يشهد عالم اليوم تلاشي نظام الاستبداد والطغيان في شكله الكلاسيكي، والقائم على خنق كل شيء عبر ديكتاتورية سافرة لا تسمح بإختلاف الرأي حتى ولو شكليا أو صوريا. ورغم وجود، ربما مثال أو اثنين لذلك النظام في عالمنا المعاصر، إلا أن العالم، ومنذ حقبة النصف الثاني من القرن العشرين، شهد تحورا وتحولا في بنية هذا النظام نحو تبني المزيد من الانفتاح والديمقراطية، لكن في حدود الشكل والصورة فقط، أي الإبقاء على طابع النظام الاستبدادي، ولكن بصبغة مخففة ناعمة الملمس، حيث يسمح لك بالصراخ كما وكيف ما شئت، ما دامت النتيجة هي فقط سماع رجع صدى صوتك! لكن رياح التغيير تجتاح العالم، مندفعة بكل قوة لتقتلع ظاهرة الاستبداد والطغيان ودفنها في مقبرة التاريخ، ولتذري في بقية أرجاء الكون بذور لقاح زهرة الحرية والديمقراطية حتى تنبت شجرة وارفة الظلال، تستظل بها البشرية فوق كل أرض وتحت كل سماء. هذه هي سمة العصر. وهي سمة أشاعت الذعر والهلع في كل أنظمة الاستبداد “الملطف” المتبقية في العالم في إنتظار غروبها الآفل. هذه الأنظمة، وفي سعيها الدؤوب للحفاظ على مصالحها ووضعها المميز، والمهتز في آن واحد، ظلت، وفي أي زمان ومكان، تستخدم بكثافة عالية عشرات الأنواع من مساحيق التجميل، السياسية والقانونية، بما في ذلك توظيفها لعلاقاتها الاقتصادية مع الدول المستثمرة في أراضيها، بهدف إخفاء طابعها الاستبدادي ونشر صورة الدولة العصرية، دولة المؤسسات التي تحترم قيم الديمقراطية وحقوق الانسان. لكن كل هذه المحاولات التجميلية، ظلت تصطدم بالعديد من الأسئلة المحورية الشائكة، ومن بينها ثلاثة أسئلة مفصلية، تشكل في نفس الوقت جوهر الأزمة الخانقة والمستفحلة في هذه الأنظمة. السؤال الأول يتعلق بشخصنة الدولة وكل اجهزتها السياسيه والقانونية والنظامية…الخ، بحيث يتم الدمج بين الدولة والوطن والحاكم، حزبا كان أم فردا، وما يترتب على ذلك من تآكل مستمر ومضطرد لكل هذه المكونات، وبحيث يتم السعي لتطويع الواقع قسرا وبأية صورة ليتطابق مع مفهوم أو عقيدة الحاكم، مثلما كان يفعل بروكست، وفق الأسطورة الإغريقية، عندما يصطاد ضحاياه من عابري السبيل ويضعهم على سريره. فمن كان اطول من السريرتقطع اطرافه، ومن كان اقصر منه تشد اطرافه ليصبح على مقاس السرير. والسؤال الثاني يتعلق بأزمة دولة القانون حيث تبدو الدولة وكأنها خارج نطاق مفهوم سيادة القانون. فهي، وفي سياق الاستخدام المفرط لمساحيق التجميل، تسعى لتوفير الصبغة الشرعية والحماية القانونية لكل ممارساتها وما يتعلق بمصالحها ومصالح الفئات الاجتماعية المرتبطة بها، غض النظر عن مصالح الفئات الأخرى في الدولة. فتسن ما يروق لها من قوانين وتشريعات، حتى ولو جاءت مخالفة للدستور، كقانون الانتخابات او قانون الأحزاب مثلا. وحتى هذه القوانين التي سنتها “بمزاجها”، يمكن أن تتراجع عنها أو تعدلها، في أي لحظة ترى فيها ما يعيق مصالحها، مادامت مؤسسات التشريع ومؤسسات حماية العدالة “مضمونة”، ومادام هناك سماسرة السياسة والقانون المستعدون دوما “لترقيع” القانون أو توظيف أي ثغرات في الدستور، دون أي مراعاة للمصلحة العامة، ولتوازن المصالح الاجتماعيه والسياسيه للفئات المختلفه. والنتيجة المباشرة لتصدع وإنهيار مفهوم سيادة القانون، هي تفشي الفساد والمحسوبية، بل والجريمة المحمية أيضا، في ظل غياب الرقابة والمحاسبة. وفي الجانب الآخر، تتمثل النتيجة في فقدان الثقة في الدولة ومؤسساتها، إضافة إلى تزايد الشعور بالغبن والظلم، بل والرغبة في الانتقام. أما السؤال الثالث، فيأتي كنتيجة منطقية للسؤالين الأولين. وهو يتعلق بإغتراب المواطنين، أو لامبالاتهم تجاه العمل السياسي وإبتعادهم عن المشاركة فيه. فالمواطن، يستغرق في ذهنه إصرار الحكام علي صد الأبواب أمام الرغبة في التغيير، وأمام المعارضة والرأي الآخر، عبر تزوير الانتخابات مثلا، أو إستخدام جهاز الدولة الإداري والأمني لفرض قيادات نقابية غير مقبولة للقواعد، أو منع المبادرة الشعبية، شبابية كانت أو نسائية أو طلابية…الخ. وذات المواطن تستغرق في ذهنه صورة الفساد وقد فاض وأنتشر مع غياب المساءلة، وصورة سوء استخدام أجهزة الدولة والمال العام لصالح المنفعة الشخصية، في حين أن الوطنيين أهل النزاهة محاصرون ممنوعون من ممارسة حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هل، ياترى، سيكون لهذا المواطن أي إحساس بمصداقية الدولة والحكم بحيث يقدم علي المشاركة الفعالة على مستوى الفعل الجماهيري؟ ولما كانت الإجابة البديهية بلا، فإن أنظمة الاستبداد غالبا ما تلجأ إلى الحلول الإدارية لملء الفراغ السياسي الناشئ من ممارساتها هي، فتدفع بالأجهزة الأمنية لملء هذا الفراغ، أو تلجأ إلى إستحداث أجهزة سياسية يقتصر دورها علي التهليل لإنجازات وهمية وخطط مستقبليه غير قابله للتطبيق، بل وتهلل للقرارات التي من شأنها زيادة العبء على المواطن، كزيادة أسعار السلع الضرورية مثلا! وأنظمة الاستبداد الحديثة، تتأسس في معظمها على نظام الحزب الواحد، صراحة أو محسنا ببعض التوابل من تعددية زائفة، أو حكومة عدد من الأحزاب الصورية “الستلايت” التي تدور في فلكه. وهي تعمل على خلق نخبة من الموالين لها، أو على الأقل غير المصطرعين معها والذين يجنون فائدة ما من ذلك. المهمة الأساسية لهذه النخبة هي الإنابة عن السلطة في أداء مهام لا تستطيع الحكومة أن تقوم بها، حتى لا تكشف عن وجهها الحقيقي. فمثلا، تظهر نخبة جديدة من رجال الأعمال صغار السن، ليس لديها سابق دراية أو إرث بالأعمال (البزنس)، تتدفق الأموال بين يديها تدفقا يثير التساؤلات والشكوك حول مصادر هذه الأموال، يسيطرون على المواقع القيادية للحياة الإجتماعية والثقافية والرياضية في البلاد. وفي تواز معها، تظهر نخبة أخرى من الإعلاميين خطها الأساسي هو دعم النظام والترويج له مستخدمة آلة الإعلام بكل تفاصيلها، وبأساليب متنوعة تشمل إبداء النصح والاقتراحات وأحيانا النقد الذي يساعد في تجميل الصورة. وفي بعض الحالات، وفي إشارة لحالة ما من الهلع أو الوسواس القهري السياسي، يشطح الحزب الواحد المهيمن، والمدمج في الدولة، إلى حد تجييش الخلصاء وعسكرتهم، بما في ذلك أبناء القبيلة والأسرة، لحمايته وضرب خصومه بطرق وأسايب تعف وتشمئز الشرطة وقوات الأمن التقليدية عن القيام بها. وفي الجانب الاقتصادي، يوفر النظام للنخب الداعمة له، قدرا من الحريات والتسهيلات المصرفية وغيرها، مقابل ما تقوم به من مجهود لإجتزاب رؤوس الأموال الأجنبية، أو الترويج لمشروعات من نوع إنشاء الكباري أو إفتتاح معرض تجاري، وكأنها قمة الإنجاز في التنمية. ولما كان توالد النخب الداعمة للنظام محدودا ومعتقلا في أقبية التسلط والأنانية، سنجد أن الأغلبية المحرومة من أبناء الشعب بعيدة عن هذه التوليفة المصطنعة والزائفة في حراك العمل والإنتاج، آثرة الإحتفاظ بالكرامة واليد النظيفة. إن هذا الشكل الزائف للديمقراطية، لا يشبع الذات الطامحة لحياة أفضل. كما إن العيشة الباذخة المترفة للنخب الحاكمة والموالية لها، تثير إشمئزاز الشارع. ويوم بيوم والأخبار تترى…. وهكذا، في ظل أنظمة الاستبداد والشمولية، تتسع الفجوة بين المواطنين والنزوع إلى المشاركة في العمل السياسي المباشر. وغالبا ما تجد الأحزاب المعارضة لهذه الأنظمة صعوبة حقيقية في استنهاض المواطنين للعمل السياسي وفق الأساليب التقليدية المعتادة. بل وقد تفاجأ هذه الأحزاب بأن الجماهير لم تعد تستجيب لنداءاتها المتكررة، وكأنها، أي الأحزاب، فقدت قدراتها الإلهامية والتحريضية تجاه الجماهير. لكن من الخطأ تماما تصور أن إبتعاد الجماهير عن الفعل السياسي المباشر، في ظل انظمة القمع والشمولية “الحديثة”، هو ابتعاد مطلق ونقي تماما من شوائب الحراك السياسي. فمن وراء الركود وحائط اللامبالاة السياسية، كانت تختمر نطفة وعي جديد، أخذت تنمو وتتخلق، تتغذى عبر حبل سري من تطورات الحالة السياسية للواقع، فتصطدم بقسوته وشروره، وتتركز فيها الاجسام المضادة له. وقطعا كانت تتدحرج في تلك النطفة جينات واقع نضالي مضى. ملاحظتان هنا تستدعيان التوقف حيالهما: الأولى، أن نطفة الوعي ظلت تنمو في نفس الوقت الذي ظل فيه حاملها ينمو، مولودا ثم صبيا فشابا في ظل ذات النظام. والثانية، كانت النطفة تحمل كل ما يؤكد أنها حين تكتمل ستنتصر!! تجربتا تونس ومصر هما خير من يشرح لنا ذلك: نالت تونس استقلالها في العام 1965. وخلال ال 46 عاما الماضية، حكم تونس حزب واحد ورئيسان. وعلى الرغم من وجود أحزاب عديدة، وصحف متنوعة، وحياة عصرية، ظل طابع الحكم هو الاستبداد “الملطف” تحت هيمنة الحزب الواحد. وفي اللحظة التي نضجت فيها نطفة وعي التغيير وإكتمل نمو حاملها، انفجرت ثورة الشباب التي أطاحت بالديكتاتورية. ولأكثر من أربعين عاما، ظل الناس ينظرون إلى الشعب المصري بإعتباره نموذجا لحالة الخضوع للإستبداد وحالة الزهد في العمل السياسي المباشر. وعند بعض أصحاب المخيلات القاصرة، وهم للأسف كثر، هو فقط شعب الفهلوة والشطارة، شعب السينما والمسلسل وليالي الطرب، وشعب النكتة والقفشات الضاحكة في مواجهة الهم والنكد والكبت السياسي. إلى أن جاءت لحظة الميلاد…لحظة الفرح الكبرى، فإذا بأكثر من مليون ناشط سياسي، وجلهم، إن لم يكونوا كلهم، من الشباب، يحتلون شوارع مصر، ويهتفون بصوت واحد يطالب بالتغيير والكرامة والديمقراطية. قطعا ليس هذا بالفعل العفوي اللارادي، ولكنه أيضا ليس نتاج سنوات من التخطيط على الورق. هو نتاج نفس تلك الظاهرة..، نطفة الوعي التي ولدت من أعماق المعاناة والكبت، وظلت تنمو في وجدان الشعب المصري وهو يعيش إحساس القهر والهدر، وينمو معها حاملها من جيل الشباب الذي انفجر في ثورة عارمة، تجعلك في لحظة ما تتخيل وكأنك ترى مشاهد جديدة لثورة قديمة…الثورة الفرنسية! …. وتجعلك تهتف مغنيا معهم: مهما هم تأخروا …. فإنهم يأتون باقة أنبياء.. ليست لهم هوية …. ليست لهم أسماء من حزننا الكبير ينبتون…. ومن شقوق الصخر يولدون. (نواصل) د. الشفيع خضر سعيد