د. محمد نور الدين حقق رجب طيب أردوغان مراده في عرقلة تشكيل حكومة جديدة ائتلافية بين «حزب العدالة والتنمية» وأحد أحزاب المعارضة. اتبع أردوغان سياسة تقطيع الوقت وهدره، في شكليات غير دستورية. فخلافاً لما هو معتاد، انتظر أردوغان شهراً كاملاً لتكليف احمد داود اوغلو تشكيل حكومة. أخذ أردوغان وقته كاملاً لكي يرسم استراتيجية مواجهة نتائج الانتخابات النيابية التي أفقدت «العدالة والتنمية» الغالبية المطلقة، ومن ثم استكمل داود اوغلو خطة أردوغان بأن أمضى أكثر من شهر بكامله لكي يخرج على الجمهور قائلاً إنه أخفق في تشكيل حكومة جديدة مع «حزب الشعب الجمهوري» أو «حزب الحركة القومية». وقد كشف رئيس «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو أن داود اوغلو، خلال المفاوضات معه لتشكيل الحكومة وعلى امتداد 45 ساعة لقاءات بينهما، لم يعرض عليه أبداً حكومة طبيعية للحكم بل حكومة انتخابات. وهنا يؤخذ على «الشعب الجمهوري» أنه لم يكن عليه أن يسقط في هذا الفخ ليدرك فقط في نهاية المفاوضات أن داود أوغلو يعمل على تضييع الوقت. المشكلة هنا أن داود اوغلو لم يُعد مهمة تكليفه بتشكيل حكومة إلى رئيس الجمهورية إلا قبل خمسة أيام فقط من نهاية مهلة ال45 يوماً التي يعطيها الدستور لتشكيل حكومة جديدة، والتي تنتهي عملياً يوم أمس السبت، بحيث لا يُتاح وقت لأي شخص آخر يمكن أن يكلف بتشكيل حكومة بأن يشكلها خلال خمسة أيام، ناهيك عن تعقيدات الوضع السياسي. مع ذلك فإن المشكلة تقع في مكان آخر. لقد تعوّد «حزب العدالة والتنمية» أن يحكم على امتداد 13 عاماً بمفرده، وأن يتخذ القرارات المصيرية في الداخل والخارج من دون العودة، لا إلى المعارضة لاستشارتها ولا إلى الرأي العام. وكانت ثقته الزائدة بالنفس تتوقع استمرار التفويض الشعبي له في الانتخابات الماضية، وهو الذي لم يحصل. والقاعدة الصحيحة في أي مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية أن يتنازل الطرفان عن بعض ثوابتهما. مجرد أن يقبل أحد أحزاب المعارضة الدخول في ائتلاف مع «حزب العدالة والتنمية» المثقل بكم هائل من المشكلات، هو تنازل بحد ذاته ومجازفة كبيرة. مع ذلك فإن «العدالة والتنمية» رفض كل ما يمكن تسميته «شروطاً» من جانب المعارضة. وفي رأسها التزام أردوغان بما يحدّده الدستور من صلاحيات، وإحالة ملف الفساد على القضاء وتغيير السياسات الخارجية، ولا سيما تجاه سوريا ومصر، والحفاظ على الطابع العلماني في التعليم. وقد أضاف «حزب الحركة القومية» شرط الوقف التام للمفاوضات مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان. غير أن داود اوغلو رفض كل هذه الشروط او المطالب. فإذا كان يرفض ذلك، او لا يحاول أن يفاوض عليها، مثلاً بأن يغير سياسته في سوريا مقابل طي ملف الفساد، او أن يقف أردوغان عند حده الدستوري مقابل استمرار سياساته الخارجية على سبيل المثال، فعلى ماذا كان داود اوغلو يفاوض؟ ولماذا لم يتفاوض جدياً مثلاً مع حزب آخر في البرلمان، هو «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي وتصرّف على أساس انه غير موجود في البرلمان؟ ليس صعباً التفتيش عن سبب هذه المماطلة وتضييع الوقت، وصولاً إلى حشر أي شخص آخر يكلف بتشكيل الحكومة في مأزق ضيق الوقت. سبعون يوماً على انتهاء الانتخابات قبل أن يقول داود اوغلو إن المخرج الوحيد هو في انتخابات مبكرة، في حين كان يمكن للأمر أن يختصر إلى النصف أو أقلّ من نصف الوقت. الذهاب إلى انتخابات مبكرة لم يكن خياراً لأردوغان بل كان قراراً منذ لحظة ظهور نتائج الانتخابات. ذلك أن «عادة» التفرد في القرار، كما أسلفنا، باتت في جينات «حزب العدالة والتنمية». ولذلك فإن الالتفاف على نتائج الانتخابات، وعدم الاستعداد للتنازل السياسي من أجل تشكيل حكومة جديدة، كان الشغل الشاغل للحزب ومن ورائه اردوغان. ولعلها مسؤولية أحمد داود اوغلو شخصياً الذي لم يستفد من الظرف المناسب ليثبت شخصية مستقلة عن أردوغان ويشكل حكومة جديدة مع المعارضة، واختار أن يكون مجرد رسول بين المعارضة وأردوغان. لم تقف محاولات أردوغان عند السعي لإعادة الانتخابات النيابية، والعمل للتأثير في نتائجها من خلال مجموعة من الخطوات المغامرة والخطيرة جداً، بل اندفع قدماً ولم ينتظر إجراء الانتخابات، وأعلن أن النظام السياسي في تركيا قد تغيّر فعلاً وعلى الآخرين أن يتعوّدوا على ذلك شاء من شاء وأبى من أبى. وقال أردوغان، مطلع الأسبوع الحالي، إن مجرد انتخابه من الشعب فرض تغييراً في مهمته وصلاحياته ويجب أقلمة المؤسسات مع الواقع الجديد. نحن هنا أمام عملية اغتصاب علنية، من دون أي زاجر، للدستور وما ينص عليه من صلاحيات لرئيس الجمهورية. ولقد وصف كيليتشدار اوغلو ذلك بعملية انقلاب سياسي مشبهاً أردوغان بكنعان إيفرين، قائد انقلاب 12 أيلول العام 1980، الذي مارس أولاً صلاحيات انقلابية ما لبث أن ترجمها في دستور العام 1982 الذي لا يزال معمولاً به حتى الآن. أما زعيم «حزب الحركة القومية» دولت باهتشلي فقد شبّه أردوغان بما كان يقوم به هتلر وموسوليني. أما رئيس «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي صلاح الدين ديميرطاش فقد تحدّى أردوغان إجراء استفتاء على النظام الرئاسي للانتهاء من هذه المشكلة، فإما أن يقر نهائياً أو يخرج من التداول نهائياً. خطة أردوغان الانقلابية تعبير عن يأسه من إمكانية تعديل الدستور في البرلمان بسبب يأسه من إمكانية أن يعود «حزب العدالة والتنمية» بأصوات كافية إلى البرلمان للتعديل. كل رهان أردوغان اليوم هو في أن يعود «العدالة والتنمية» إلى السلطة بالنصف زائداً واحداً ليمارس بحكم القوة والأمر الواقع مهامه كرئيس لجمهورية بكامل صلاحيات رئيس الحكومة ورئيس الحزب!؟ ولذا هو يحضّر الرأي العام منذ الآن لهذا الانقلاب الذي سيصبح واقعاً في حال عودة «حزب العدالة والتنمية» منفرداً إلى السلطة. مع ذلك فإن المشكلة الأعمق بالنسبة ل«حزب العدالة والتنمية»، وأردوغان تحديداً، أنه لا يدرك أنه لم يعد بإمكانه أن يحكم تركيا وفقاً للسياسات السابقة، وانه حتى لو عاد الحزب إلى السلطة منفرداً فلن يغير هذا من واقع أن البلاد في ظل سياساته أشبه بشاحنة نقل خارجي (وأردوغان يحب هذا النوع من الآليات) تسير بسرعة 180 كيلومتراً في الساعة وقدمه تضغط على دواسة البنزين، فيما تفتقد إلى وجود كوابح في الأساس لتخفيف سرعتها. يقود أردوغان تركيا إلى الانفجار الحتميّ الذي لم يعد محتملاً بل قائماً. بعد ثلاث سنوات من الهدوء يُنهي أردوغان عملية المفاوضات مع «حزب العمال الكردستاني» ويفتح الحرب عليه فجأة، وبكل ما أوتي من قوة. أدخل أردوغان البلاد في جحيم أمني وعسكري يسقط خلاله يومياً القتلى من الجنود الأتراك والمقاتلين والأكراد والمدنيين في كل مكان، من أقصى شرق البلاد إلى اسطنبول، ما دفع الأكراد إلى إعلان الإدارة الذاتية في بعض مناطق جنوب شرق تركيا. تأتي الحرب على الأكراد بعد ظهور نتائج الانتخابات النيابية، وإلا فلماذا لم يفتح عليهم الحرب قبل الانتخابات. أردوغان يحرق البلاد من أجل بضعة أصوات قد تعيده، وقد لا تعيده منفرداً إلى السلطة في انتخابات مبكرة. ومن أجل الحسابات الشخصية الضيّقة، والتي اختصر فيها أيضاً مشروع «حزب العدالة والتنمية»، لجأ أردوغان إلى تقديم قاعدة إنجيرليك وقواعد تركية أخرى إلى الولاياتالمتحدة بعدما كان يعارض ذلك منذ سنة وأكثر، فقط من أجل أن يكسب صمت الولاياتالمتحدة تجاه حربه ضد الأكراد. ويعلن أردوغان أنه بدأ الحرب ضد «داعش» فقط من أجل أن يوهم الرأي العام الغربي أنه تغيّر، وبالتالي على الغرب أن يخفف حملته عليه. كل ذلك ارتباطاً بتجميع النقاط للاستفادة منها للعودة إلى السلطة منفرداً. لكن خطة أردوغان كانت منذ اللحظة الأولى مكشوفة. الغرب لم يقتنع بما يُسمّى المنطقة العازلة أو الآمنة أو النظيفة. والغرب لم يدفع شيئاً مقابل انجيرليك، وانتقد ضرب الأكراد بهذا العنف، وقال إن طائرات انجيرليك ستكتفي بضرب «داعش» الذي هو أولوية وليس ضرب الأكراد في سوريا وهو أولوية أردوغان. ويدرك الغرب أن أردوغان لم يكن جدياً في إعلان الحرب على «داعش» الذي لم يتعرض أبداً لمصالح الدولة التركية ولا ل«العدالة والتنمية». أما ظهور شخص في فيديو يهدد الأتراك وأردوغان واسطنبول فليس سوى مسرحية من أجل إيهام العالم أنه مهدّد من «داعش» فعلاً، لأنه يحارب التنظيم. وكانت الفضيحة الأكبر هي خطوة انسحاب أميركا وألمانيا، وقبلهما هولندا، من منظومة صواريخ «باتريوت» (وليس رادارات الدرع الصاروخي في ملاطية). إذ نظر إلى خطوة الانسحاب في ألمانيا على أنها احتجاج على ضرب الأكراد، وعلى كاريكاتورية محاربة تركيا ل«داعش»، وفي أميركا على أنها بسبب انتفاء التهديد المحتمَل من سوريا. هذه الأسباب تلتقي عملياً عند هدف رفع الغطاء السياسي، وحتى الأمني، ليس عن تركيا بل عن سلطة «حزب العدالة والتنمية» بزعامة رجب طيب أردوغان. وهو عامل آخر يُضاف إلى ما جلبته سياسات أردوغان من مخاطر على تركيا وعزلها. إلى ذلك فإن المؤشرات الاقتصادية تسير بسرعة إلى تراجعات كبيرة، ويقترب سعر صرف الليرة إلى تراجع تاريخي أمام الدولار الذي يكاد يلامس الثلاث ليرات، بعدما كان متوقعاً أن يحدث ذلك حتى نهاية العام. كما تراجع حجم التجارة وأعداد السائحين وبالتالي المدخول السياحي بصورة كبيرة من جراء التوترات الأمنية والسياسية. لم يُحسن أردوغان، ومعه داود اوغلو، أن يقرأ الحقائق ويستشرف المستقبل. لم يقرأ أن انتفاضة جيزي- تقسيم في العام 2013 كانت بداية العد العكسي له، وأن فضيحة الفساد وصراعه مع فتح الله غولين كان خطوة أخرى مهمة على هذا الطريق، وأن تصفية منافسيه داخل الحزب، وفي مقدّمهم عبد الله غول، كان خطأ فادحاً، وأن إصراره على تغيير النظام السياسي بالقوة لن يمر مرور الكرام، وأن إدخال تركيا كلها في أتون حرب مع الأكراد ورقصه العلني مع «داعش»، كل هذا ليس سوى محطات في الطريق إلى الهاوية. ليس من موضوع في خطابات واجتماعات أردوغان سوى كيفية أن يتحوّل إلى رئيس في نظام رئاسي، وكيفية كسب الانتخابات المبكرة المقبلة. كل هذا الدم والتوتر والانهيار الاقتصادي يوظّف من اجل هدف واحد، هو أن يستمرّ في السلطة ويستأثر بها ويحتكرها بمفرده. أما الاستقرار وتحقيق التوازن والعدالة الاجتماعية وتعزيز الحريات وتفهم مطالب الأكراد، فهذا لا وجود له في قاموس أردوغان وحزبه. في ظل هذه الذهنية من الطبيعي أن تنفجر تركيا، وتعلو ألسنة اللهب وترتفع صيحات الموت، وتدخل تركيا في نفق مظلم وطويل لا يبدو في الأفق من السهولة الخروج منه من دون خسائر كبيرة جداً. (منقول).