شاهد بالفيديو.. (ما تمشي.. يشيلوا المدرسين كلهم ويخلوك انت بس) طلاب بمدرسة إبتدائية بالسودان يرفضون مغادرة معلمهم بعد أن قامت الوزارة بنقله ويتمسكون به في مشهد مؤثر    شاهد بالفيديو.. مطرب سوداني يرد على سخرية الجمهور بعد أن شبهه بقائد الدعم السريع: (بالنسبة للناس البتقول بشبه حميدتي.. ركزوا مع الفلجة قبل أعمل تقويم)    شاهد بالفيديو.. مطرب سوداني يرد على سخرية الجمهور بعد أن شبهه بقائد الدعم السريع: (بالنسبة للناس البتقول بشبه حميدتي.. ركزوا مع الفلجة قبل أعمل تقويم)    الخرطوم وأنقرة .. من ذاكرة التاريخ إلى الأمن والتنمية    السودان يعرب عن قلقه البالغ إزاء التطورات والإجراءات الاحادية التي قام بها المجلس الإنتقالي الجنوبي في محافظتي المهرة وحضرموت في اليمن    "صومالاند حضرموت الساحلية" ليست صدفة!    مدرب المنتخب السوداني : مباراة غينيا ستكون صعبة    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شاهد بالفيديو.. مشجعة المنتخب السوداني الحسناء التي اشتهرت بالبكاء في المدرجات تعود لأرض الوطن وتوثق لجمال الطبيعة بسنكات    تحولا لحالة يرثى لها.. شاهد أحدث صور لملاعب القمة السودانية الهلال والمريخ "الجوهرة" و "القلعة الحمراء"    الجيش في السودان يصدر بيانًا حول استهداف"حامية"    رقم تاريخي وآخر سلبي لياسين بونو في مباراة المغرب ومالي    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    استقبال رسمي وشعبي لبعثة القوز بدنقلا    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فِي ذَكرَى الانفِصَال : جَحْدُ التَّنوُّعِ مُتلازمَةُ المَرَضِ السُّودانِي (1 4)
نشر في حريات يوم 22 - 07 - 2016

* أزمة التَّساكن أجهضت حلم السَّلام والدِّيموقراطيَّة في بلادنا وبترت عمليَّاً أطرافاً عزيزة من أرضها وشعوبها وما تزال تتهدَّد المزيد بالبتر!
* أصمَّت الأحزاب آذانها عن تحذير حسن الطاهر زروق من مغبَّة عدم الوفاء بوعد الفيدراليَّة للجَّنوبيين فانفتح درب الشَّوك الذي ما زلنا نقطعه بأقدام حافية!
* جرى استسهال السِّياسات التي تتمحور حول الإسلام واللغة والثقافة العربيَّتين مثلما جرى استسهال إدراج السُّودان كله تحت شعارات الوحدة العربيَّة باعتبارها الممكن التَّاريخي للوحدة السُّودانيَّة!
ترفرف، هذا العام، أجواء الذكرى السِّتِّين للاستقلال، والخامسة للانفصال. وفي 10 مايو 2012م، سأل كرتي، وزير الخارجيَّة، محاوره في (قناة الجَّزيرة) احمد منصور: "منذ 1983م يقاتل الجَّنوبيون تحت مانفيستو السُّودان الجَّديد الذي كان عرَّابه، جون قرنق، يصفه بأنه البلد الذي يمكن أن يحكمه غير عربي وغير مسلم، فهل ترضى أنت بهذا"؟! وفي أواخر 2010م وجَّه رئيس الجُّمهوريَّة، ضمن حديث (عيد الحصاد) بالقضارف، إنذاراً غليظاً عن تبعة انفصال الجَّنوب، قائلاً: "الدُّستور سيعدَّل .. وسنبعد منه العبارات (المدَغْمَسة) .. فلا مجال للحديث بعد اليوم عن دولة متعدِّدة الأديان والأعراق والثَّقافات!" (وكالات؛ 19 ديسمبر 2010م)؛ يعني: لئن كانت (الإثنيَّة) هي جماع (العِرْق + الثَّقافة)، فإن (التَّنوُّع الإثني) في السُّودان كان رهيناً، حسب البشير، ببقاء الجَّنوب؛ أما وقد ذهب، فقد انتفي (التَّنوُّع)، وأضحى الكلام عنه محض (دَغْمَسَة)، أي مواربة لأجندة خفيَّة!
(1)
بمثل ذلك الذَّمِّ لحديث (التَّنوُّع)، وذلك السُّؤال (الإيحائي) لإعلامي عربوإسلاموي متشدِّد عمَّا إذا كان يرضيه أن يحكمه (غير عربي وغير مسلم)، اختزل كلا البشير وكرتي، في بعض أحدث تعبيرات الأيديولوجيا العربوإسلامويَّة الحاكمة في البلاد، ما يمكن تسميته ب (متلازمة المرض السُّوداني) التي تهدر كلَّ طموحات المُساكِن (الآخر) غير المستعرب وغير المسلم، مستهجنة تطلعاته للمشاركة في حكم البلاد! هكذا لم تجهض أزمة (التَّساكن المعلول) حلم السَّلام والدِّيموقراطيَّة في بلادنا، فحسب، بل بترت، عمليَّاً، أطرافاً عزيزة من أرضها وشعوبها في الجَّنوب، وما تزال تنذر ببتر المزيد في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، وربما في الشَّرق، والشَّمال الأقصى أيضاً!
لم يوفق، للأسف، لا الرَّئيس ولا وزير خارجيَّته، ولا، من خلفهما، مفكرو القوى الطبقيَّة والأيديولوجيَّة العربوإسلامويَّة السَّائدة اقتصاديَّاً وسياسيَّاً واجتماعيّاً وثقافيَّاً، لما يقارب العقود الثلاثة حتى الآن، إلى قراءة أكثر سداداً في لوح أنثروبولوجيا السُّودان؛ ولو انهم فعلوا لأدركوا:
أوَّلاً: أن في المشاركة بحكم البلاد حقاً معلوماً للمُساكنين، مستعربين وغير مستعربين، مسلمين وغيرهم؛
وثانياً: أن ثمة ضلالاً كبيراً في اعتبار الجَّنوب (أيقونة التَّنوُّع) اليتيمة التي، بذهابها، ينقشع (التَّنوُّع) ذاته عن البلاد، ف (التَّنوُّع) حقيقة سودانيَّة لا تنكرها العين إلا من رمد، بقي الجَّنوب أم ذهب.
(2)
ينطوي (التَّنوُّع) على دلالة (الاختلاف)، لا (الخلاف)، ف (المختلِف) ليس، بالضرورة، (مخالِفاً) في معنى (المتناقض العدائي)، ولا يعني، في الأصل، أيَّة (قطيعة) بين مفردات الوطن (الإثنيَّة)، وتكويناته القوميَّة، بل يعني، ببساطة، حالة (تميُّز) لا مناص من الاعتراف بها، وبحقِّها في التَّعبير عن نفسها ضمن مشروع تثاقف سلمي هادئ، وحوار ديموقراطي مرموق. ولو استبعدنا المقابلة الاصطلاحَّية التَّناحريَّة الفاسدة التي يصطنعها كلا أيديولوجيي (المركز) العربوإسلامويين وأيديولوجيي (الهامش) الانفصاليين، غير آبهين إلى حقيقة أن (العروبة)، أصلاً، من أبرز مكونات (الثَّقافة الأفريقيَّة)، لأدركنا أن ما يجمع بين شتَّى التَّكوينات القوميَّة السُّودانيَّة أكثر بكثير مِمَّا يفرِّق.
وإذن ف (التَّنوُّع)، عرقيَّاً، أو دينيَّاً، أو ثقافيَّاً، أو لغويَّاً، ليس هو، ولم يكن في أي يوم، سبب مشكلتنا الوطنيَّة، حسب ما ظلَّ غلاة العربوإسلامويين (السُّلطويين/ الاستعلائيين/التَّفكيكيين) يحاولون تصوير الأمر، وبالتَّالي ليس هو سبب هذا الحريق الوطني المستعر الذي لطالما عانت وما زالت تعاني منه بلادنا، بل إن جحد هذا (التنوُّع)، وسوء التَّخطيط، بالتبعيَّة، للسِّياسات المتعلقة بإدارته في (المركز) تجاه (الهوامش)، هو السَّبب الحقيقي في كلِّ ذلك، وفي ما ظلَّ يترتَّب عليه من أوهام الاستعلاء، والاستضعاف، والاستتباع، وجحد حقِّ (الآخر) المشروع في ممارسة (اختلافه)، وما ينتج عن ذلك من تفاقم فقدان الثِّقة المتبادل، مِمَّا يتَّخذ، تقليديَّاً، صورة المجابهات المسلحة.
(3)
لا تنتطح عنزان على أن الاستعمار كرَّس هذه المشكلة وفاقمها، غير أنه، بالقطع، لم يخترعها. لقد عمد لاستثمار أوضاع تاريخيَّة سالبة وجدها قائمة، أصلاً، على الأرض لما يناهز القرون الخمسة قبل مجيئه، فلا معنى، إذن، للتَّركيز على دوره وحده، حيث صاغ وطبق (السِّياسة الجَّنوبيَّة) منذ مطالع عشرينات القرن المنصرم، عبر جملة قوانين وترتيبات هدفت لِلجْم التَّقارب، دَع التَّثاقف، بين مكوِّنات البلاد المختلفة فى الشَّمال والجَّنوب وجبال النُّوبا الشَّرقيَّة والغربيَّة، كقانون الجَّوازات والتَّراخيص لسنة 1922م، وقانون المناطق المقفولة لسنة 1929م، وقانون محاكم زعماء القبائل لسنة 1931م، علاوة على فرض الانجليزيَّة لغة رسميَّة في الجَّنوب، وتحديد عطلة نهاية الأسبوع فيه بيوم الأحد، وتحريم ارتداء الأزياء الشَّماليَّة على أهله، وابتعاث الطلاب الجَّنوبيين لإكمال تعليمهم في يوغندا، وما إلى ذلك. فإذا افترضنا، نظريَّاً، إمكانيَّة استبعاد تلك الإجراءات الاستعماريَّة، فهل تراها كانت ستنتفى أسباب المشكلة بالَّنظر إلى الوضعيَّة الذَّاتيَّة للعلاقات الإثنيَّة وسيرورتها منذ القرن السادس عشر؟! هذا، برأينا، هو السؤال الذي يحتاج إلى تفكير جديد.
وعلى أيَّة حال اتَّخذت الإدارة البريطانيَّة قراراً، عام 1946م، بتغيير سياستها تلك بعد أقل من ثلاثة عقود على تطبيقها، فعقدت مؤتمر جوبا في يونيو عام 1947م لإقرار سياسة بديلة تبقى الجَّنوب ضمن حدود السُّودان الموحَّد بنظام الحكم الذَّاتى، ثم شكَّلت الجَّمعيَّة التَّشريعيَّة في ديسمبر عام 1948م بمشاركة الجَّنوبيين. ويفترض أسامة عبد الرحمن النُّور، في محاولة لإعطاء تفسير علمي لذلك القرار من زاوية مختلفة، أنه لا بُدَّ جرى بأثر تطوُّر علم الأنثروبولوجيا، والانقلاب على أسس الإثنوغرافيا، أو ما صار يعرف فى بريطانيا بالأنثروبولوجيا الكلاسيكيَّة (ARKAMANI).
مهما يكن من شئ، فإن السُّودان دخل مرحلة ما بعد اتفاقيَّة الحكم الذَّاتي فبراير 1953م وهو (موحَّد)، ودخل مرحلة ما بعد الاستقلال يناير 1956م وهو (موحَّد)، وما كان ذلك ليكون لولا أن النُّواب الجَّنوبيين صوتُّوا مع إعلان استقلال السُّودان (الموحَّد) من داخل البرلمان الأوَّل في 19 ديسمبر 1955م، مقابل (كلمة شرف) من الأحزاب الشَّماليَّة بتلبية أشواقهم للحكم الفيدرالي بعد الاستقلال! ولو كانت الأحزاب أوفت بوعدها، وفق ما نصحها به، جهرة، حسن الطاهر زروق، نائب الجَّبهة المعادية للاستعمار، في كلمته المتواترة أمام البرلمان الأوَّل، لأمكن أن يشكِّل ذلك نموذجاً لتلبية أشواق (الآخرين) من النوبا وغيرهم، على امتداد نصف القرن الماضي. لكن النكوص عن ذلك العهد، للأسف، شكَّل بداية (درب الآلام) الشَّائك الطويل الذي ما زلنا نقطعه بأقدام حافية!
(4)
تصدَّت برجوازيَّة المستعربين المسلمين الصغيرة (الجَّلابة)، ومكوِّنها الأساسي من الانتلجينسيا، لقيادة الحركة السِّياسيَّة الشَّماليَّة منذ ما قبل مرحلة الاستقلال السِّياسي. وطوال ذلك التَّاريخ لم يكف تيَّارها (العقلاني/التَّوحيدي)، بمختلف مدارسه الفكريَّة، وانتماءاته السِّياسيَّة، عن اجتراح مختلف الأطروحات حول قضيَّة (الهُويَّة). لكن، ولأن صعوبات معرفة (الآخر)، القائمة في حواجز اللغة والثَّقافة والمعتقد، والتي لا يحفل بها، غالباً، التَّيَّار (السُّلطوي/التَّفكيكي)، تشكِّل إغواءً شديداً بالركون للشَّائع عن هذا (الآخر) في الذِّهنيَّة العامَّة، فقد ظلت أطروحات التَّيَّار (العقلاني/التَّوحيدي) تصطدم، في كلِّ مرَّة، بتلك الصُّعوبات، فيجري استسهال تفسيرها "كحواجز صناعيَّة أقامها المستعمرون لتجزئة القطر الواحد" (محمد فوزي مصطفى؛ 1972م)، أي كمحض مؤامرة استعماريَّة قطعت الطريق أمام التحاق الإثنيَّات الأفريقانيَّة، خصوصاً في الجَّنوب، بالاستعراب والتَّأسلم اللذين استكملا نموذجهما الأمثل، حسب زاوية النَّظر هذه، في الشَّمال والوسط.
وبإزاء مصاعب البناء الوطني بعد الاستقلال، وبدفع من الجَّامعة العربيَّة والمنظمات الإسلاميَّة التي انتمى إليها السُّودان، ضربة لازب، بعد 1956م، والتي أناطت به مهمَّة (تعريب) و(أسلمة) الأفارقة على مبدأ القهر والغلبة (عبد الله علي ابراهيم؛ 1996م)، ولأن الاستسهال يقود للمزيد منه، فقد أفرغ التَّيَّار (العقلاني التَّوحيدي) معظم أطروحاته حول (الهويَّة)، على تنوُّع منطلقاتها، وبالأخص وسط القوى التَّقليديَّة التي ورثت السُّلطة عن الاستعمار، في برامج وسياسات من هذا القبيل، وكمثال:
أ/ أعلنت (العربيَّة) لغة رسميَّة، في ما أسماه بعض نقَّاد هذه السِّياسة ب "الجَّبر اللغوي" (المصدر)، مِمَّا شكَّل إهداراً لكلِّ ثراء البلاد من جهتَي التَّعدُّد والازدواج اللغويَّين. ففي السُّودان ممثِّلات لكلِّ المجموعات اللغويَّة الأفريقيَّة الكبيرة، ما عدا لغة الخويسان في جنوب أفريقيا (سيد حامد حريز ضمن عبد الله على ابراهيم؛ 2001م). وبحسب إحصاء 1956م فإن أهل السُّودان يتحدَّثون مائة وأربع عشرة لغة، نصيب سكَّان الجَّنوب منها حوالي الخمسين؛ ويتحدَّث العربيَّة 51% من جملة السُّكَّان البالغة آنذاك 10,262,536، ويتحدَّث اللغات النيليَّة 17,7% (11% منهم بلغة الدينكا) ، ويتحدث بغير العربيَّة في الشَّمال والوسط 12,1% (المصدر). وقد صنَّف جوزيف غرينبيرج المجموعات اللغويَّة الأفريقيَّة الكبيرة فى أربع أسر، وباستثناء الخويسانيَّة فإن ثلاثاً منها متوطنة في السُّودان، وهى: الأسرة الأفريقيَّة الآسيويَّة، ومنها العربيَّة والبجاويَّة، والأسرة النيجركردفانيَّة، ومنها لغة النوبا الكواليب والمورو والفولاني، وأسرة اللغات النيليَّة الصَّحراويَّة التي يعتبر السُّودان الموطن المثالي لكلِّ أفرعها، وهى ميزة لا تتوفَّر في أي قطر آخر في أفريقيا، وينتمى إلى هذه الأسرة ما يربو على 70% من اللغات المحليَّة المتحدَّثة في السُّودان، بل ويتمتَّع بعضها بموقع معتبر في خارطة البلاد اللغويَّة من حيث عدد متحدِّثيها، وسعة انتشارها الجُّغرافي، كمجموعة اللغات النُّوبيَّة في جبال النُّوبا وشمال السُّودان وحلفا الجَّديدة، ومجموعة اللغات النيليَّة، ولغة الفور، ولغة الزَّغاوة، على سبيل المثال (أبو منقة؛ الأضواء، 16 فبراير 2004م). وتزداد أهميَّة لغات هذه الأسرة بالنِّسبة للسُّودان لجهة اشتراكه في عدد منها مع جميع البلدان المجاورة. بل إن خارطته اللغويَّة تضمُّ لغات نيليَّة صحراويَّة مهاجرة من بلاد بعيدة في غرب أفريقيا، كلغة صنغاي السَّائدة في مالي والنيجر، ولغة الكانوري في بلاد برنو (نيجيريا) والنيجر وتشاد. هذه الحقائق تؤكد على عمق الصِّلات التَّاريخيَّة بين السُّودان وجيرانه القريبين والبعيدين (المصدر).
ب/ ومثلما جرى، فى الشَّأن الدَّاخلي، استسهال السِّياسات التي تتمحور حول الدِّين الواحد (الإسلام) واللغة الواحدة والثقافة الواحدة (العربيَّة)، مِمَّا أقصى كلَّ أقوام التعدُّد والتنوُّع الثَّقافيين واللغويين، باعتبار خاصيَّة اللغة كحامل للثَّقافة، وأحالها إلى مجرَّد هدف للأسلمة والتَّعريب، فقد جرى، فى الشَّأن الخارجي أيضاً، استسهال إدراج السُّودان كله، بعين البعد الواحد، تحت شعارات (العروبة) و(القوميَّة العربيَّة) و(الوحدة العربيَّة) وما إليها، واعتبار ذلك بمثابة (الممكن) التَّاريخي الوحيد المتاح لحلِّ مشكلة (الوحدة السُّودانيَّة)، فإذا بمردوده العكسي الفاجع يتمثَّل في تحوُّله لدى الذِّهن (الآخر) غير المستعرب إلى محض ترميزات ناجزة بنفسها للتَّيئيس من هذه (الوحدة)، وحفز الميل ل (الانفصال)، مِمَّا دفع ببعض المفكرين العرب، حتى مِمَّن يرون أن "القوميَّة العربيَّة .. ما تزال قوَّة حيَّة ومحرِّكة"، لأن يدقُّوا أجراس التَّنبيه إلى هذه "الخاصِّيَّة القطريَّة .. في التفكير القومي العربي، وما تقدمه لذلك الفكر من أمثولة هو بأشدِّ الحاجة إليها" (إيليا حريق؛ مقدِّمة فى: عبد الله على ابراهيم، 1996م). فالفكر القومى العربى "عالج .. تلك المشكلة بشئ من الخفَّة إن لم نقل العداء .. (و) التَّجاهل أو التَّهوين .. مدَّعياً .. أن الأقليَّات لا تختلف في الرأي عن النَّهج القومى العام .. (لكن) الطريق القويم للقوميَّة العربيَّة اليوم .. هو احترام الفروق القائمة في المجتمع والدَّولة القطريَّة ومساعدتها على التَّكامل والنُّمو والازدهار لكى تستطيع .. تشييد البناء القومى على قاعدة وحدات من الدُّول القطريَّة. فبدل أن نسعى للقضاء على الدَّولة القطريَّة وعلى خاصيَّتها ، فالأحرى بنا أن نعمل للاحتفال بها والاعتماد على مقدراتها، فهي الأساس الذي نرتقي منه نحو البناء القومى الأعلى" (المصدر).
(نواصل)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.