رحل شاعر العراق عبد الرزاق عبد الواحد بعد رحلة وجع مع القصيدة لعقود عدة ارتفعت فيها قامته الشعرية ليكون متنبي العصر، وتوفي صباح الأحد في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس عن عمر يناهز الخامسة والثمانين. وكان الشاعر الذي صار موضع احتفاء إعلامي باهر منذ خروجه من العراق بعد احتلال بغداد عام 2003 وتنقل مابين دمشقوعمانوباريس، قد كتب أجمل قصائده العراق مغتربا عنه، وتساءل في أحدى قصائده التي كتبها بعد الاحتلال: مَتى مِن طول نَزْفِكَ تَستَريحُ؟/ سَلامًا أيُّها الوَطنُ الجَريحُ/ تَشابَكَت النِّصالُ عليكَ تَهوي/ وأنتَ بكلِّ مُنعَطفٍ تَصيحُ. وذكرت مصادر صحفية ان الشاعر الراحل عبر عن أمله أكثر من مرة ان يوارى بعد وفاته في العاصمة الأردنيةعمان، لكن رحيله في باريس حيث تعيش أبنته الكبرى رغد قد وضع أسرته أمام خيار دفنه فيها. وعبر رجال أعمال وشخصية ثقافية عراقية مقيمة في العاصمة الأردنية عن استعدادها لإقامة جنازة مهيبة لشاعر العراق ونقل جثمانه من باريس إلى عمان عند موافقة أسرته. وأكدت مصادر صحفية ل"ميدل إيست أونلاين" ان الشاعر ترك وصية ان يدفن في الأردن وليس في باريس، ومازالت الأوساط الثقافية العراقية تنتظر قرار زوجته وأبنته حول تحديد مكان دفنه. ووصف الشاعر العراقي فاروق يوسف الشاعر الراحل بأنه عاش بين الحب والكراهية حاملا سبيكة تراث شعري. وقال "كان شاعرا تقليديا ماهرا، يجيد فن المديح، الذي جعله يدخل الشعر في نفق السياسة، بكل تقلب أجوائها. لذلك لم ينتبه أحد إلى صنعته الشعرية بل صار توظيف تلك الصنعة هو المحور الذي تدور حوله الكراهية والحب." وأضاف "عبد الواحد كان يمارس فعلا أخلاقيا وليس شعريا. انتظر منه البعض أن يعتذر عما كتبه في مديح الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ولكن لم يكن في إمكان الرجل أن يعتذر عن مَن حياته التي يعرف أنها ستطوى في أية لحظة. أكان على صواب أم كان على خطأ فإن يعرفه عن قرب يعرف جيدا أنه في كل ما كتبه لم يكن يكذب. لقد عاش حياته شاعرا." فيما عبر الفنان سعدون جابر عن صدمته بخبر رحيل عبدالرزاق عبدالواحد، وقال في تصريح ل"ميدل ايست أونلاين" من القاهرة قبل ساعات من حفلته في دار الأوبرا حيث سيؤدي قصيدتين له "ياصبر أيوب"عن العراق و"نفسي لديك" عن مصر"رحيل عمود الشعر العربي ونهر العراق الثالث أصابني بصاعقة لا أعرف كيف سأستفيق منها وأنا سأقابل جمهوري على مسرح دار الأوبرا." وووصف الشاعر منذر عبدالحر شاعر العراق بالفحل في قصيدته العموديّة، و البارع الأداء المتوقد في قصيدة التفعيلة، وتراه رقيقا بسيطا في قصيدة الطفل، وتراه عاشقا جنوبيا ملطخا بالطين وهو يكتب القصيدة الشعبيّة، وهو جامحٌ متوقدٌ في كلّ شعره الذي طرق فيه أبواب التعبير الإنسانية كلها، ليؤكد أنه الشاعر الحقيقي الأصيل. فيما كتب القاص علي السوداني "إنّي أرى الآن حشدا من الشعراء يغادرون أرض الله خلفك. مت بعيدا غريبا مستوحشا، وكنت اختصرت حتى مشهد موتك على عتبة دار، ظلّت زرعا طيّبا بذاكرتك التي لم تمرض أبدا: لا هُم يلوحُون، لا أصواتُهُم تصِلُ/ لا الدار، لا الجار، لا السُّمّار، لا الأهلُ/ وأنت تنأى، وتبكي حولك السّبُلُ/ ضاقتْ عليك فِجاجُ الأرضِ يا رجُلُ. وقال "سيقعُ حوارٌ بديعٌ "هناك" بينك وبين عمّك الذي تعشق، أبي الطيب المتنبي، لقد رسم تمام القصة من قبل، إذ ناح بها وناحتْ بهِ: بِم التّعلّلُ لا أهْلٌ ولا وطنُ/ ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ/ أُريدُ مِنْ زمني ذا أنْ يُبلّغني/ ما ليس يبْلغُهُ من نفسِهِ الزّمنُ. فيما وصف ناقد عراقي الأدباء الذين تهجموا على الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد "شامتين" بموته، بأنهم يشعرون ب"الضآلة" أمام قامته الشعرية. وعبر الناقد عن أسفه لانحدار حلقة واسعة من أدباء وكتاب عراقيين، إلى الحد الذي يشمتون بقامة شعرية هي وفق كل الاعتبارات النقدية فارعة. وقال من العاصمة العراقيةبغداد مبديا اعتذاره لعدم ذكر اسمه خشية من "كواتم" المليشيات والأحزاب الطائفية الحاكمة "إن الأديب العراقي يجسد صورة الضحية بامتياز وبشكل معيب قل نظيره، فغالبية من يتهكمون على موت شاعر العراق عبدالرزاق عبدالواحد كانوا يستجدون بقصائدهم دراهم من خزنة الديكتاتور المنهار، وهم اليوم يرفعون من شأن أحزاب إيران في العراق." وأكد الناقد الذي أمتهن التدريس في جامعتي بغداد والبصرة حتى تقاعده "إن ميزة عبدالرزاق عبدالواحد هو اتساقه ما بين ذاته وشعره، فهو لم يتنكر لقصيدة كتبها بالأمس في زمن الديكتاتور، بعكس شعراء الأحزاب الدينية الحاكمة، اللذين ستبقى قصائدهم في مديح الديكتاتور تطاردهم، ويتمنون لو تمحيها الذاكرة العراقية اليوم." وكان عبدالواحد موضع احتفاء من قبل الأوساط الأدبية والإعلامية العربية إثر مغادرته وطنه بعد احتلاله عام 2003، فقد خصصت له محطات فضائية عربية حلقات مطولة للتحدث عن تجربته الإبداعية وتاريخه الشعري. وكان برنامج "أمير الشعراء" الذي يبث من قناة أبوظبي، ويعد من بين أهم البرامج التلفزيونية التي تهتم بالشعر العربي وتحظى بمشاهدة واسعة، قد استضاف شاعر العراق وألقى قصيدته صبر أيوب، التي لحن مقاطع منها الملحن الراحل طالب القره غولي وأداها الفنان سعدون جابر. ويتحمل عبدالرزاق عبدالواحد مواقفه السياسية والشخصية من شعره، لكنه يبقى في كل الأحوال "شاعر العراق الأكبر" وقامة إبداعية مهيبة ومؤثرة، وله عشرات الدواوين الشعرية منذ خمسينيات القرن الماضي، وكان موضوع احتفاء مهرجانات عربية وعالمية، ونال عدد من الجوائز الأدبية. وسبق وان سئل الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد من قبل أحد محاوريه في برنامج تلفزيوني عما إذا كان قادرا على العودة إلى وطنه الذي غادرته بعد الاحتلال، فأجاب بقوله "إذا وجدت من يضمن بقاء رأسي ساعود"! في إشارة إلى عمليات الاغتيال والقتل على الهوية التي تسود البلاد. ويرتقي عبدالواحد فوق الخلافات الطائفية التي تسود العراق الآن بعد صعود الأحزاب الدينية المدعومة من إيران إلى الحكم، فهو الصابئي المندائي الذي كتب أروع قصيدة عن استشهاد الامام الحسين خطت على مرقده، واختارتها مسابقة شعرية أقيمت في إيران منتصف التسعينيات من القرن الماضي على أنها أفضل قصيدة كتبت عن الحسين منذ استشهاده إلى اليوم. وكتب الشاعر بعض مذكراته في أعمدة صحفية نشرتها وسائل الإعلام منذ سنوات، كشف فيها عن تجربته الإبداعية وعلاقته مع الأدباء وخصوصا مع الشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري. وعاش الشاعر منذ سنوات مع زوجته في العاصمة الأردنيةعمان، وقبلها في العاصمة السورية دمشق، فيما يتوزع أولاده في المهجر من فرنسا إلى الولاياتالمتحدة إلى نيوزيلاندا.