مرتزقة أجانب يرجح أنهم من دولة كولومبيا يقاتلون إلى جانب المليشيا المملوكة لأسرة دقلو الإرهابية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    إتحاد الكرة يحتفل بختام الموسم الرياضي بالقضارف    دقلو أبو بريص    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام والسياسة من الشافعي إلى سيد قطب
نشر في حريات يوم 18 - 08 - 2016

«أ» أولُ مَنْ استخدم مفرد «السياسة» فى المجال العربى الإسلامى الوسيط فى التعبير عن فنون إدارة المدينة أو الدولة أو الشأن العام هم النَقَلةُ عن اليونانية والسريانية ترجمةً للكلمة اليونانية «Politeia».. وهى تعنى لدى أفلاطون «فى محاورته السياسية أو الجمهورية» وأرسطو «فى كتبه السياسة، والأخلاق إلى نيقوماخوس، والخطابة» تأمُّل أو دراسة أمرين اثنين متلازمين: تكوينات الاجتماع المدنى، وأنواع الرئاسات فيه أو أنظمة الحكم، وأساليب إدارته.. ومنذ أيام الكندى، والفارابى، وابن سينا وابن رشد؛ فإنّ عنوان السياسة للكتب والرسائل المترجمة أو المؤلّفة، ظلَّ لدى الفلاسفة الإسلاميين مستعَملاً بمعنى فنون وأساليب إدارة المدينة والدولة والشأن العام.
كان الفارابى من بين الفلاسفة هو الأكثر اعتناءً بالمصطلح والمفهوم لمفرد السياسة.. فقد ألّف فى السياسة المَدَنية كما سمّاها فى عدة كتب منها: السياسة المدنية، وتحصيل السعادة، وآراء أهل المدينة الفاضلة، وفصول فى المدنى.. ثم إنه فى رسالته: إحصاء العلوم اعتبر السياسة أو علم السياسة، علماً مدنياً، وعرّفه بأنه «3»: «العلم الذى يفحص عن أصناف الأفعال والسُنَن الإدارية وعن الملكات والأخلاق والسجايا والشيم التى عنها تكونُ تلك الأفعال والسُنَن، وعن الغايات التى لأجلها تُفعل، وكيف ينبغى أن تكونَ موجودةً فى الإنسان، وكيف الوجهُ فى ترتيبها فيه على النحو الذى ينبغى أن يكونَ وجودُها فيه، والوجهُ فى حفظها».. وإلى هذا الجانب النظرى لعلم السياسة المدنية، يتحدث الفارابى عن الجانب العملى أو الرياسات من حيث الإمكانية والقدرة على تحقيق الغاية الكبرى من ورائها وهى السعادة، التى تنجزها الرياسة الفاضلة.. فإلى الرياسة الفاضلة هناك رياسة الكرامة، وهناك رياسة العامة أو الديمقراطية، ورياسة الخِسّة..إلخ.. وهكذا فإنّ العلم المدنى أو علم السياسة المدنية قسمان، قسم يُعنى بتعريف السعادة، وقسم يشمل الترتيبات والتدبيرات العملية التى تؤدى إلى تحقيق تلك الغاية القُصوى.
يلخّص الفارابى فى كتبه ورسائله إذن ما فهمه من سياسات أفلاطون وأرسطو.. وليس من المعروف مدى اطّلاعه على كتاب السياسات لأرسطو، لكنه عرف جمهورية أفلاطون وكتب جوامعَ لها «وقد لخّصها أو شرحها ابن رشد فيما بعد»، كما عرف كلٌّ من الفارابى وابن رشد كتاب «الأخلاق» لأرسطو، وكتاب «الخطابة» له.. وفى كلٍّ من الكتابين تلخيصٌ للسياسات الأرسطية.. وقد حاول الفارابى أن يوسِّع مفاهيم سياسات الاجتماع المدنى كما يعرضها أفلاطون وأرسطو لمزيدٍ من التلاءم مع مجريات الحياة الإسلامية، فتحدث عن «الأمة التى تتعاونُ مُدُنُها كلُّها على ما تُنالُ به السعادةُ وهى الأمةُ الفاضلة.. وكذلك المعمورة الفاضلة إنما تكون إذا كانت الأُمَم التى فيها تتعاونُ على بلوغ السعادة».
وهناك حلقةٌ أُخرى فى استعمالات الفلاسفة والأخلاقيين لمصطلح السياسة، وهى حلقة إخوان الصفا التى ربما كانت معاصرةً للفارابى.. هؤلاء يقسمون العلم السياسى أو المدنى إلى خمسة أنواع: السياسة النبوية «وهى معرفة كيفية وضع النواميس».. والسياسة الملوكية «وهى خاصة بخلفاء الأنبياء والأئمة المهديين».. والسياسة العامة «وهى الرئاسة على الجماعات مثل الأمراء على البلدان وقادة الجيوش على العساكر».. والسياسة الخاصة «وهى معرفة كل إنسانٍ كيفية تدبير منزله وأمر معيشته».
لقد أوردْتُ هذه التفاصيل لأقول إنّ الفارابى ومُشايعيه من الفلاسفة والأخلاقيين فى القرون الثلاثة «الثالث والرابع والخامس» إنما كانوا يعرضون وينصرون نوعاً من النظام البديل «تحت اسم السياسة المدنية» للأوضاع السائدة فى الجهتين السياسية والاجتماعية بدار الإسلام.
«ب» لا نعرف أول من استخدم من الفقهاء مصطلح السياسة.. لكنهم عندما استخدموها فإنهم رجعوا فى ذلك إلى استعمال المترجمين والمتفلسفين للمفرد.. وبذلك يصرِّح ابن عقيل الحنبلى عندما يقول: «ونحن نسميها سياسة تبعاً لمصطلحكم».. وليس واضحاً بعدُ، لماذا لم يستخدموا المفرد والمصطلح تَبَعاً للآثار التى رووها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأشهرُها حديث أبى هُريرة المرفوع: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبيٌّ خَلَفَهُ نبى، وإنه لا نبيَّ بعدى. وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمُرُنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقّهم فإنّ الله سائلُهُم عما استرعاهم».. والحديث خطيرٌ وهو مبكرٌ قطعاً لأنه واردٌ فى صحيحَى البخارى ومسلم «النصف الأول من القرن الثالث الهجري».. فهو يعتبر أنّ هناك سياسات نبوية -إذا صحَّ التعبير- وأُخرى خليفية أو إنسانية، والأُولى كانت خاصة ببنى إسرائيل القدامى، والثانية خاصة بالحالة بعد وفاة رسول الله «ص».. وعلى هذا النحو وأنه يعنى إدارة الدولة أو الشأن العام فهمه النووى فى شرحه على صحيح مسلم عندما قال: «أى يتولّون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاةُ بالرعية.. والسياسة «هي» القيامُ على الشىء بما يُصلحه».. أمّا ابن حجر شارح البخارى فاستنتج أمراً آخر: «قولُهُ تسوسُهُم الأنبياء أى أنهم كانوا إذا ظهر فيهم فسادٌ بعث الله لهم نبياً يقيم لهم أمرهم، ويُزيلُ ما غيّروا من أحكام التوراة.. وفيه إشارةٌ إلى أنه لا بد للرعية من قائمٍ بأمورها يحملها على الطريق الحسنة، وينصف المظلومَ من الظالم».
وعلى أى حال؛ فإنّ الفقهاء عندما بدأوا باستخدام مفرد السياسة «فى القرن الرابع فيما يبدو» ما استخدموه رأساً بمعنى التدبير السياسى وإدارة الشأن العام، بل وضعوه وبخاصةٍ الشافعية فى مقابل الشريعة بالمعنى الفقهى والقضائى.. وكان عندهم أولاً معناه: «تغليظ جناية لها حكمٌ شرعيٌّ حسماً لمادة الفساد، أو فعل شيء من الحاكم لمصلحةٍ يراها وإن لم يرد بذلك الفعل دليلٌ جزئى، أو أنها شرعٌ مغلَّظ».. ويستنتج الفقهاء فيما بعد أنها تترادفُ مع مصطلحَى التعزير والمصالح المرسلة.
إنّ الذى يبدو أنّ هذا الاستنتاج «أى أنّ السياسة خاصة بالتعزيرات» متأخِّر من أجل تخفيف الوقْع، وقد أثار استنكاراً كما تذكر المصادر، ولذلك أضافوا إليه وصف أو نعت الشرعية، أى السياسة الشرعية، كما أنهم خفّفوا من وقعه من جهةٍ أُخرى عندما قصروهُ بداية على مجالات الحدود والتعزيرات وطُرُق القضاء.. وهنا يقال إنّ الفقهاء الشافعية هم الذين استنكروا استخدام السياسة فى مقابل الأحكام الشرعية الموجودة فى الكتاب والسنة، والداخلة فى صلاحيات القضاة وأحكامهم.. وقد عظّموا الأمر بحيث صارت بعض التصرفات التى يقومُ بها الوُلاةُ وقادةُ الشرطة والتى يسمونها سياسةً أو مصلحةً راجحةً فى نظر هؤلاء مُضادّةً للشريعة.. أو أنّ هناك نهجين فى الدولة: نهج الشريعة، ونهج السياسة.. ولا نعرفُ أولَ من ذكر ذلك من الشافعية، لكنّ الأَوضح ما ورد عند الجوينى فى «غياث الأُمَم»، والذى ربّما استند فى الأصل إلى قول الإمام الشافعى «إنّ التعزيرات لا يجوز أن تتجاوزَ الحدود، فمن استحقّ القطْع لا يجوز قَتْلُهُ، ومن استحقّ الجلْدَ لا يجوز صَلبُه، ومن سرق أقلّ من النصاب لا يجوز إقامةُ الحدّ عليه».. وإمامُ الحرمين يذكر وقائع من بغداد كان فيها قائد الشرطة يغلى الذين تكرر إجرامُهُمْ فى القُدُور.. وهو يستنتج «وابن الجوزى الحنبلى أيضاً» أنّ الذين يفعلون ذلك من الوُلاة إنما يتبعون سَنَن الأكاسرة والملوك المنقرضين، ويعتبرون أنهم أكثر معرفةً من الله ورسوله بكيفيات التأديب وردع المرتكبين! إنّ هذا النقاش الذى دار فى القرنين الرابع والخامس بين الفقهاء، أى الشافعية من جهة، والحنابلة والمالكية من جهةٍ أُخرى، يبدو فى ظاهره نقاشاً فى أمرين اثنين: كيف يمكن تحقيق العدالة والمصلحة معاً، ومن الذى يحدّد ذلك القضاءُ أم موظفو الدولة- ومدى حرية السلطة فى التصرف عندما يتعلق الأمر بوجود نصٍ أو حُكْم شرعيٍّ أوعدم وجوده.. وفى الظاهر أيضاً أنّ الاختلاف كانت له أُصول فقهية وقانونية ليست لها علاقة مباشرة بالمسائل السياسية والعامة.. فالأحناف لديهم أصل الاستحسان، والمالكية والحنابلة لديهم أصلُ المصلحة ويمكنُ لهم التوسُّع فى اعتبارهما، وما كانت لدى الشافعية إحدى الإمكانيتين باعتبار أصولهم للاستنباط والاجتهاد حتى مطالع القرن الخامس الهجرى.. إنما حتى لو بقينا فى البُعد القانونى والفقهى للإشكالات الحاصلة: مَنْ هو صاحبُ الحقّ فى تكييف العقوبة أو إيقاعها، هل هو القُضاءُ وحده، أم يشارك فى هذا الحقّ أهل السلطة وموظفوها عند الحاجة أو المصلحة؟ الشافعية كانوا يريدون أن يتمَّ ذلك كلُّه أمام القضاء، بينما قبل الفقهاء الآخرون أن تتولَّى السلطة على الأرض إيقاع التعزيرات، والتى قد تتجاوز الحدود سياسةً عند الضرورة.. ويقطع الجوينى الشافعى فى الأمر أخيراً بالقول: «وإذ قضيتُ من هذا الفصل وطرى فأقول بعده: لستُ أرى للسلطان اتساعاً فى التعزير إلاّ فى إطالة الحبس».. بينما كان الفقهاء الآخرون يرون إمكان التوسع فى التعزيرات، ويعتبرونها «سياسةً شرعية»، لكنهم ظلّوا يعطون أنفُسَهُم حقّ الرقابة. والاسبوع القادم نكمل.
…………..
(2)
لنمض إلى ما وراء تفاصيل الاختلاف الفقهى بشأن علائق السلطات بالقضاء، ومن خلاله بالشريعة.. فلم يكن الجوينى وحده الذى تحدث عن «سَنن الأكاسرة».. ثم إنّ تلك التفرقة التى ما سلّم بها الجميع بين نهج الشريعة ونهج السياسة، تنضوى على إحباطٍ عميقٍ أمام الطبيعة الدهرية والدُنيانية للسلطة أو الدولة.. وهذه مسألةٌ تتجاوز بكثير مخالفة بعض الوُلاة لأحكام الشريعة، أو تجاهُلهم للقضاء.. وهذا الإدراك المقبض ما أمكن التخفيفُ منه باستعادة ذكريات النبى والراشدين، واستحثاث السلطات على اتّباعها.. ولذا ما كان بدون دلالة صيرورة الفقهاء بعد تردد إلى الاعتراف بالاختلاف بين النهجين: السياسة النبوية أو الشرعية والسياسة الملكية.. فتحدث الماوردى متأثراً بكتب الأخلاقيات الفلسفية عن مهمتين للإمامة: حراسة الدين وسياسة الدنيا.. والسياسة غير الحراسة.. ثم تحدث عن «أدب الشريعة» و«أدب السياسة»: «فأدب الشريعة ما أدّى الفرض، وأدبُ السياسة ما عَمَرَ الأرض»! ولذلك سُرعان ما تجاوز الفقهاء تعريف السياسة بأنه تغليظٌ للعقوبة، وإلى اعتباره نهجاً مستقلاً وسائداً فى كل الدول، ولا بد من الاستجابة له بطرائق أُخرى غير الإنكار.. يقول الطرطوشى وهو فقيهٌ مالكيٌّ بارز ومن كُتّاب نصائح الملوك؛ فى كتابه الفقهى الوعظى المسمَّى «سراج الملوك» إنّ السياسات قسمان وروحهما العدل وإن تفاوتت مقاديره ومقاييسه: سياسة نبوية، وأُخرى اصطلاحية.. فالسياسة النبوية نهجها نهج العدل الإلهى وقد عرفها الناس أيام دولة النبى فى المدينة.. وأما الدولة ذات السياسات الاصطلاحية، فيُشترط فى القائمين عليها تطبيق ما يُشبه العدل الذى فى متناول الناس من «أهل الحكم والحلم الذين يضعون الضوابط والقوانين وفق اجتهادهم».
لقد سبق الفقهاء إلى هذا الاعتراف الفاصل بين المجالين فريقان من الكتاب والمؤلّفين غير المتفلسفين العاملين للنموذجين اليونانى والساسانى.. الفريق الأول هو فريقُ كُتّاب نصائح الملوك.. وهذا جنسٌ أدبيٌّ كلاسيكى سارع عديدون منذ ابن المقفَّع إلى الكتابة فيه تحت عنوانين: «ضرورة السلطة، أيِّ سلطة للمجتمع البشرى ومن هنا يأتى عِظَم شأن الملوك – وضرورة الالتزام بالعدل لبقاء المُلْك، واحتمال الناس».. أما الفريق الثانى فهو فريقُ الأخلاقيين الذين قالوا أيضاً بدهرانية السلطة، لكنهم تحدثوا طويلاً عن ضرورة الالتزام بالقيم الأخلاقية وفى طليعتها العدل.. ووصل الأمر أخيراً إلى ابن خلدون الذى تحدث صراحةً عن «طبيعة المُلْك»، وقسّم الدول إلى ثلاثة أنواعٍ أو أقسام: المُلْك الطبيعى، والمُلْك السياسى، والخلافة أوالمُلْك الدينى أو الإسلامى.. ويُناظرُ ذلك التقسيم الثُلاثى للحكومات لدى أفلاطون وأرسطو: رئاسة الأفاضل (= الخلافة)، ورئاسة الكرامة (= المُلْك السياسي)، ورئاسة الخِسّة الفارابية(= المُلْك الطبيعي).. ولأنّ المدينة الفاضلة بحسب هذه القسمة تؤول أو آل التصور إلى يوتوبيا لن تتحقق (طوبى الخلافة بحسب عبدالله العروي)، ولأنّ المُلْك الطبيعى بسبب توحشه مؤدٍ لخراب الاجتماع الإنساني؛ فإنّ الذى يبقى هو المُلْك السياسى أو الوسط الذهبى بين الإفراط والتفريط!
كيف اعترف الفقهاء (والماوردى من الشافعية) بالانفصال بين نهجى الشريعة والسياسة، وكيف حاولوا رغم ذلك المُلاءمة بينهما، دون أن يزول تذمُّرُهم، ودون أن تزولَ لدى بعضهم الشكوك فى الطبيعة الدهرانية للسلطة؟
نظرية السياسة الشرعية: وضع ابن عقيل الحنبلى فى كتابه: «الفنون» فصلاً بعنوان: «فى العمل فى السلطنة بالسياسة الشرعية» أورد فيه للمرة الأُولى لدى الفقهاء تعريفاً للسياسة هذا نصه: «السياسةُ ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعْهُ الرسول صلى الله عليه وسلّم ولا نزل به وحى».. وهكذا انتهى التردد لدى الفقهاء فى معنى السياسة وهل هى تغليظُ العقوبة وحسْب، أم أنها تتعلق أيضاً بإدارة الشأن العام القضائى والسياسى.. وبذلك جرى الاعتراف بسياسات السلطنة -كما قال- باعتبارها سبيلاً أيضاً لتحقيق العدالة حتى إن لم تستند إلى نصٍ قرآنى أو نبوى أو حكمٍ فقهى.. وإنما العبرة بالمقاصد والغايات والمآلات.. بحيث يؤدى ذلك التصرف السياسى إلى صلاح حال الناس، وإبعادهم عن الفساد.. لقد ظهرت الحاجةُ إلى «السياسة» لبروز عُوارين: التقصير من جهة فريقٍ من الفقهاء الناجم عن تضييقهم لمجالات العمل الفقهى والحكم الفقهى، وبالتالى التقصير فى تمكين الاجتهاد الفكرى والفقهى والقضائى من تحقيق العدالة.. والعُوارُ الآخرُ استغلال طائفة من الوُلاة والسياسيين للتقصير الفقهى فى تجاوز الفقه والشريعة معاً حتّى «سوّغت من ذلك ما يُنافى حكم الله ورسوله».. وقد فتح اعتراف ابن عقيل بشرعية السياسة والعمل السياسى الأُفق لدى الفقهاء فى عدة اتجاهات: الاعتراف بوجود مجالٍ مشتركٍ يتعاون فيه الفقهاءُ والساسة لتحقيق العدالة والصلاح الاجتماعى، بدلاً من الاستمرار فى الجدال بين الفقهاء أنفسهم من جهة، وبين الفقهاء وسياسيى «السلطنة» من جهةٍ ثانية.. فزمنُ ابن عقيل، ومن قبله إمام الحرمين، هو زمنُ السلطنة السلجوقية، التى غلبت على عاصمة الخلافة بعد انحسار البويهيين.. والسلطنةُ سلطةٌ دهريةٌ صريحة، وإن استظلّت شكلاً بالخلافة العباسية.. وما كان إمام الحرمين الجوينى منطقياً فى استمرار اعتراضه على «حكم السياسة» تبعاً لمذهبه الفقهى الشافعي؛ وخاصةٍ أنه أدرك المشكلة الحاصلة فى «شرعية» الدولة منذ ظهور السلطنات، ومن أجل ذلك أَلَّف كتابه الشهير «غياث الأُمم فى التياث الظُلَم».. والظُلَم التى قصدها إمكان انتفاء الشرعية مطلقاً على فَرْض فقد الأئمة الكُفاة (= الخلفاء)، وفقد الفقهاء المجتهدين.. وهذا احتمالٌ بالغُ الهول، لأنه قد يعنى انتهاء دولة الإسلام، وربما زوال الدين! وقد رفض الجوينى فى كتاب الأزمة هذا موقف زميله ومعاصره الفقيه الشافعى الكبير أبى الحسن الماوردى صاحب «الأحكام السلطانية» الذى اعتبر «الشرعية» مستمرةً ومتحققةً بالخلافة والسلطنة معاً استناداً إلى استمرار الأمة والجماعة والدين، وإلى الاعتراف المتبادَل بين الخلافة والسلطنة.. وقد لمَّح الجوينى إلى إمكان الاستغناء عن الخلافة بأصحاب الشوكة الجُدُد دون أن يجرؤ على المُضيّ بالأمر إلى نهاياته؛ فى الوقت الذى ظلَّ يُنكر فيه مشروعية «سياسات» السلطنة على سبيل الاستقلال، ليس عن الخلفاء، بل عن الفقهاء حَمَلة الشريعة.. وقد رأينا أنّ الماورديَّ ألمح إلى ذاك الاعتراف المتبادَل عندما تحدث عن أدب الشريعة (الذى يحفظ الفرض، أى الشأن الدينى والتعبدي)، وأدب السياسة (الذى يعمُرُ الأرض).. كما أنّ الطرطوشى المالكى تحدث بعده عن السياسة النبوية، والسياسة الاصطلاحية أو التى يتلاقى ويتعارف الناسُ على القبول بها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.