«تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    يرافقه وزير الصحة.. إبراهيم جابر يشهد احتفالات جامعة العلوم الصحية بعودة الدراسة واستقبال الطلاب الجدد    المريخ يكسب تجربة البوليس بثلاثية و يتعاقد مع الملغاشي نيكولاس    البرهان يصدر قراراً بتعيين مساعد أول للنائب العام لجمهورية السودان    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    راشفورد يهدي الفوز لبرشلونة    ((سانت لوبوبو وذكريات التمهيدي يامريخاب))    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    قبائل وأحزاب سياسية خسرت بإتباع مشروع آل دقلو    ما حقيقة وصول الميليشيا محيط القيادة العامة بالفاشر؟..مصدر عسكري يوضّح    "المصباح" يكشف عن تطوّر مثير بشأن قيادات الميليشيا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ايها المراؤون توقفوا عن الدفاع عن الله بقتل الانسان, ودافعوا عن الانسان كي يتمكن من التعرف الى الله
نشر في حريات يوم 13 - 09 - 2015

(ايها المراؤون توقفوا عن الدفاع عن الله بقتل الانسان, ودافعوا عن الانسان كي يتمكن من التعرف الى الله).
جبران خليل جبران
مقتطفات من (النبي) لجبران ترجمة من سركون بولص
أمضى المصطفى، الذي كان هدياً لحاضره، هو المختار والحبيب، اثني عشر عاماً في مدينة أورفَليس بانتظار سفينته التي كانت ستعود لتأخذه الى الجزيرة التي وُلِد فيها.
وفي العام الثاني عشر، في اليوم السابع من أيلول، شهر الحصاد، ارتقى التلّة الواقعة خارج أسوار المدينة وتطلّع صوب البحر؛ فإذا به يلمح سفينته تتهادى آتية مع الضباب.
آنذاك، انفتحت أبواب قلبه على وسعها، وحلّقت غبطته بعيداً على وجه البحر. فأغمض عينيه، وفي قرارة روحه، صلّى.
لكنه، بينما كان يهبط من التلّة، غلبته نوبة من الحزن، ففكّر في قلبه:
كيف يمكنني أن أُغادر بسلام دون أن أحزن؟ كلا، ليس بدون جرح ينغُر في الروح سأترك هذه المدينة.
فأيام الألم التي قضيتُها داخل أسوارها كانت طويلة، وطويلة كانت ليالي وحدتي؛ ومن يمكنه أن يترك آلامه ووحدته وراءَه دون أن يحسّ بالندم؟
كثيرة، أكثر من أن تُحصى، أشلاء روحي التي بعثرتها في هذه الشوارع، وما أكثر أطفال شوقي الذين يسيرون عراة بين هذه التلال، وأنا أعجز من أن أنسحب عنهم دون أن أحمل عبء الفجيعة.
ليس رداء ما أطرحه اليوم عنّي، بل جلداً أسلخه بيدي هاتين.
وهذا الذي أتركه خلفي ما هو بفكرة، بل قلباً صار عذباً من فرط الجوع والظمأ.
لكنني لا أقدر أن أُطيل مكوثي.
البحر الذي يدعو كل الأشياء إليه، يدعوني، وعليّ بالإبحار.
فلأن أبقى، رغم أن الساعات تتلظى في الليالي، لهو أن أتجمّد برداً وأصير بلّوراً وأُقيّد في قالب.
كم أحب لو أحمل معي كل ما هنا، لكن كيف يمكنني ذلك؟
الصوت لا يقدر أن يحمل معه اللسان، والشفاه التي منحته الأجنحة. عليه وحده أن يتقصّى الأثير. ووحيداً، من دون عشّه، سيطير النسر تلقاءَ الشمس.
وكان الآن قد وصل الى أسفل التلّة، واستدار ثانية نحو البحر، فرأى سفينته تدنو من الميناء وعلى متنها البحّارة، وهم رجال من أبناء جلدته (…).
وها هي سفينتك قد جاءت، وينبغي لك الذهاب.
عميق هو شوقك الى أرض ذكرياتك، ومرتع رغابك الأكثر جسامة؛ وحاشا أن يقيّدك حبّنا بسلاسله، ولا أن تقف حاجاتنا في سبيلك.
لكننا نطلب منك، قبل أن تغادرنا، هذا:
أن تخاطبنا، وأن تعطينا شيئاً من حقيقتك.
لكي نعطيها نحن بدورنا لأولادنا، وهم، بدورهم، لأولادهم، وهكذا لن تمّحي.
طالما سهرت، وأنت وحيد، حارساً أيامنا، وأصغيت في آناء يقظتك الى البكاء والضحك الذي يملأ نومنا.
لذلك فلتكشف لنا الآن عن أنفسنا، وخبّرنا بكل ما تجلّى لك عن ذاك الذي يوجد بين الولادة والموت.
فأجاب وقال:
يا أهل أورفَليس، عمّ يمكنني أن أتكلّم سوى عن ذاك الذي تختلج به نفوسكم في هذه اللحظة بالذات؟
الحب
آنذاك، قالت المطرة:
ألا فلتكلّمنا عن الحب.
فرفع رأسه وتطلّع الى الجمع، فخيّمت عليهم السكينة.
وبصوت عظيم قال:
عندما يومئ إليكم الحبّ اتبعوه، حتى لو كانت طرقاته وعرة وشائكة.
وإذا ما طواكم بأجنحته فاخضعوا له، رغم أن السيف الخبيء بين براثنه قد يجرحُكم.
وعندما يكلّمكم، صدّقوه، رغم أن صوته قد يحطّم أحلامكم كما تفتك ريح الشمال بالحديقة (…).
عندما تحب، لا تقل: "الله في قلبي"، بل قل بالأحرى: "إنني في قلب الله".
ولا تفكر أنك تستطيع أن توجه الحب في مساره، فالحب، إن وجدك جديراً به، هو الذي يوجّه مسارك.
ليست للحب رغبة أخرى غير أن يحقّق ذاته.
الأطفال
وقالت امرأة تضم وليداً الى صدرها: حدّثنا عن الأطفال.
فقال:
أطفالكم ليسوا أطفالاً لكم.
إنهم أبناء الحياة وبناتها في اشتياقها الى ذاتها.
ومن خلالكم يأتون، لكنهم ليسوا منكم، ورغم أنهم معكم فهم لا ينتمون إليكم.
يمكن لكم أن تمنحوهم محبّتكم لكن ليس أفكاركم، فلهم أفكارهم هم أيضاً.
يمكن لكم أن تقدموا مأوى لأجسادهم، لا لأرواحهم، لأن أرواحهم تسكن في بيت الغد، ذلك الذي لا تستطيعون زيارته، حتى ولو في الحلم.
يمكنكم أن تجاهدوا لتصيروا مثلهم، لكن لا تحاولوا أن تجعلوهم مثلكم.
لأن الحياة لا تمشي الى الوراء، ولا تتلكأ بصحبة الأمس.
أنتم الأقواس التي منها يُطلَقُ أطفالكم على شكل سهام حية.
حامل القوس يرى الهدف على درب اللانهائي، ويُحنيكم بجبروته لتنطلق سهامه بأشد سرعة الى أبعد ما يكون.
دعوا انحناءكم في يد القوّاس يتمّ بغبطة؛ فهو وإن كان يعشق السهم في طيرانه، يحب أيضاً أن تكون القوس ثابتة في يده (…).
الأكل والشرب
ثم قال شيخ، هو صاحب خان: ألا حدثنا عن الأكل والشرب.
فقال:
ليتكم تستطيعون أن تحيوا على عبق الأرض، وأن تقتاتوا، مثل نبتة هوائية على النور.
لكن طالما كتب عليكم أن تقتلوا لتأكلوا، وأن تسلبوا الرضيع من حليب أمه لترووا عطشكم، دعوا هذا إذن يكن فعل عبادة، ولتكن مائدتك مذبحاً يضحى عليه بالطاهر والبريء من الغابة والبرية، من أجل ذاك الذي هو أكثر طهارة، وأبرأ أيضاً، في الانسان.
عندما تقتل حيواناً، قل له في قلبك:
"بنفس السلطة التي تذبحك،
أذبح أنا أيضاً؛ وسوف أؤكل أنا بدوري.
فالشريعة التي أسلمتك ليدي، ستسلمني ليد أكثر بطشاً.
ما دمك ودمي غير النسغ الذي يغذي شجرة السماء".
وعندما تسحق تفاحة بأسنانك،
قل لها في قلبك:"بذورك ستحيا في جسدي، وبراعم غدك ستفتح في قلبي، وأريجك سيصير أنفاسي، وسوف نبتهج في كل المواسم".
وفي الخريف، عندما تجمع الأعناب من كرومك لتأخذها الى المعصرة، قل في قلبك: "أنا أيضاً كرمة، سوف تجمع ثماري للمعصرة،
ومثل خمرة جديدة، سأحفظ في دنان أبدية".
وفي الشتاء، عندما تستل الخمرة من دنها، دع أغنية تنطلق في قلبك من أجل كل كأس؛
ولتكن في الأغنية ثمة ذكرى من أيام الخريف، ومن الكرمة، ومن المعصرة.
العمل
لكنكم إذا كنتم في وسط آلامكم، تسمون الولادة فجيعة، وتحمل أعباء الجسد لعنة كتبت على جباهكم، فأنا أرد عليكم بأن عرق جباهكم وحده هو الذي سيغسل ما كتب عليها.
(…)
وما معنى أن تعمل بالمحبة؟
هو أن تنسج الرداء بخيوط استلت من قلبك، كما لو أن حبيبك بذاته هو من سيرتدي ذلك الرداء.
هو أن تشيد بيتاً بمنتهى العطف، كما لو أن حبيبك هو من سيسكن ذلك البيت.
هو أن تزرع البذور برقة وتحصد محاصيلها بغبطة، كما لو أن حبيبك هو من سيأكل الثمار.
هو أن تنفخ في كل شيء تصنعه نفساً من روحك أنت.
وأن تعرف أن كل الأوات المباركين يقفون من حولك، ويرقبونك.
لأنك إن خبزت بغير مبالاة، فإنك تخبز خبزاً مراً لا يشبع سوى نصف جوع الانسان.
وإن عصرت الأعناب متذمراً، فإن تذمرك سيتقطر سماً في الخمر.
وإن غنيت حتى ولو بأصوات الملائكة، ولم تعشق ذلك الغناء، فإنك تصم آذان البشر عن سماع أصوات النهار وأصوات الليل.
الفرح والحزن
ثم قالت امرأة: حدثنا عن الفرح والحزن.
فأجاب:
فرحكم هو حزنكم مجرداً من القناع.
ونفس البئر التي كانت ترتفع منها ضحكاتكم، كانت مليئة بدموعكم في أكثر الأحيان. (…)
عندما تحس بالفرح، أنظر عميقاً في قلبك، وسوف تجد أن ما أعطاك حزناً في السابق، وحده الذي يعطيك الفرح الآن.
عندما تشعر بالحزن، تطلع ثانية في قلبك، وسوف ترى أنك في الحقيقة تبكي من أجل ذاك الذي كان بهجة لك.
البعض منكم يقول: "الفرح أعظم من الحزن". ويقول آخرون: "كلا، بلالحزن هو الأعظم".
لكنني أنا أقول لكم، لا يمكن الفصل بينهما.
معاً يأتيان، وحينما يجالسك واحد منهما بمفرده على الطاولة، تذكر،
أن الثاني ينام في سريرك.
البيوت
آنذاك، تقدم منه بنّاء وقال:
حدثنا عن البيوت.
فأجاب قائلاً:
ابنوا من تخاييلكم تعريشة في البراري قبل أن تشيدوا بيتاً ضمن أسوار المدينة.
فكما أن لكم عودات الى بيوتكم عند الغسق، كذلك الجواب فيكم، هو النائي والمستوحد أبداً.
لأن بيتكم هو جسدكم الأكثر رحابة.
إنه ينمو في الشمس وينام في سكينة الليل؛ وهو ليس خالياً من الأحلام. ألا يحلم بيتك؟ وإذ يحلم، يترك المدينة نحو خميلة ما أو رأس تلة؟
ليتني أستطيع أن أجمع بيوتكم في يدي، ومثل باذر أنثرها في الغابة والمرعى. (…)
ويا أهل أورفليس، خبروني، ماذا لكم في بيوتكم هذه؟ وما الذي تحرسونه خلف تلك الأبواب الموصدة؟
هل لديكم السلام، ذلك الحافز الهادئ الذي يكشف عن قوتكم؟
هل لديكم الذكريات، تلك الأقواس المتألقة التي تمد بين ذرى العقل جسورها؟
هل لديكم الجمال، هو الذي يدل القلب، من بين تلك الأشياء المصنوعة من خشب وحجارة، إلى الجبل المقدس؟
خبروني، هل لكم كل هذا في بيوتكم؟
أم ليس لكم سوى الراحة، واشتهاء الراحة، ذلك الشيء الذي يدخل البيت خلسة على هيئة ضيف، ثم يصير هو المضيف، ومن ثم يصبح السيد؟ (…)
إلا أن اشتهاء الرفاهية يقتل في الروح وجدها، ثم يمشي متضاحكاً في الجنازة.
لكنكم أنتم، يا أبناء الفضاء، أيها القلقون في راحتهم انكم لن تقعوا في الفخ أو تروضوا.
بيتكم لن يكون مرساة بل صارية.
انه لن يكون غشاء براقاً يغطي جرحاً، بل جفناً يحرس العين.
لن يكون عليكم أن تطووا أجنحتكم لكي يتسنى لكم أن تمروا من الأبواب، ولا أن تُحنوا رؤوسكم كي لا ترتطم بالسقف، ولا أن تخشوا من أن تتنفسوا لئلا تتصدع الجدران وتنهار.
إنكم لن تسكنوا قبوراً بناها الموتى من أجل الأحياء.
ورغم أن بيتك قد يكون في غاية الروعة والفخامة، فإنه لن يكون واسعاً بما يكفي ليحفظ سرك أو يكون لشوقك مأوى.
ذلك أن ما هو حر بلا قيد فيك، يُقيم في قصر السماء، الذي بابه ضباب الصبح، ونوافذه أغنيات الليل وصموتاته.
الحائك
وقال له الحائك: كلمنا عن الثياب.
فأجاب:
ثيابكم تخفي الكثير من جمالكم، ومع ذلك فهي لا تستر ما ينقصه الجمال.
ورغم أنكم تتوخون من الملابس حرية أن تتستروا، فهي غالباً ما تصير سرجاً وقيداً.
حبذا لو كان لكم أن تستقبلوا الشمس والريح بالمزيد من جلدكم والأقل من كسائكم، لأن نفس الحياة هو في ضياء الشمس ويد الحياة في الريح.
بعضكم يقول:
"ريح الشمال هي التي نسجت ما نرتديه من ثياب".
وأنا أقول، أي والله، انها ريح الشمال
لكن العار كان نولها، وخيطها انحلال الألياف وعندما أنجزت مهمتها، ذهبت لتضحك في الغابة.
لا تنسوا أن الاتضاع درع لاتقاء عين الرجسين.
وعندما لا يعود للرجس وجود، فماذا كان الاتضاع يا ترى ان لم يكن غلاً وتوسيخاً للفكر؟
ولا ينبغي لكم أن تنسوا ان الارض تغتبط لملمس اقدامكم الحافية، والرياح تشتاق الى مداعبة شعركم.
الحرية
وقال ثمة خطيب: كلمنا عن الحرية.
فأجاب:
رأيتكم تسجدون على باب المدينة، وحول نار قراكم، لتعبدوا حريتكم انتم، مثلما يتذلل العبيد امام الطاغية ويبجلونه حتى وهو يذبحهم.
أي نعم، في أيكة المعبد وفي ظل القلعة، رأيت الأكثر حرية بينكم يحملون حريتهم على شكل نير وقيد.
وكان قلبي في داخلي يدمى. فأنتم لن تكونوا احراراً الا عندما تصير حتى مجرد الرغبة في البحث عن الحرية بالنسبة اليكم سرجاً، وعندما تكفون عن الكلام على الحرية كما لو كانت هدفاً، ووعداً يتحقق(…).
الا ان الاشياء كلها تتحرك في كيانك متعانقة نصف عناق دوماً. المرغوب والمرهوب منها، المقيت والمعزز، المطارد وذلك الذي تريد ان تهرب منه.
هذه الأشياء تتحرك فيك على شكل اضواء وظلال تعلق بك ازواجاً.
وعندما يتلاشى الظل ويمّحي، فالنور الذي يتلكأ يغدو ظلاً لنور آخر.
وهكذا، فحريتكم عندما تفقد أغلالها، تصير هي ذاتها غلاً لحرية أعظم.
عندما تجلس بين التلال، في الظل الوارف لأشجار الحور البيضاء، مستمعاً بسلام الحقول والمروج النائية وسكينتها، دع قلبك آنذاك يقل: "في العقل يستريح الله".
وعندما تأتي العاصفة، وتهز الريح العاتية الغابة، ويُعلن الرعد والبرق عن جلال السماء دع قلبك آنذاك يقل برهبة: "في العاطفة يتحرك الله".
وما دمت نفساً ف فلك الله، وورقة في غابة الله، عليك اذن انت ايضاً ان تستريح في العقل، وأن تتحرك في العاطفة.
معرفة الذات
وقال رجل: حدثنا عن معرفة الذات.
فأجابه قائلاً:
قلوبكم في ظلماتها تعرف أسرار الأيام والليالي، لكن
آذانكم عطشى لسماع صوت المعرفة في قلوبكم.
لتعرفوا بالكلمات ما كنتم تعرفونه دوماً بالفكر
ولتلمسوا بأصابعكم جسد أحلامكم العاري (…)
وحسناً تفعلون
لا تقل: "لقد وجدت الحقيقة"، بل بالأحرى: "وجدت حقيقة ما".
الكلام
ثم قال علاّمة: حدثنا عن الكلام.
فأجابه قائلاً:
تتكلمون عندما لا تجدون في أفكاركم راحة بعد؛
وإذ لا تعودون قادرين على البقاء في عزلة قلوبكم، فإنكم تعيشون في شفاهكم، وما الإصاتةٌ الا التهاء وتسلية.
وفي جل كلامكم، يقتل التفكير قتلاً أو يكاد.
فالفكر طائر مجاله الفضاء، يمكنه ان يفرد جناحيه في قفص من الكلمات، لكنه لن يطير.
هناك، بينكم، أولئك الذين يبحثون عن ممتهني الكلام خوفاً من الوحدة.
إن صمت الوحدة يكشف لأعينهم أنفسهم بكل عريها، فيطلبون الهروب.
الزمان
وقال فلكي:
أيها السيد، ماذا عن الزمان؟
فأجاب:
يحلو لكم أن تقيسوا الزمان، هو الذي يتخطى القياسات، ولا يمكن قياسه.
وأن تكيفوا سلوككم وحتى ان تحددوا مسار أرواحكم بالتوافق مع الساعات والفصول.
يحلو لكم ان تجعلوا من الزمان نهراً تجلسون على ضفتيه، وترقبونه يجري.
مع ان اللازماني فيكم يعي ان الحياة لا يحدها زمان، ويعرف ان الأمس ليس سوى ذكرى اليوم، وأن الغد حلم يومنا هذا (…).
لكن اذا كان لا بد لكم في فكركم، ان تقيسوا الزمان بالفصول، اذن فليطوق كل فصل جميع الفصول الأخرى.
وليعانق اليوم ماضيه بالذكرى، ومستقبله بالشوق.
اللذة
ثم تقدم ناسك، يزور المدينة مرة كل عام، وقال: حدثنا عن اللذة.
فأجابه، قائلاً:
اللذة نشيد حرية، لكنها ليست الحرية.
أنها ازدهار رغباتكم، لكنها ليست ثمارها
هي عمق يتنادى نحو علو، لكنه ما هو بالعميق ولا بالعالي.
إنه ذلك المحلق خارجاً من قفصه، لكنه ليس الفضاء الذي طواه بتحليقه.
أجل وأيم الحق، ما اللذة سوى أغنية للحرية.
ومرادي ان تغنوها بقلب ممتلئ؛
مع أنني لا اريدكم ان تفقدوا قلوبكم في غنائها. (…)
والبعض من شيوخكم يتذكرون ملذاتهم نادمين كأنها موبقات ارتكبوها وهم سكارى.
لكن الندم يغيم العقل بسديمه فحسب، ولا يؤدبه.
الأحرى بهم ان يتذكروا ملذاتهم بامتنان، كما يتذكرون حصادهم ذات صيف.
أما اذا وجدوا عزاءهم في الندم، فليكن لهم ذلك العزاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.