ليْس بالأمر الهيّن أو السهل أن يبْتدر الإنسانُ كِتابه، حَولً قضيَّة تتعلّق بنفرٍ كِرامٍ، ما بخِلوا يوماً قط بعطائهم، وهم في ريعان الصبا والشباب، من أجل بناء وطنٍ حدّادي مدّادي- يمتاز بالتنوع، توقّعوا فيه الإحترام والتقدير، بعد وعثاء مسير السفر، ولكن هيْهات.. هيْهات، حيث لم يچدو مُقابلاً لمُعاناة سفرهم، أو مَا قدّموا من إسهام في سبيله، والذي لم يسْلم هو الآخر، من أذي بعْضٍ من بنيه، أدْمنوا الفشل وصناعة الأزمات، وظلّوا يُؤذوننا رُوحياً ومعنَوياً، كما لم يسْلم من الإيذاء حتى المعاشيين الذي قضُوا زهرة شبابهم من أجله، فيا له من أمرٍ مُشين، لا يقبله صاحب ضمير ولا عقل، حيث بات الكثيرون من ذوي القلوب الرحيمة، في غاية من الأسى والحَزن، بلْ والإسْتهجان والإستنكار، في الوقت الذي لم يزل غيرُهم، من ذوي القُلوب الصدِئة المَريضة- تتقيئ تشفيّاً، وأصابها الغُرور والبَغْي، وهم يُردّدون بملئ فيّهم: (تكليف وليس تشريف)- أي أن السلطة في كل مُستوياتها تكليفٌ، ولم تعد لهؤلاء ذرّةٌ أو قدرٌ من إحترام، لقومٍ قضُوا شبابِهم في خدمة الوطن، وظنُّوا أن تلك الخدمة ستشكّل لهم جسراً أو سياجاً منيعاً، من هَوْجاء ريحِ الزّمان وغدْره، بيْد أنهم تفاجؤُوا بغير ما كانوا يتوقعُون، فقد أكلوهم لحماً وقذفُوا بهم عظاماً في العرَاء، لتنْهشهم سَابلة الطريق، فالأمر حقيقةً، يجْعل الناظرين إليه في حالة من الغثيان، وهم يرون أبائهم وإخوانهم المعاشيّين، على قارعة طُرق الصرافات، الواقعة في مُجع البنوك بنيالا، يتردّدون في نهاية كل شهر- جيئةً وذهاباً، ليصطفّوا أمام الصِرافات البنكيّة- شرقي مسجد نيالا الكبير، وغربي سينماء نيالا الموؤودة، في إنتظار صرف معاشهم، وكأنما الأمر يبدو لزاماً على كل من نزل المعاش، أن يفترش تُراب المُعاناة، في ظل كل الظروف، شتاءً.. صيفاً.. خريفاً، ولكأنّما لا يعني أُولي الأمْر ما يعانيه هؤلاء، ولا أن يعيروا إهتماماً، سوى أنّهم مسؤولين فقط، ليثيروا تراب عبطهم غُباراً، يسْتنشقه الواقفُون عَلى رصيف الإنتظار، وبالطبع هذه هي أُس التناقُضات، في بلدٍ كل شيئٍ فيه غريبٌ ومُستغرب، وتبرز هُنا تساؤُلات عديدة ووجيهه، لكنّها في ذات الوقت مُقْلقة.. وتارةً تبعث الحِيرة والشّك، لطالما أن القائمين على الأمر، لا يعرفون من الحكم والسلطة إلا سَطوتِها وعُنفوَانها عِزة وإثما، ولمّا تجدهم يجُوبون بَسياراتهم الفارهة، لا يَعيرُون أدْنى إهتمام لمن يتولّون أمْرهم، وشرِيحة المَعاشيين ليْست بِبراء، ولمْ تَغفر لهَا هي المسكينة، ما قدّمته من الجهد والعطاء، ففقدت ما فقدت- وهي تُؤدي واجباتها، ومن الغريب حقاً أن يقدم الإنسان أغلى ما يُحب من عُمره، ثم لا يجد من يحترم حقّه، وهو في سنيِّ عمره الأخير، فمن باب أولى أيّها الكرام، أن يجد إحتراماً وتقديراً لما أعطى وما قدم، لا أن يُجهل ويُستنكف أمره! ولا أن يُحرم ويُبتز حقه الإنساني! ناهيك عن واجب الدولة والمجتمع تجاهه، وينبغي أن يتم التعامُل معه بغير ما نراه ويراه غيرنا، فالمعاشيين الذين يصطفون أمام بوابات الصرافات، ببنوك نيالا بولاية جنوب دارفور، عند نهاية كُل شهر، لهي ظاهرة يأسف لها كل من أمْعن النظر، وإتّقى رب الناظرين، لنفرٍ تُوحي أجسادهم المُنهكة، أنهم تعبوا من وعثاء الإصْطفاف والإنتظار، وكأنما ذلك يَبدو للعيان والناظرين، بل والسامعين والقارئين للسطور، أن الأمر عصيٌ على العلاج، ولكنّي أعتقد خلافاً لما يعتقدون ويتصورون، ومن المُمكن جداً إذا ما توّفرت الإرادة، أن يضعوا علاجاً شافياً لهذه الظاهرة، لأن للحقيقة وجه واحد، ولا تحْتمل تعدّداً في الأوجه والتباينات، ومن العسَف والإجْحاف أن يَسْتجديك أحد، أو يُمارس عليك الإستغفال والإبْتزاز، دون مراعاة لحقك الآدميّ، وما أفنيتَه من عُمرك وزهرة شبابك، وحتّى بعضاً من كُهولتك، لا لشيي إلا لوطن إعتقدت فيه أنك ستجد الإحترام والتقدير، قبل أن تُفاجأ بغير ما كنت تتوّقع، لتجد نفسك مُمدّداً الأرجل، ومُفترشاً الأرض لتلتحف ألسِنة البرد القارص أو زمهرير الصيف، آملا في إنتظار فُرصتك للصرف، هذا إذا لم تُفاجأ بنفاد المبالغ بالصرافة، لتُعيد الإصطفاف مرة أخرى وهكذا دواليك، ومن العجب أن بعضهم يأتي باكراً، حتى يجد لنفسه الفُرصة، لكنّه سُرعان ما يجد إخوة له جاؤوا قبله باكراً، في إنتظار حفنةٍ من المال، لا تغطي حتى المُعاناة التي يواجهها المعاشي، في سبيل الحُصول عليها، ناهيك عن تغطيتها لنفقات الحياة المعيشية المتواترة.. والناظر إلى مشهد المعاشيين بالولاية، وهم في إنتظار (الضّحاّكات، الوَرق، البخْشيش، الكُبْكب، العُود والشُنْقر)- ولمن لا يعرفونها- فهي دلالات شبابية، تعني العملة النقدية (القروش)، فالناظر لإنتظارهم لها- ستشمئز نفسه، وفي البال بعض المعاشيين- القادمين من المحليات البعيدة، لتعود بنا الذاكرة إلى أيام إصطفاف الحُصول على الرّغيف، التي قد لا تسمن ولا تغني، وبجانبها بعضٌ من الحاجيات، ولكأنما عادت بنا تلك الأيام مرة أخرى، ليصطف الناس ثانيةً في طلب الغاز، ثم يصطفون ثالثة لصرف معاشهم، والإصطفاف طويييييييل، فما أشبه اليوم بالأمس، وحقاً إنه لأمر يستفز نفس كل ضمير حي، وليس من المنطق.. ولا من الأخلاق.. ولا من الدين كذلك.. أن تُهان كرامة الذين أفنُوا عُمرهم، في خدمة الغير، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان! ونأمل ألا يكون ذلك مع سبق الإصرار والترصد، أو بهدف المزيد من الإمعان والإذلال والإحتقار، ولا نود كذلك أن يكون مِنهاجاً في إدارة الشأن العام؛ وعليه أستبعد ذلك على أقل تقدير، في هذه المرحلة، والمرجو فقط هو تعديل هذه الصورة السالبة، حتّى لا نجد من يُبرّر ويسّوق لها الحُجج والبراهين، لكي لا نعضّ أصابع الندم والأسف، إذا لم نجد العلاج، أو أن نضع الحق في صوابه، ولا يوجد تبريرٌ منطقيّ في هذه الحال، إذا ما جانف الحقّ والواقع، ويبرز هنا منطقٌ نصفه بسُوء الإدارة، وعدم التخطيط السليم، لأنه سيكون حاضراً في هذه الحال، لذلك دعونا نتساءل: ما الذي يمنع فتح المزيد من الصرافات؟؛ أو ما الذي يمنع الصرف من داخل البُنوك؟! وإيقافه من الشوارع؟!، التي تستقبلهم بشتائها وزمهريرها، زد عليه بالطبع غبارها ووسخها، دون عطف أو مراعاة للظروف؛ أو ما الذي يمنع التفكير في إنشاء مظلات تحميهم؟، ولا تعرضهم لأكثر ممّا هم فيه؛ وما الذي يمنع كذلك التفكير في طريقة صرف تحترم كرامتهم؟، وفي الذاكرة أن بعضهم مُصاب بأمراض مُزمنة لا يحتمل المشاقّ؛ فليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويحترم صغيرنا.. وكم منا يتّقون زُلفى أنهم الحاملين للواء الحقّ والفضيلة، لكنّهم يتأبّطون شرّاً، وهم يحملون مشاريع نعتوها بالحضارية؛ فبالله عليكم أفيقوا من سُباتكم، فالحضارة أن يُحترم الآخر، لا أن يُذل أو يُهان، وما بالكم إذا كانوا أبائنا وإخوة لنا عانوا كثيراً، لا لشيئ إلا لأنهم أعطوا هذا الوطن، وما زالوا يعطونه، من سِفر مَعارفهم وخِبْراتهم.. أهذا هو الجَزاء.. كلا ثمّ كلا وألف لا!، وسنظل ندقّ أجْراس الإنذار.. ونعزف على المزمار، لربّما يعزف لنا سنفونيةً موسيقية، تطربنا ونترنم لها جميعاً، فأفيقوا يا أيها الواقفون على رصيف السُكون! وأوقفوا صراخ قومٍ ظلّوا يجأرون بالشكوى، وأمنحوهم التقدير والثناء، لما قدّموا من خيرٍ وعطاء.. وإنتبهوا قبل أن يأتي زمانٌ ستصرخون فيه الساعات الطِّوال، لأنه كما تُدين تُدان.