من المسلمين؛ من حيث العقيدة، واتباع الأحكام، وثبات المواقف؛ مما نتج عنه زعزعة واضطراباً في الحالة الإسلامية بصفة عامة , فصار الدعاة عاجزين عن الإقناع؛ لأنهم عندما يطرحون أي مبدأ أو فكرة مقنعة؛ يواجهون بالنقيض الذي يطرحه داعية آخر ! ومن الناحية الأخرى فإن غير المسلمين؛ قللوا من احترامهم للمسلمين؛ بسبب هذا السلوك الذي يبدر منهم, واقتنعوا أنهم على حق! لأنهم ينظرون إلى المسلمين من خلال الممارسة والواقع فيقولون لو كان دين هؤلاء صحيحا لما كانوا على هذه الحال ! والذين أنصفوا المسلمين فإن إنصافهم يأتي من اطلاعهم على الإسلام من مصادره الأصيلة، ومن تاريخه الناصع، فأقنعتهم الحقائق والوقائع بحقيقة هذا الدين وقليل ماهم , إن التناقض في الخطاب الإسلامي بين العاملين في مجال الدعوة يرجع لعدة عوامل أهمها :
العامل الأول : غياب مرجعية دينية مجمع عليها لتكون لها الكلمة الأخيرة في حسم الخلاف, فلقد غابت هذه المرجعية بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم , وقد يقول قائل إن المرجعية موجودة هي: الكتاب والسنة ,هذا صحيح من حيث مصدرية الأحكام, ولكننا مع ذلك نرى الخلاف قائما بوجود الكتاب والسنة؛ لأن منهج التعامل معهما يختلف من عصر إلى عصر، ومن شخص إلى آخر, فغياب المرجعية البشرية المجمع عليها عامل من عوامل التناقض المعاش .
العامل الثاني : المنهج التعليمي المتبع في كافة المؤسسات الدينية؛ غيب حقيقة الدين الإسلامي عن كثير من المسلمين, وأهمل روح الاسلام بتركيزه على الفروع والشكليات، لقد اعتمد المنهج على التحفيظ والرواية؛ مهملا الأسلوب النبوى القائم على التربية، وغرس المبادئ والمفاهيم؛ عن طريق الحوار؛ بصورة تمكن المُتَلقى من التفاعل معها وتطبيقها, كما افتقر إلى وسائل غرس نهج التفكير، والمقارنة في أذهان المسلمين , ولذلك فإن الدين الخاتم لم يتم استيعابه كرسالة عالمية خالدة تخاطب كل بني البشر باختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وعصورهم؛ بل نهج كثير من الدعاة يقدم الإسلام كأنه ديانة قومية محلية متقوقعة في بادية العرب في عصر الجاهلية .
العامل الثالث : تحكم النظم السياسية المستبدة؛ إن توقف منهج الخلافة الراشدة في الحكم، ووقوع الأقطار الإسلامية تحت نظم الإستبداد؛ أدى إلى شلّ حركة الفكر الإسلامي، وغيّب تلاقح الأفكار والآراء؛ الذي يمثل أهم عوامل الإبداع والتطور، لما يتيحه من تعدد الخيارات التي تمكن المتلقي من الاختيار بين البدائل , فالنظم المستبدة لا تعرف إلا رأياً واحداً هو رأي الحاكم بأمره! ومن خالفه فمصيره واحد من اثنين : إما السجن وإما القبر !.
العامل الرابع : اختلاف البيئات والأزمنة والأمكنة له أثر كبير على الفكر، وبالتالي فإن الفهم للدين يتعارض من شخص لآخر لأنه ليس بالضرورة أن تكون وسائل الاستنباط، وترتيب الأولويات محل اتفاق من الجميع في ظل وجود المؤثرات والخلفيات المتعارضة .
العامل الخامس : تعامل الآخر الملي مع الإسلام والمسلمين؛ خلق رد فعل غاضب لدى المسلمين، فاختلفت أساليبهم في التعامل مع هذا الآخر، ما بين الرفض والتواصل , فمنذ أن جاء الإسلام وجد صدوداً وكيداً من المشركين، واليهود، وبعض النصارى؛ واستمر هذا النهج حتى عصرنا الحاضر مما جعل كثيراً من المسلمين يرفضون أي تسامح مع الآخر، ويدعون لإخضاعه بالقوة أو استئصاله , بينما يتبع آخرون منهجاً يتمسك بالأصل، ويدعو إلى معاملة كل تصرف بما يناسبه، فإذا انتفت الأسباب رجعنا للأصل .
هذه العوامل وغيرها أدت إلى بروز مدارس كثيرة داخل الملة الإسلامية يمكن إجمالها في ثلاثة مناهج تتفرع عنها فرق وطوائف ومذاهب؛ تغطي الساحة الإسلامية بامتداداتها الأفقية والرأسية, تلك المناهج هي : منهج الانكفاء ؛ ومنهج التبعية ؛ ومنهج الوسطية . فالمنهج الأول يتبع أسلوبا لا يميز بين الثوابت والمتغيرات؛ ويقدس التاريخ بكل مراحله, ويرفض التواصل مع الآخر، ولديه أفكار معلبة يسعى لإسقاطها على الواقع دون التفات إلى العلل والمتغيرات الزمانية والمكانية والظروف البيئية. أما المنهج الثاني فنقيض المنهج الأول ينتمي إلى الإسلام اسماً، ولكنه في الواقع مستلب أمام الآخر، ومنبهر به؛ فيسعى إلى تقليده في كل شئ ، ويدعو إلى التحرر من كل ما هو ماض في تاريخنا، بل يتصور أن سبب تخلفنا هو التمسك بالإسلام. والمنهج الثالث يتبع أسلوبا وسطاً يلتزم بالثوابت ويجتهد في المتغيرات، ولا يتحرج من الاقتباس من التجارب الإنسانية النافعة، ولكن وفق ضوابط ومعايير معينة تمنع الانكفاء وتعصم من الذوبان.
ثالثا: المشكل السياسي :
الإسلام جاء ديناً خاتماً للرسالات؛ اشتمل على أصولها، وتميّز عليها بالعموم، وصلاحية التطبيق عبر الزمان والمكان , وقد اهتم الإسلام بكل شئون الحياة الفردية والمجتمعية، وعلى نطاق الدولة وعلاقاتها؛ وكان العهد النبوي وعهد الراشدين يجسد الروح الإسلامية في المجال السياسي , غير أن هذا النهج انقطع بتحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض , فتعطلت الشورى، وغاب العدل، واضطرب النظام السياسي إلى يومنا هذا, لقد توصل الغرب إلى بلورة فكر سياسي؛ تمخض عنه النظام الديمقراطي، وهو نظام يقوم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، والفصل بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة، وسيادة الدستور. إن النظام الديمقراطي؛ يشكل تحدياً كبيراُ لأمتنا؛ التي تحفظ شعارات عن النظام السياسي؛ مثل الخلافة، ونظام الشورى، والمساواة، والعدل، ويحفظون أن الإسلام سبق النظام الدولي الحديث في تطبيق وكفالى حقوق الإنسان؛ غير أن هذا النظام لم يتبلور في شكل نموذج متفق عليه من علماء الأمة وقادتها، ولم يطبق في أرض الواقع المعاصر؛ لينافس النظم السائدة في الساحة العالمية , مما جعل الرأي العام الإسلامي منقسماً فبعضه يؤيد النظام الملكي وبعضه ينادي بالديمقراطية وبعضه يتطلع للخلافة .. وهكذا . والآخرون ينظرون إلينا بسخرية لعجزنا عن تقديم نموذج نقنع به الآخرين بصحة مانقول فالتساؤل الذي يواجهنا في هذا المجال ماهو النظام السياسي الإسلامي الذي يجسد مبادئ الإسلام ومقاصده وتعاليمه لتلتف حوله الأمة وتدعو له ؟.
رابعا:التحدي العلمي:
التطور العلمي بلغ مبلغاً ليس له مثيل في التاريخ المعلوم , وكان للحضارة الإسلامية قصب السبق في اكتشاف العلوم ووضع مناهج البحث العلمي , غير أن هذا النجاح أصبح من التاريخ , واليوم فإن العالم الإسلامي في مؤخرة الأمم في مجال الإنتاج العلمي والتكنولوجي , وإن وجد بعض النشاط العلمي؛ فهو منقول عن الآخرين وليس أصيلاً , لقد تطورت العلوم بصورة مذهلة بعد اكتشاف الذرة والطاقة النووية , ويتحدث العلم الآن عن الجينات، والاستنساخ، ونظرية الكون المتمدد، وغيرها من التطورات الهائلة في مجالات العلوم؛ فماهو حظ المسلمين من كل ذلك ؟ إن التحدي العلمي الذي يواجه أمتنا لا يستهان به فما العمل ؟
خامسا:المشكل الاقتصادي :
النشاط الاقتصادي الآن تجاوز المفاهيم التقليدية، وظهرت مفاهيم الشركات العابرة للقارات، وأسواق الأسهم ،والتجارة عبر الشبكة العنكبوتية ( الانترنت )، وهي مفاهيم تعكس حجم التطور الذي حدث في الاقتصاد العالمي , غير أن العالم الإسلامي أغلبه يصنف ضمن الدول الفقيرة! فكثير من دوله لا تستطيع توفير القوت، ولا المياه النقية لشعوبها , واقتصاديات كثير من الدول الإسلامية مرهونة للنظام الاقتصادي الغربي، وقد لحقها الضرر جراء الانهيار المالي الذي اجتاح الغرب مؤخرا ، ومما يستغرب له أن بلداننا غنية بالموارد الطبيعية كالتربة الصالحة للزراعة، والمياه العذبة، والثروة الحيوانية والغابية، والقوة البشرية؛ ولكنها عاجزة عن استغلالها وتطويرها بسبب سوء الإدارة، والرشوة، والفساد ..الخ وحتى المصارف التي قامت على النظام الإسلامي لم تشكل بديلاً مصرفياً جاذباً؛ بل صار كثير منها أكثر سوءً من البنوك الربوية , لقد كتب كثير من العلماء عن الاقتصاد الإسلامي، والملكية في الشريعة الإسلامية، والنظام النقدي، وغير ذلك؛ لكن يظل الواقع الاقتصادي عاجزاً عن المنافسة! فالتحدي الذي يواجهنا هو كيف نقدم نظرية اقتصادية إسلامية عملية تبلور نظاماً اقتصادياً بديلاً يتناول علم الاقتصاد، ويحدد معالم النظام الاقتصادي الإسلامي ، ويعالج مشكلة الإنتاج والتوزيع العادل للثروة، ويحارب الربا والاستغلال والاحتكار..الخ
سادسا:المشكل الدولي :
عالم اليوم لا نجد له وصفاً في التاريخ , فكتب السير عندنا تتحدث عن نظام دولي ينقسم إلى دولتين هما دولة الإسلام ودولة الكفر , ودولة الكفر إما أن تكون حربية وإما أن تكون داخلة مع المسلمين في عهد , ولكننا اليوم نعيش في عالم مختلف فالنظام العالمي اليوم يقوم على دول قطرية تقوم الحقوق والواجبات فيها على أساس المواطنة , وقامت فيه منظمة دولية هي الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية المتخصصة، وهي مؤسسة يحكمها ميثاق عالمي؛ يهدف إلى حفظ الأمن والسلم الدوليين , وتضم الأمم المتحدة دولاً تنتمي إلى كل الأديان والثقافات والقارات, وهناك تكتلات إقليمية كالاتحاد الأوروبي ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي , إضافة إلى تكتلات اقتصادية وأحلاف عسكرية ومنظمات ثقافية , وجمعيات حقوق الإنسان .. وغيرها من المؤسسات الدولية التي تتدخل في سيادة الدول وحرية الأفراد بقوة القانون الدولي.
إن الإشكال الذي يواجه الفكرالاسلامي؛ هو كيف يتعامل مع الواقع الدولي المعاصر من أرضية إسلامية تجعلنا متصالحين مع أنفسنا ومع عقيدتنا وقادرين على التعاطي مع واقعنا بإيجابية .
سابعا: المشكل الوحدوي :
الوحدة الإسلامية تمثل أشواقاً وجدانية، وتطبيقاً لأمر إلهي : ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء:92] إن عوامل الوحدة متوفرة عند المسلمين, فالإله واحد، والنبي متفق على سيرته منذ ميلاده وحتى وفاته، والكتاب متفق عليه، والقبلة واحدة، والتاريخ مشترك، والمستقبل واحد، والمشاعر متفقة؛ غير أنه بالرغم من وجود هذه المُوَحِّدات؛ إلا أن البون شاسع بين الدول الإسلامية، فالمصالح متناقضة، والفوارق كبيرة، والحواجز النفسية سميكة , والحدود القطرية صارت مقدسة، تَحْرِم المسلم حتى من الحقوق الإنسانية! إن التناقض بين التطلعات والقدرات, والتباين بين المثال وبين الواقع المعاش , والإختلاف بين المحفوظ وبين المنظور؛ كل ذلك يشكل عبئاً ثقيلاً على العقل الجمعي للأمة , فالتحدي هو كيف تتحقق الوحدة في ظل هذه الأوضاع؟
المحور الثالث : الحلول والمخارج الممكنة :
القرآن الكريم يعلمنا أن الابتلاءات والامتحانات أقدار إلهية؛ يمحص الله بها المسلم ويختبر بها الأمة, فالإنسان خلق ليكدح في الأرض، ويبتلى بأمر الاستخلاف؛ الذي عجزت السموات والأرض والجبال عن القيام به؛ قال تعالى : ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب:92] ويخبرنا القرآن أن المسلم لا تزيده الابتلاءات إلا منعة، فهو مُحَصَّن بالإيمان، وبالاستعانة بالله على مصائب الدهر , وأنّ نصره سيتحقق إذا استكمل شروط النصر , وهي شروط مستودعة في سنن إلهية، لا تحابى، ولا تتخلف؛ فمن استوفاها نال مطلوبه، ومن تخلف عنها لن يحقق نصراً وإن تمسّح بكل الشعارات والمسميات الإسلامية؛ قال تعالى : ﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ والملائكة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسائلين وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة:177] وفي عصرنا الحالي فإن الابتلاء الذي حدث هو ابتلاء للأمة، وهو أخطر من ابتلاء الأفراد , لأن الأمة إن لم تنجح في الاختبار؛ سوف تُسْتَبْدل قال تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿19﴾ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [ابراهيم:19-20] فلكي نخرج من هذه الورطة؛ فإننا مطالبون بالتفكير الجمعي؛ انطلاقاً من الأصل الذي توحد عليه سلفنا، واستطاعوا عبره أن يغيروا التاريخ، ويحملوا للإنسانية حضارة دينية إنسانية؛ تحكمها الأخلاق، ويقومها الدين , حضارة استطاعت أن تغير العقل البدوي الذي كان يفتخر بالأنساب، ويعتز بالعصبية، وتأخذه الحميّة بالحق وبالباطل، مثل قول القائل :
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
هذه المفاهيم غَيَّرها الإسلام إلى مفاهيم العدل عند الغضب، والعفو عند المقدرة، والإيثار عند الحاجة, قال تعالى : ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾[الأعراف:199] وقال تعالى : ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ﴾ [النحل:126] وقال تعالى: ﴿… وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر:9] فالمسلمون بالرغم من ضعفهم الماثل إلا أنهم في الواقع يقفون على أرضية صلبة، ويستندون إلى مرجعية أثبتت جدواها في التاريخ، فالمطلوب هو: مراجعة الأداء الحالي على هدى المرجعية، للخروج من هذا المأزق الراهن وذلك بالآتي :
أولاً : نقد الذات : إنّ مراجعة الأداء، وتقييم التجارب، ومحاسبة النفس، والاعتبار بالتاريخ؛ مفاهيم حثّ عليها الإسلام في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم , لأنها خطوات أساسية في تحسين الأداء , وعوامل فعّالة في إصلاح الحال , قال تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ آل عمران:135] وعاب الإسلام على أولئك الذين يرفضون المراجعة، ولا يعترفون بأخطائهم؛ تعالياً واستكباراً، قال تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴿204﴾ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴿205﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة:204-206] عليه فإن النقد الذاتي؛ يبصرنا بمواقع الخلل، ويعصمنا من الانزلاق في مهاوي الردى , وينمي فينا ملكة التمييز بين الحق والباطل , والتفريق بين الإيجابيات والسلبيات , وإذا طبقنا منهج النقد الذاتي في التعامل مع وقائعنا المعاصرة؛ لأدركنا حجم الخطأ الذي وقعنا فيه , وعلى سبيل المثال تعامُلُنا مع الحروب التي تنشب بين الدول والجماعات المسلمة فالمنهج الصحيح في التعامل مع هذه الوقائه هو قوله تعالى: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿9﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾[الحجرات:9-10] هذا التوجيه يفيد الآتي :
نشوب قتال بين طائفتين مؤمنتين .
وجوب السعي بينهما بالصلح .
تقصي الحقائق لمعرفة المعتدي في حال تعذر الصلح .
التضامن بين جميع المسلمين لمقاتلة الطائفة الباغية حتى ترجع إلى الحق .
بعد رجوعها مطلوب السعي للصلح بينهما وذلك بإزالة المظالم وإحقاق الحق .
التأكيد على أن الأخوة بين المؤمنين هي الأصل وأن الأحداث العابرة ينبغي أن لا تصرفنا عن الأصل .
وبتطبيق هذا المنهج على تلك الوقائع نجد أننا قد خالفنا المنهج الإسلامي وذلك بالآتي :
1) بعضنا يتخوف على مصالحه فيقف مسانداً لأحد الطرفين مقدماً المصلحة الذاتية على المصلحة العامة للأمة .
2) آخرون يساندون هذا الطرف ضد الطرف الآخر محكومين بالعصبية .
3) وآخرون يدعمون استمرار الحرب خدمة لأجندة خارجية يسعدهم الاحتراب بين المسلمين.
4) والذين يدعون إلى تطبيق المنهج الإسلامي في مثل هذه الوقائع لا يلتفت إليهم أحد .
وهكذا فإن التعامل الخاطئ مع هذه الواقائع يأتي بنتائج عكسية، فلا المصالح الذاتية تتحقق , ولا العصبية تنتصر، ولا الأجندة الخارجية تفيد, وحامي المصالح الإقليمية والدولية انقلب على مسانديه الإقليميين والدوليين , ووقعت المنطقة كلها ضحية للعدوان والاحتلال وصدق الله سبحانه وتعالى حيث يقول : ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴿124﴾ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ﴿125﴾ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴿126﴾ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه:124-127] إن إتباع الحق هو النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة قال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته القضائية لأبي موسى الأشعري : " ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت لرشدك , أن ترجع إلى الحق فإن الحق لا يبطله شئ واعلم أن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل " إننا بالنقد الذاتي نصحح أخطاءنا ونصوب مسيرتنا ونستمطر رحمة الله التي هي قريب من المحسنين .
ثانياً : بلورة منهج جديد للتفكير : لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤسس العقلية الإسلامية في الصدر الأول على هدى القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فقام عند المسلمين تصور واضح للوجود، ولوظيفة الاستخلاف، وللكون، وللحياة، وللمصير؛ فلم يحتاروا في تعاملهم مع الواقع؛ بل استطاعوا أن ينقلوه إلى الأفضل بالسلم والاقتناع , لقد تآكل هذا التصور مع مرور الزمن، وتعطل العقل الجمعي عن الإنتاج والابتكار , وصار الفكر في الغالب جامداً في مرحلة تاريخية معينة , يَجْتَرّ حوادث التاريخ، ويبرر الواقع الظالم؛ الذي لا يستطيع تغييره . نحن محتاجون لبلورة منهج جديد يوفق بين الأصالة والمعاصرة , ويجعل الفكر قادراً على التجديد والمواكبة والتحصين من الذوبان , إن عالمنا الإسلامي اليوم متنازع بين الأفكار , ففي ظل الهيمنة الغربية وتأثيرها على الواقع البشري؛ برزت ثلاثة اتجاهات : الاتجاه الأول : يدعو إلى التحرر من الإسلام أو على الأقل حصره في الجانب الشخصي، وتبنّي المنهج الغربي؛ لأنه أثبت جدواه، فعندما تحرر من سلطان الكنيسة حقق التقدم الحالي. والاتجاه الثاني : يرفض التعامل مع الحضارة الغربية وغيرها من الحضارات؛ في أي صورة من صورها، ويدعو إلى الانكفاء على الذات، والابتعاد عن أي عطاء إنساني يأتي من الآخر. والاتجاه الثالث : يدعو إلى منهج وسط؛ يرتكز على العقيدة، ويستصحب اجتهادات السلف التي توافق ظروفنا، ولا يتحرج من الاقتباس من الآخر . ومما لا شك فيه أن القرآن الكريم قد أشار إلى تلك المناهج وبين حقها من باطلها , فقال عن منهج التبعية : ﴿ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ [ابراهيم:26] وعن منهج التقليد دون تمييز قال : ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴿23﴾ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [الزخرف:23- 24] وقال : ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة:141] وأما المنهج التجديدي الملتزم بالأصل مع مواكبة العصر؛ فقال عنه : ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء ﴿24﴾ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ابراهيم:24-25] إن المنهج الثالث هو منهج الوسطية الذي ينبغي أن نتبناه، وهو منهج يقوم على الالتزام بقطعيات الورود والدلالة , وعلى التمييز بين الثابت والمتغير في الأحكام , ويأخذ بالحكمة ولا يضيره من أي وعاء خرجت.إنه منهج يقوم ب "عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له , وليست مجرد استجابة سلبية , بل استجابة فعالة، وتوظيفاً هادفاً للنص القرآني، في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى" وهو نفس النهج الذي سار عليه السلف؛ فاهتدوا إلى الصراط المستقيم، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : " ذلك القرآن فاستنطقوه , ولن ينطق , ولكن أخبركم عنه , ألا إن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي , ودواء دائكم , ونظم ما بينكم " إن هذا المنهج يجمع ولا يفرق، ويوحد ولا يمزق؛ إنه المنهج الذي سار عليه سلفنا فحافظوا على وحدة الكلمة مع تنوع الاجتهادات .
ثالثاً : قراءة التاريخ بمنهج تمييزي : التاريخ يلقى بظلاله على الحاضر لأن السلوك البشري ينطلق من خلفيات ثقافية وعقدية واجتماعية، وهي تمثل ماضي وحاضر الإنسان, لقد وقعت في تاريخنا أحداث كثيرة أثرت على مسيرة الحياة، وما يعنينا في هذا المجال هو الصراع التاريخي بين الفرق الإسلامية : السنة والشيعة، والخوارج والمعتزلة، والظاهرية والصوفية..الخ هذا الصراع له أسبابه ودوافعه ومبرراته التاريخية؛ ولكنه ظل حاضراً في كل خلافاتنا المعاصرة إن " أهم جدليات الاختلافات الفكروية : جدلية الظاهر والباطن والنقلي والعقلي والسنة والشيعة . الجدليتان الأوليتان أدَّتا لنشأة فرق ومدارس كثيرة، وستتكاثر اجتهاداتها مع الحرية . ولكن الثالثة مصدر تفرق اختلط بصراع السلطة والسياسة ، وببدايته أدى لأوائل المعارك التي فرقت كلمة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنهم جميعاً ، وأورثت فتنة ما زالت قابلة للاشتعال " ومما لا ريب فيه أن الصراع السني الشيعي تطورمن خلاف سياسي إلى خلاف فكري؛ أدّى إلى حرب بين الطرفين واضطهاد متبادل ف"الدول التي غلب عليها السنة اضطهدت مواطنيها الشيعة ، والعكس صحيح . وكانت العلاقة بينهما قائمة على التنافر والتخوين والتكفير ، تنافر في الكيانات والدول استقر على توازن بارد حيناً وساخن أحياناً " هذه الأحداث التاريخية ذهب أبطالها وغاب مسرحها، فلا يجوز إسقاطها على الواقع المعاصر , لقد حدثت تطورات كبيرة أدت إلى تقارب بين الطرفين , والذي ينبغي أن ندركه أن الشيعة اليوم ليسوا هم شيعة الأمس، ولا السنة اليوم هم سنة الأمس , فقد حدثت مراجعات كبيرة عند الطرفين , إن هنالك سلوكيات ومواقف مستفزة علينا تجنبها مثل : الحديث عن الروافض , وسب الصحابة , والإساءة إلى الشيخين ( أبي بكر وعمر ) إلى غير ذلك من المواقف التي تفرق ولا تجمع . إن تجاوز صراعات الماضي، وطي صفحته يفتح الطريق إلى الوحدة.
رابعاً : الوعي بالواقع : معلوم أن الفقه يتمثل في معرفة الأحكام والأشخاص والوقائع، والإحاطة بالواقع الذي تطبق فيه , وواقعنا اليوم حدثت فيه تغيرات أثرت على سلوك كثير من المسلمين، في حياتهم وعلاقاتهم بسبب التطورات التي استجدت في عالم اليوم , إن التقارب الذي حدث في دنيا البشر جعل العالم متداخلاً ومتأثراً ببعضه بعضاً , فوسائل الإعلام تنقل إلينا أنماطاً متعددة من أساليب الحياة والسلوكيات والأفكار بصورة لها تأثيرها المباشر على حياتنا , ووسائل المواصلات تنقلنا إلى كل أنحاء العالم وهكذا بفعل التأثير المتبادل تعددت المطالب وتنوعت الضروريات وتبدلت القيم , علينا ونحن نتطلع إلى النهضة أن ندرك الآتي :
1) أن المصالح مقدمة على المبادئ والقيم في عالم اليوم، والشواهد أكثر من أن تحصى، والمسلمون تأثروا بهذا الأمر , ونخطئ إذا توقعنا موقفاً مشابهاً لموقف الأنصار عندما آثروا إخوتهم المهاجرين على أنفسهم فقاسموهم الدار والأموال والزوجات؛ بل إن الذين تعرضوا للنكبات من المسلمين في وقتنا الحاضر لم يجدوا من إخوتهم حق الجوار ناهيك عن حق المسلم! والشواهد كثيرة في الصومال، ودارفور، وفلسطين، ولبنان، والعراق، وسوريا، واليمن. فإن ما يقدم لهم لا يصنف في بند التكافل والتضامن بين أبناء الملة الواحدة الذين يوجب دينهم إنفاق الفضل من الظهر والمال والدار.
2) المجتمع الغربي بكل مساوئه صار جاذباً لكثير من المسلمين , فعدد الذين يطلبون الهجرة إلى الغرب من المسلمين أكثر من طالبي الهجرة إلى بلدان إسلامية , لأن الحرية والكرامة وكفالة حقوق الإنسان التي يجدها المسلم في الغرب لا يجدها في بلده! بالرغم من مظاهر الكراهية التي ظهرت في بعض البلدان الغربية ضد الإسلام مثل : الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع الحجاب، واتهامات البابا …وغيرها؛ مع كل ذلك يظل الغرب في الجوانب الإنسانية متقدماً على العالم الإسلامي .
3) القنوات الفضائية المتخصصة في الغناء والرقص والميوعة في عالمنا الإسلامي؛ أكثر من تلك التي تتناول قضايا فكرية ودينية وإخبارية ! والمراقب يدرك دون أي شك أن رواد الأولى أكثر من رواد الثانية! وجلهم من الشباب الذين يفترض أنهم سيكونون قادة المستقبل .
4) عوامل الإحباط فرخت نهجين سيطرا على الساحة الشعبية الإسلامية؛ نهج التطرف والغلو , ونهج الانحلال واللامبالاة وإتباع الهوى , وروادهما أكثر من رواد النهج الملتزم المستقيم .
5) الخطاب الديني الحالي لا يمتلك أدوات التغيير؛ لأنه منفصل عن الواقع، ولا يخاطب قضاياه بصورة إيجابية، فهو إما متمرد على الأوضاع يخاطبها بلغة الغلاة , وإما مدجن يبرر الواقع ويدعو للصبر عليه حتى يأتي الفرج , ولذلك انصرف كثير من الشباب عنه لارتياد مواقع يشبعون فيها حاجاتهم .
هذا الواقع جعل كثيرا من الناس ينادون بتبني الحضارة الغربية والتحرر من القيد الديني؛ لأن الحضارة الغربية عندما تحررت من سلطان الكنيسة استطاعت أن تحقق كل الانجازات الملموسة والمشاهدة! هؤلاء هم ضحايا الجمود الفكري الذي يتبناه كثير من الدعاة، وضحايا الانبهار بالحضارة الغربية فحدث لهم استلاب دفعهم إلى جلد الذات والتنكر لها. هذه الظاهرة تحتاج إلى تشخيص من خبراء؛ يحددون العلل كما هي دون تلوين، ويصفون العلاج الناجع, معرفة الواقع خطوة أساسية للإصلاح وبالتالي لرسم معالم نهضة الأمة الإسلامية .
خامساً : ترسيخ فقه الأولويات والكليات والمقاصد : إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تؤكد أن هنالك أولويات يجب إتباعها , وإلا سيكون النشاط غير مثمر؛ مثله مثل نهج الذين قال الله عنهم : ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴿2﴾ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴿3﴾ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ﴾ [الغاشية:2-4] فالدعوة الإسلامية من خصائصها التدرج، والمرونة، ورفع الحرج , ولكن مع عجز العلماء عن الأخذ بزمام المبادرة في كثير من البلدان؛ تصدى للنشاط الدعوي من لا فقه لهم! فأوقعوا الأمة في مأزق , وصار الرأي العام يوجهه أصحاب الشعارات لا العلماء , والعامة معذورون؛ لأنّهم لا يرون من علمائهم إلا عجزاً، أو تبريراً للأوضاع؛ وصدق إمام المتقين علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه؛ حينما قال : " الناس ثلاثة : عالم رباني ؛ ومتعلم على سبيل نجاة ؛ وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق , يميلون حيث تميل الريح " في ظل هذه الأوضاع اختلت المفاهيم، وضاع فقه الأولويات , فقُدِّمت الجزئيات على الكليات , والفضائل على الفرائض , وجُعِلت الصغائر كبائر , لابد من تكاتف الجهود لتصحيح هذه الأوضاع , إنّ فقه الأولويات؛ فقه أصيل في الشريعة الإسلامية؛ يؤكده نهج التدرج الذي اتبعه الإسلام في تنزيل الأحكام , عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن معاذاً قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, فإن هم أطاعوا لذلك؛ فأعْلِمْهُم أنّ الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة , فإن هم أطاعوا لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم , فإن هم أطاعوا لذلك , فإياك وكرائم أموالهم , واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " إن مراعاة الأولويات في الدعوة تضيق الشقة بين المسلمين وتخرج الخطاب الإسلامي من المأزق الذي أوقعه فيه الغلاة وصغار العقول، ومن ثم تكون معالم النهضة أوضح؛ لأن المشترك بين المسلمين يتمثل في الكليات، والمقاصد، والمبادئ؛ التي لا خلاف عليها , وتختلف الأولويات حسب الحال والبيئة لكل عصر ومصر وظرف ..
سادساً : إزالة المظالم المفرخة للأزمات : ربط الإسلام بين التوحيد والعدل , وشدد على مبدأ المساواة ، وحث على رفع المظالم، وإعطاء الحقوق لأصحابها , لقد وقعت مظالم كثيرة في عالمنا الإسلامي أدت إلى تفرق الكلمة وذهاب الريح , وهي تشكل عقبة كأداء أمام نهضة الأمة فالواجب إزالتها , لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب . والمظالم المعنية كثيرة أهمها :
1) المظالم السياسية؛ وهي تتمثل في غياب الشورى، والمشاركة، والعدالة؛ وهي مبادئ أدى غيابها إلى سيادة النظم الشمولية القائمة على التغلب والقهر , فولَّدت العنف والعنف المضاد؛ مما أدى إلى تفرق كلمة الأمة وإهدار حقوقها وإسالة دمائها.
2) المظالم الاجتماعية وهي تتمثل في غياب التكافل، والتراحم، والتعاون بين أبناء الأمة، وإهدار حقوق المسلم التي حثّ عليها الإسلام .
3) المظالم الاقتصادية وتظهر في عدم توفير الضرورات الحياتية للإنسان، واحتكار الثروات لفئات قليلة؛ توظفها لشهواتها ونزواتها؛ كماأشار القرآن الكريم : ﴿… وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾[الحج:45].
4) المظالم فكرية؛ وهي تتمثل في إلغاء الآخر، وتكفيره، وعدم الاعتراف بحقه في الاجتهاد , واستعمال العنف ضده إذا جاء برأي مخالف .
إن وجود هذه المظالم وغيرها يولد الحقد والحسد، ويؤدي إلى التقاطع والتدابر، ومن ثم يتطور الأمر إلى التكفير وإهدار الدماء , وبالتالي تجد الأمة نفسها في نزاع وخصام.
سابعاً : إنشاء آلية أممية للاجتهاد والتنسيق وفض النزاعات : المجهودات التي بذلت في المجال الفكري النظري المتعلق بالتوفيق بين الأصالة والمعاصرة؛ كبيرة , وآن الأوان لخطوات عملية تجسد التنظير إلي واقع ملموس والآليات التي أقترحها تتمثل في الآتي:
1) آلية للاجتهاد : تضم أهل الاختصاص من كل الفرق والجماعات الإسلامية؛ لتتولى البحث في التراث الإسلامي، والفكر الإنساني، والعلوم، والمعارف الحديثة، يناط بها أمر الاجتهاد المؤسسي؛ الذي يخرجنا من المفاهيم الفردية والنزعات الذاتية.
2) آلية لفض النزاعات بين الدول والجماعات المسلمة : تتكون من حكماء وخبراء وقادة سياسيين ودينيين، وعلماء؛ تتولى التصدي لأي نزاع ينشأ بين الدول والجماعات المسلمة .
3) آلية للتنسيق والمتابعة : يوكل إليها تجميع الأفكار التي تشكل قاسماً مشتركاً بين الجماعات والتيارات المسلمة, وتقوم بالتنسيق بينها وتنظيم أنشطة مشتركة؛ تأهيلية وتدريبية، ودعوية؛ تحقق التواصل عن طريق الاحتكاك والممارسة.
خاتمة:
نجاح الفكر الإسلامي رهين بالنظرة الشاملة لمبادئ الإسلام وللواقع؛ ولكي يحقق ذلك فهو مطالب أن يستصحب الأحكام الشرعية، والمبادئ العامة، والمقاصد الكلية، والقواعد الفقهية، والسنن التاريخية، ويدرس الواقع دراسة محيطة بكل جوانبه ليتمكن من بلورة نظريات مقنعة مدعومة بالحجة وقابلة للتطبيق.
هذا والله من وراء القصد والهادي الي سواء السبيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.