غداة الاعتداءات الهمجية في باريس، سألتني صحفية فرنسية عن معنى اختيار الأماكن المستهدفة من قبل المجرمين والتي كانت عبارة عن مسرح يقام فيه عرض موسيقي وملعب رياضي كان مسرحاً للقاء فريق فرنسا الوطني والفريق الألماني، وبحضور رئيس الجمهورية، وشارع مشهور بمقاهيه ومطاعمه الطلابية والشبابية. للوهلة الأولى، أردت أن أعتذر عن الاجابة معلّلاً ذلك بأنني لست خبيراً جنائياً لأحلل هذا الجانب الذي اعتبرته لبرهة تخصصياً، من الفاجعة. ولكنني سرعان ما تراجعت عن الخيار السلبي في عدم الإجابة، وفكرت للحظات لأجد أنه سؤال هام وإن لم نتمكن من امتلاك الإجابة الشافية له، فيجب أن نحاول استعراض بعض عناصر الإجابة ليس إلا. فما هو "سر" اختيارات القتلة؟ يبدو، وانطلاقاً من عقيدة تكفيرية إجرامية تتلظّى بالدين الإسلامي، بأن القتلة، ومن يُسيّرهم كالدمى المفتقدة للعقل وللمنطق، يجدون أن من ألد أعدائهم، المحطمين لنظرياتهم "التمويتية" والإلغائية المليئة بؤساً وخراباً ورهبةً وتحريماً، هناك معنى الحياة في تجلياتها المختلفة. السعادة والتعبير عنها أيضاً من المحرمات في كتابهم غير المقدّس المليء بالأكاذيب التي تبتعد لسنوات ضوئية عن القرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية والأرضية التي دعت لمحبة الحياة والآخر. إن النمط الفرنسي المستدام في العيش والتعبير عن هذا العيش بكافة الطرق والأساليب، هو عدو لدود لمن يُحب أن ينشر الموت ويروّج له باسم الدين. إن من استهدف هذه المواقع الرمزية، لعارف بما تحمله من معاني للناس العاديين في هذا البلد. بالمقابل، فهو يجهل حتماً، كما مُسيّره كدابة الحصاد، بأن محبة الحياة، بتعابيرها الموسيقية والاحتفالية، تملأ كتب التراث العربي الإسلامي. حتى إن الرغبة الصافية كما الحسيّة، والتي يحاربها أولئك وأمثالهم من المختلين، هي في صلب رسالة الحياة التي وردت في كتاب بدأ نصوصه بدعوة صريحة : اقرأ… ولكن ما هم بقارئين وإن قرأوا، فليسوا بالتأكيد من القادرين على الفهم. هؤلاء القتلة يدّعون أنهم يحملون رسالة "أخلاقية" وتبشيراً "روحياً". ويساندهم في تلك المهزلة المستمرة منذ قرون، معمّمون جهلة، إما من "علماء" السلطان أو من "أمراء" السراديب. يبدو أن هذه الصفات المزدوجة أضحت متلازمة، تزرع الفضاءات المختلفة بترهات العقل والمنطق. وقد سهّل ازدهارها مستبدون "علمانيون" حظروا الفكر والتفكير ورسّخوا الظلامية الدينية سعياً لاستخدام الدين كمطية لاستمرارية عبثهم الأمني والإفسادي بحيوات الرعية غير المواطنة في جملكياتهم الأبدية. يستسهل بعض الملاحظين، ممن يدعون اللبرلة الفكرية على الأقل، التبحّر في الحديث عن الفكر الظلامي في أبعاده التخلفية والتمويلية والمؤامراتية. وهم في ذلك يُركزون على دول بعينها، يُسيطر الفكر الديني المتشدد على قرارها السياسي وممارساتها المجتمعية، معتبرين أنها "الشيطان الأعظم". بالمقابل، لا حرج لديهم في استثناء دول "دينية" أخرى، متشددة وظلامية بدورها، ولكن مسارها يُناسب موقفهم السياسي الآني والمصلحي، وحتى ربما المادي. وكذلك، فأصحاب هذا الخيار التمييزي، يتناسون أو يغفلون، عن تلك الدول التي استقطبتهم بأعطياتها المادية والعينية، والتي يسود فيها الرعب والتسلط والقمع والفساد، كمصدر أساسي لترعرع الفكر الظلامي لأٍسباب بنيوية وموضوعية. وعلى الرغم من تبجحهم بالثقافة وبالتنوير، فهم يتحالفون مع أعداء الثقافة والتنوير ويعتبرون أشدهم بأساً وقهراً وقمعاً، "مستبداً عادلاً". فرنسا تعبر فترة الحداد بحذر شديد من بروز الاستقطابات والاستخدامات السياسية لما حصل. كما تعتمد على وعي مجتمعي نافذ، يشوشه توتر متزايد في مفهوم راسخ اجتماعياً وهو الانفتاح على الآخر. وعمليات هؤلاء القتلة، التي استهدفت نمط العيش الفرنسي، تسعى فيما تسعى إليه نشر الخوف وتعزيز الحذر من الآخر. وهذا الآخر، مهما كان، عليه أن يعي بأنه مطالب بأن يُظهر اندماجه، وليس انصهاره، مع المبادئ والقيم التي قامت عليها مؤسسات هذه الدولة الديمقراطية والتي استقبلته على مراحل، مهما سادها، في أجزاء منها، سوء الإدارة أو الاستغلال السياسوي. والخطر الأكبر المحدق الآن، هو تعزيز حظوظ المتطرفين اليمينيين العنصريين، بالاستناد إلى عنصر الخوف. كما يمكن تبصّر اشتداد حدة الانتقادات المحلية والقاسية بحق السياسة الخارجية الفرنسية التي لم تُميّز بين الطاعون والكوليرا، كما يدعو إليه "البراغماتيون". وهي التي سعت منذ 2011 إلى الوقوف بوضوح، ولكن بلا امكانات ولا أدوات، إلى جانب الضرورة الحتمية للتخلّص من كل الأوبئة الظلامية والاستبدادية. نقلاً عن موقع هنا صوتك.