السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التغيير وقيد العقل الرعوي
نشر في حريات يوم 07 - 09 - 2016

يقول المفكر البريطاني، جون غراي إن مسار التاريخ ليس خطيًا، أي؛ أنه لا يسير، في جملته، في خط صاعد، من الأدنى إلى الأعلى، أو من الحالة "المتخلفة" إلى الحالة "المتقدمة"، وفق ما هو سائد في فهوم الناس، منذ قرون طويلة. يرى غراي أن حركة التاريخ حركة دائرية، كحركة الفصول؛ صيفٌ، فخريفٌ، فشتاءٌ، فربيع، وهكذا دواليك.وقد أوضح غراي هذا المفهوم في كتابه الممتع، المثير للجدل، "صمت الحيوانات: حول التقدم وغيره من الخرافات الحداثية"، The Silence of Animals: On Progress and other ModernMyths. وفقًا لغراي، فإن التاريخ هو عبارة عن أحوال تتقدم، ثم لا تلبث أن تعود القهقري.
يفتح مفهوم غراي هذا، الباب واسعًا لمراجعة بعض من المفاهيم الحالمة التي رسخها فكر الحداثة. فعلى سبيل المثال، حين انهارت الشيوعية ارتدت يوغسلافيا عن مفاهيم الشيوعية وأمميتها، بل ارتدت حتى عن ما يجعل الدولة القطرية دولةً متماسكة، فتحولت، عبر حروب طاحنة، إلى دويلاتٍ صغيرةٍ، أساسها الأصل العرقي. هذا يعني، ضمن ما يعني، أن تجاوز القبلية، وتجاوز الطائفية عبر ممسكات الحداثة، لا يتم، وبالضرورة، في كل سياقٍ على نسق واحد، وأن القبلية لا تزال حية، رغم الايديولوجيات ورغم مفاهيم الحداثة ورغم تغير علاقات الانتاج وتقدم البنى التحتية.
يستطيع أي قائدٍشعبويٍّ مفوّهأن يشحن الجماهير، ويقود أمةً بكاملها إلى حتفها، كما فعل هتلر. أو أن يقودها إلى قبلية عنصرية بدائية بالغة الشراسة والبربرية، كما فعل ميلوسوفيتش، أو إرجاع كل أحوال البلاد إلى قبليةٍ فجةٍ كما فعلت الانقاذ. أو إلى تعظيمٍ وتهليلٍ للتجزئة، رغم مخاطرها البيِّنة، كما طبلّت وهلّلت صحيفة "الانتباهة" للانفصال، فتبعها جمهورٌغفير،ٌ من ضمنه رجال الحكومة أنفسهم.
سبب هذه المقدمة القصيرة المبتسرة، هو محاولتي تقديم إضاءةٍ لجدلية العقل الرعوي، والعقل الحضري المديني، وهي جدلية ذات تجلياتٍ واضحةٍ في مسار التاريخ الإنساني.وهي أوضح ما تكون في التجربة السودانية عبر القرنين المنصرمين.
جلبت الخديوية نظاما حداثيًا للسودان، ولكنه كان نظامًا غاشمًا باطشًا، ما لبث أن اقتلعته الهبة المهدوية الرعوية، التي ما لبثت، أن استحالت إلى فوضى عارمة. ثم جاء البريطانيون وأعادوا تأسيس التحديث من جديد ودفعوا به، من حيث البنى القانونية، والسياسية، والاقتصادية، إلى أفقٍ أعلى من سابقه. ولكن الاستقلال جاء بهبةٍ رعويةٍ جديدةٍ، تمحورت منذ بدايتها حول كتابة "دستور إسلامي"، لا يعرف الداعون له عنه أكثر من اسمه وصفته "الاسلامية" المزعومة. وأستهلك الجدل العقيم حول هذا الدستور المبهم، طاقات الجميع، على مدى تجاوز الثلاث عقود من الزمان. ثم جاء الرئيس جعفر نميري، ليقفز بهذا الموضوع الذي لا علاقة له بالتنمية أو بترفيع حياة الناس، فقفز قفزة أخرى في الظلام، أكبر من سابقاتها، فكانت قوانين سبتمبر التي أعادت حراك التحديث عقودًا إلى الوراء. بل، هيأت الملعب للدكتور حسن الترابي وقبيله ليأتوا بأكبر هبةٍ رعويةٍ في تاريخ السودان الحديث، من حيث تعقيد تركيبها، وأخطبوطية أذرعها، وحجم إطفائها لنور العقل والمعرفة، وإماتتها للوجدان الجمعي، فأوصلت البلاد إلى ما نراه ظاهرًا أمام أعيننا، اليوم، في كل شيءٍ.
أمامن أمثلة الماضي البعيد،فيمكننا أن نذكر، أن القبائل الجرمانية الرعوية تمكنت من القضاء على الإمبراطورية الرومانية. كماقضت قبائل المغول الرعوية على الإمبراطورية الإسلامية في حقبتها العباسية.وأرهق"النوبا" السود، وفق تعريف أحمد الياس حسين، حضارة "النوبة" السمر في وادي النيل الأوسط في السودان. كما تسببوا في مشاكل لدولة أكسوم الفتية الناشئة حينها، ما جعل امبراطورها القوي،عيزانا، ينزل من هضبته، ويكتسح السهل النيلي، ب "نوباه" السود و"نوبته" السمر، ويدق آخر مسمار في نعش تلك الحضارة الانسانية الرائدة.أيضًا، أدى تدفق الرعاة العرب، بعد ذلك بقرون،إلى تحويل السودان من بيئةٍ حضرية، مقتدرة في الفعل الحضاري، إلى بيئة رعوية.فارتدت البيئات السودانية المختلفة من بناء الحجر ذي النسق الهندسي الراقي، إلى أبنية الطين والقش. وبقيتالآثار المعمارية الباهرة للفترة الكوشية، غريبة وسط هؤلاء الذين فشا فيهم العقل الرعوي، فظلوا يظنونها،حتى وقتٍ قريبٍ جدًا، صروحًامن صنع الجن.
بنهايات القرن الخامس عشر الميلادي وبداية القرن السادس، انضم الرعاة العرب الوافدون إلى السودان إلى المحليين الذين فشت فيهم الرعوية، وطفقوا يناوشون الممالك المسيحية الإسلامية المستقرة حتى أضعفوها. ونجح تحالف منهم مكوّنٌ من عرب القواسمة والفونج، في تدمير مملكة علوة المسيحية، ومحو بقايا التحضر التي كانت قد استُنقذت، هونًا ما،من الغزوالأكسومي.جرت تسوية سوبا، عاصمة دولة علوة، بالأرض، وأصبح "خراب سوبا" حادثةً تاريخية يُضرب بها المثل.ولم تستفق الحضارة الكوشية السودانية العريقة، عالية النسق،من تلك فقدانها وعيها، إلى يومنا هذا.وهي استفاقةٌ نأمل أن تحدث في المستقبل القريب.
أيضًا، قضى الرعاة، الذين جيشتهم الوهابية في إقليم نجد، بشعاراتٍ بالغةِ البساطةِ والسطحية،حول مفهوم التوحيد، ضد حكم الأشراف في الحجاز، وضدسلطان العثمانيينوالخديويين التابعين لهم.فسيطر التدين الرعوي، حتى يومنا هذا، على الجزيرة العربية من أقصاها إلى أدناها، إلا قليلا. بل وأنتج هذا التدين الرعوي الممتزج بالسلطة الزمنية وبأموال البترول، ولا ويزال ينتج، من المهددات، من شاكلة "القاعدة"و"داعش" و"طالبان"، ما أصبح يرعب ويزلزلكيان كل إنسانٍ مشفقٍ على مستقبل الحضارة الإنسانية.
يقول المؤرخون إن التصدع الداخلي هو ما ساعد القبائل الجرمانية في القرن الخامس الميلادي على الاستيلاء على روما العاصمة، بعد قرون طويلة من الصراع المتقطع. فبنية العقل الرعوي، إنما تتسلل من ثقوب البنية الحضارةالقائمة، حين تهزل وتنحل قواها، فتسيطر على مركزها. ويضيف المؤرخون أن من بين أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، الفساد الذي استشرى وسط المسؤولين، وحالة اللامبالاة التي اعترت السكان، إضافةً إلى ما صاحب ذلك من تفككٍ اجتماعيٍّ كبير. ويضيف المؤرخون أيضًا، أن سنوات الإمبراطورية الرومانية الغربية الأخيرة، شهدت عزوفًا كبيرًا وسط المواطنين في الالتحاق بالجيش، ما أضطر الحكام إلى استئجار أجانب لمهام الدفاع عن الامبراطورية. غيرأن هؤلاء الأجانب الذين جرى استئجارهم للعمل في الجيش الروماني،كانوا ضعيفي الولاء لمخدِّميهم، فهم لم يكونوا يخدمون بسبب دوافع وطنية، وإنما بسبب المال. وحين توقف تدفق المال إلى جيبوهم،تباطأوا في واجبات الدفاع عن الإمبراطورية، فسقطت. وهكذا ترتد الأمور، في منعطفاتٍ بعينها، من التقدم إلى التأخر، ومن النظام إلى اللانظام.
استخدمت الإنقاذ، مؤخرًا، مليشياتٍقبلية، لكي تبقي على نظام حكمها. بعض هذه المليشيات محليّ، وبعضها الآخر، مستجلبٌ من أقطار الجوار. بهذه المليشيات تمكنت الإنقاذ، أو كادت، أن تقضي على حركات دارفور المسلحة. كما أخذت هذه الميلشيات تمثِّل ضغطا متزايدًا على الحركة الشعبية قطاع الشمال. لكن ما لا تعلمه الإنقاذ، هو أن هؤلاء الذين استخدمتهم في إضعاف الحركات الدارفورية،وتحاول بهم دحر الحركات المسلحة في جبال النوبة والنيل الأزرق، أخطر عليها، وعلى مستقبل وحدة القطر، من الحركات المسلحة العاملة في كل هذه المناطق.
ويمكن أن نأتي بمثالٍ شبيه. فقد ظن الأمريكيون، نتيجة لقصور دراساتهم المتعلقة بأحوال الشعوب، وعدم احتكاكهم بهم، أن بإمكانهم طرد الشيوعية الروسية التي زحفت على أفغانستان، عن طريق ايقاظ النزعة الدينية الجهادية وسط الشعب الأفغاني. تعاون الأمريكيون مع السعوديين، وهكذا وجدالتفكير الديني الرعوي الوهابي، موطئ قدمٍ له في أفغانستان. خرج الروس من أفغانستان بسبب المقاومة الشرسة للمتدينين السلفيين من أفغان، ومن ما سمي ب "الأفغانٍالعرب". بعثت تلك الخطة الأمريكية،غير الحصيفة، غولاً رعويًا نائمًا من ثباته، وملكته آلةً عسكرية، وخبرةً عسكرية، وكثيرًا من الأموال. فلم ستقر أفغانستان، منذ سبعينات القرن الماضي. بل أخذت هذه البنية الدينية السلفيةالرعوية، تفرخ من صور الإرهاب، عبر العالم، ما جعل كلا من أمريكا وأوروبا واقفتين على أمشاط الأصابع، حتى يومنا هذا.
يمكن القول الآن، أن ما جرى للإمبراطورية الرومانية، في غابر العصور،يجري الآن في السودان، على ذات النسق، رغم الفوارق الكبيرة بين الحالتين. فأهل الانقاذ، الذين تفرقوا، مؤخرًا، شذر مذر، أضحوا بلا قدرة على التفكير السوي، أو التحليل الموضوعي. فحالة الانقاذ، وعموم الدولة السودانية، أشبه ما تكون الآن بحالة سنار، عشية الغزو الخديوي لها. فالتفكك الداخلي الذي أصاب الدولة السنارية من الداخل، جعلها لقمةً سائغةً للقوة الأجنبية، فكاناحتلال اسماعيل بن محمد علي باشا لها، عام 1504، أشبه ما يكون بنزهةٍعند الأصيل، على شاطئ النيل الأزرق. إذ خرج سلطان سنار في كامل قيافته وأبهته مستقبلاً الغازي الأجنبي خارج أسوار المدينة،وسلمه مفاتيح المدينة ومقاليد الحكم في سلطنته المنخورة من الداخل،وهو مطأطئٌ رأسه.
صوّر جاي أسبولدينق حالة سنار في سنواتها الأخيرة في كتابه "عصر البطولة في سنار" فقال: "تقمصت الطبقة الوسطى الجديدة، على سبيل المثال، شخصيةً عربيةً، ومارست النظام الأبوي، وتعاملت بالنقود، ومارست في معاملاتها التجارية قوانين الشريعة الإسلامية، واستأثرت بالصدقات، واشترت العبيد، وحددت علاقات التبادل، وقيدت الرعايا الأحرار بالديون، وفرضت مفاهيمها القانونية والأيديولوجية على الحكومة، ثم طالبت بالإعفاء من كل الالتزامات تجاه الدولة، وخصّتنفسها بمجموعة متنوعة من المهام التي كانت، إلى حينها، تقوم بها الدولة أو طبقة النبلاء، وأهمها إدارة القضاء والضرائب". (انتهى نص سبولدينق). ومن ينظر إلى هذا التوصيف الحاذق لهذا الأكاديمي الضليع، يرى، وبوضوح شديد، أن هذا هو ما جرى وظل يجري منذ أن وضع الدكتور حسن الترابي وقبيلهالدولة السودانيةفي قبضة المنظومة الرعوية الفالتة والعقل الرعوي الذي بعثوه.
بنية العقل الرعوي التي رعاها الإسلاميون، هي التي أخرجتهم من الحكم واحدًا تلو الآخر. وهكذا أصبحت مقاليد الأمور في يد قلّةٍقليلة تدير البلاد أمنيًا، ساندة ظهرها إلى أخطبوطٍرعويٍّنفعي، ناصر كل الأنظمة، على اختلافها منذ الاستقلال، وحال بينها جميعًا، وبين أن تعمل عملاً نافعا. الآن، تحولت الدولة السودانية، إلى مجرد دولة جبايات.فأرهقت كاهل الرعايابالأتاوات، وأسرفت في تقييدهم بالديون. بل سلبتهم أهمَّمقومات حياتهم، التي عاشوا عليها منذ الأزل، وهي الأرض. فما يسمى "المجلس الوطني"، وما تسمى"الجمعيات الخيرية"، وأعني هنا تحديدًا، من تحمل منها صفة "الإسلامية"، وما يسمى "المحليات"، وما تعج به الحواري والدساكر مما يسمى"لجان شعبية"، وما تعج به المكاتب الحكومية من امبراطوريات صغيرة للرشوة والفساد، ليست، في مجموعها،سوى بنية العقل الرعوي الذي نخر بنية الدولة الحديثة وحولها إلى حيازاتٍ خاصة، فأضحت الدولة مجرد قوقعةٍ فارغة. يأكل هذا الأخطبوط الرعوي أموال الدولة، وأموال الناس في آنٍ معا. وما الحديث الكثير الذي دار، قبل فترةٍ، حول "أورنيك 15″، سوى محاولة بائسةٍ يائسةٍ، لا نفع منها، لضبط هذا الأخطبوط الرعوي الذي لبس جسد الدولة بأكمله وأحاله إلى قوقعة فارغة، مثلما فعلبسابقتها دولة سنار. فالعقل الرعوي يأكل الدولة،والنظام، وحكم القانون، كما يأكل السوس الجذوع. ودونكم مقدمة أبن خلدون في أحوال الغابرين المماثلة.
مثلما سقطت سنار تحت ضغط ثقلها الذاتي، سيسقط حكم الإنقاذيين،تحت ضغط ثقله الذاتي، أيضًا. والسؤال الذي يشغلني، كما سبق أن أبنت، لا يتعلق بكيفية اسقاطه فسقوطه حتمي. السؤال المهم في نظري: في أيدي من سيسقط؟ وهل سيعقب سقوطه استقرار، أم فوضى ما لها من قرار؟ من يفكرون في أن كل العلة في الحكومة، لا غير، لا يعرفونشيئا؛ لا في علم السياسة، ولا في علم الاجتماع. فهم مندفعون، ولا يختلفون في اندفاعهم، من هؤلاء الذين حكمونا منذ ما يقارب الثلاثين عامًا، فأحالوا كل شيءٍ إلى رماد.
إن الثورة الحقيقية هي الثورة التي تقف ضد الحاكم، كما تقف ضد الثائر الذي يجهل العلل البنيوية التي تعاني منها ذاته، وثقافته. فالثائر الجاهل يندفع منطلقًا من مجرد الاحساس بالظلم، مكتسبًا من هذا الإحساس، أحقيةً وسلطة أخلاقية، تجعله يطالب بالتغيير، حتى لم يعرف ما هو التغيير في حقيقته، وكيف يكون. هذا الاحساس العاطفي غير الناضج، يمنع الثائر من رؤية اشكالاته، واشكالات ثقافته، ومجتمعه، لينشغل بفعل الثورة أو الانتفاض، أو الانقلاب العسكري، ظانًا أن في ذلك كل الخلاص. لكن، بمثل هذه العقلية المتعجلة، يعيد العقل الرعوي انتاج ذاته، ويتمخض فعل التغيير لديه عن مجرد هباءٍ تذروه الرياح.
إعادة العقل الرعوي انتاج نفسه عبر فعل الثورة، هو بالضبط ما قام به الإخوان المسلمون، حين قاموا بانقلابهم في يونيو 1989. سموا انقلابهم "ثورة"، بل وسموها، "ثورة انقاذ". لم ينتبهوا إلى أنهم التصقوا بالدين التصاقًا رعويًا فجًا، أخفوا به عن أنفسهم العلل البنيوية التي تحيط بفكرهم وبممارساتهم. مطوا قاماتهم الأخلاقية القزمة، استنادًا على تعاليم الدين، وعلى التماهي الوهمي مع نماذج الممجدين من السلف الصالح، وليس اعتمادًا على معرفةٍ عميقةٍ راسخةٍ، أو كسبٍ أخلاقي حقيقي. هذا الادعاء الأجوف، هو ما فضحته تجربتهم العملية لاحقًا، فأخذوا يشيرون إلى بعضهم حين ينتقدون، ب "الجماعة ديل". لا غرابة أن انصرف الإخوان المسلمون، لحظة امساكهم بالسلطة، إلى محاولة "تربية الناس" وصبهم في ما يرونه "فضيلة". هذا على الرغم من أنهم لم يكونوا يملكون من محصول التربية شروى نقير.
خلاصة القول، إن الرعوية يمكن أن تكون دينية، كما يمكن، أيضًا، أن تكون علمانية. فمن يدعون إلى الثورة، من العلمانيين، ضيقًا برعوية الإسلاميين، يمطون قاماتهم بغير حق، ويلبسون أنفسهم، زيفًا، لبوس النقاء والتجرد، ويركبون صهوات أعلى الخيل، متقمصين السلطة الأخلاقية. هؤلاء لا يدرون أنهم يقومون بذات الفعل الرعوي، الذي قام به الإسلاميون حين قاموا بانقلابهم. فالواجب المباشر لديهم هو اشعال الثورة، وشعارهم: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". من يرفع عقيرته بالأسئلة وبضرورة المدارسة، وفحص السياق القائم فحصًا دقيقًا، والتريث، يجري اتهامه بافتعال الحيرة، بل ربما يجري تخوينه، ودمغه بأرذل الصفات. وهكذا يشترك بعض العلمانيين مع بعض المتدينين في إعادة انتاج العقل الرعوي، بالإعلاء من شأن الشحن العاطفي، والتبسيطالبئيس، و"الكلفتة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.