عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    اهلي جدة الاهلي السعودي الأهلي    أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    التلفزيون الجزائري: الإمارات دولة مصطنعة حولت نفسها الى مصنع للشر والفتنة    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عرمان : المحاربون القدامي لا يموتون ، إضاءات عابرة حول العلاقة بين فيديل كاسترو والحركة الشعبية
نشر في حريات يوم 06 - 12 - 2016


المحاربون القدامي لا يموتون
إضاءات عابرة حول العلاقة بين فيديل كاسترو والحركة الشعبية
ياسر عرمان
اما أن تحب فيديل كاسترو أو تكرهه، في الغالب لا حياد حينما يتعلق الأمر بفيديل كاسترو، في حياته أو عند مماته، يقف الناس منه على ضفتي نهر، ولكن النهر يمضي، أما عن نفسي فإني من المحبين له، ونحن هنا لا نتحدث عن ماركة من ماركات الوجبات السريعة، بل عن قضايا شائكة شغلت البشرية ولم تزل، والمثل العليا التي قاتل من أجلها فيديل وعلى راسها كرامة الإنسان والعدالة الإجتماعية والإعتراف بحق الآخرين في أن يكونوا آخرين والوقوف ضد التهميش الذي يطال مجتمعات وبلدان بكاملها في العالم الحديث والتعامل اللامتكافئ بين مختلف الدول والثقافات في عالم اليوم قضايا حية لم ينقضي أجلها.
ربما نجح أو فشل فيديل في تحقيق بعض أو الكثير من هذه الأهداف في رحلته الشائكة من سانتياغو دي كوبا وسييرا ماستيرا الي هافانا، وهاهو اليوم تأخذ جنازته رحلة عكسية من هافانا الي سانتياغو دي كوبا مثلما ذهب نيلسون مانديلا من قرية (كونو) في الترانسكاي الي كل العالم، ثم عاد جثمانه الي نفس القرية بعد رحلة عظيمة في الفضاء الإنساني، في الحالتين تظل القضايا التي قاتل من أجلها قدامي المحاربين لم تمت ومطروحة في الأجندة العالمية.
حينما كنت طالباً في المتوسطة في السبعينيات من القرن الماضي، ذهبت الي مكتبة الفجر بود مدني لصاحبها الراحل الأستاذ محمد سيد أحمد، إلتقطت كتاب الدكتور يوسف بشارة (كوبا الجزيرة التي أحببت) فأحببت أيضا تلك الجزيرة، لاحقاً إلتقينا بالأصدقاء مأمون وسهير محمد سيد أحمد في موجات العمل السياسي على إيقاع الثمنينيات، وسعدت مؤخراً بأمسية جميلة مع مأمون في زيارتي لمدني في عام 2010م في الحملة الإنتخابية، ويظل مأمون في ذاكرتي يحتل مكاناً بهياً، وفي مدينة مدني إختفت دور الإستنارة مثلما إختفت منتديات عديدة للإبداع بها بعد أن ضربها القحط وأحالها الي ربع خالي من صحراء المتأسلمين وهي مدينة مشروع الجزيرة والسكة حديد وعلي عبداللطيف، رافضاً أن يحي الضابط الإنجليزي في شوارعها، وأحمد خير المحامي، وبزوغ فكرة مؤتمر الخريجين ونضالات المزارعين وكرة القدم ومعاهد العلم وعلى الضفة الآخرى حنتوب الجميلة والخير عثمان وهو يصدح بصوته الشجي " بهديك تحياتي وبهديكِ إعجابي ، هنا فيها الآدب وفيها الشباب العامل لوطنه وما داير ثواب، تنتشر المعارف وبلدي تنالها … والهدهد علامة ومنسق نظامها… وللنيل باقية شامة وفي تقدم دواما ".
زار قرنق مبيور الثوري والمناضل والمحرر والمثقف والمفكر الضالع في الهجرات كوبا ثلاثة مرات في الفترة من 1985-1988م، باحثاً عن تدريب أبناء وبنات المهمشين ورفع قدراتهم في العلم والسياسة وتجارب الكفاح المسلح وطالباً لها حتى ولو في أمريكا اللأتينية، إلتقى فيديل كاسترو والقيادة الكوبية وقطع أرض لم يفكر في قطعها زعماء الأنيانيا في إنقلابه الفكري والمعرفي والسياسي على كل أرث الأنيانيا الداخلي والخارجي، وهو يواصل مسيرة الأنيانيا، يشاركها الغضب ولا يشاركها الرؤية أو الأهداف، فطوبى لقرنق في مسيرته وحيداً وطوبى له في عز الشتاء.
وبزيارته لكوبا وضع قرنق رجليه في أمريكا اللاتينية وثوراتها وبراكين غضبها وفتح أعين أجيال جديدة من الجنوبيين السودانيين وآخرين من مناطق آخرى في السودان على تجارب ذاك الجزء من العالم. أمريكا اللاتينية قارة ساحرة بثقافاتها وفقرائها وكتابها وثورييها وبحثها المستمر عن عالم جديد.
في زيارته الأولى عقد قرنق اتفاقاً مع فيديل لإنشاء علاقات إستراتيجية بين الطرفين لتدريب كادر من الحركة في المؤسسات السياسية والعسكرية والأكاديمية في الجزيرة، وزار جورج رسكرد عضو القيادة الكوبية مركز تدريب الحركة الشعبية الرئيسي في (بونقا) وتأكد من إمكانيات الحركة وخطها السياسي، وبدأت كوبا التعاون في مجلات مختلفة مع الحركة الشعبية، وأعطى فيديل الذي تقع أفريقيا في إحدى زوايا قلبه وتحتل موقعا من عقله أعطى الضوء الأخضر لتطوير هذه العلاقة، فكيف لا يحق لنا نحن الأفارقة أن نحب فيديل الذي حارب في خنادقنا من الكنغو الي أنقولا.
حكى لي دكتور قرنق مبيور إنه في إحدى زياراته لكوبا وعلها الأخيرة في عام 1988م إستطحبه كاسترو الي مركب في البحر وكان فيديل قد إصطاد بعض الأسماك وقدمها لضيوفه وكان هنالك مجسم للكرة الأرضية أمامه، قال كاسترو لقرنق أوصيك بأمرين الأول إن هذا المجسم الذي أمامي للكرة الأرضية إذا اتاها أي عدو من خارجها فإنها سوف تستطيع الدفاع عن نفسها بشكل أفضل، أما إذا كان العدو في داخلها فإنها لن تصمد أو ستتعاظم خسائرها، ولذا لا تجامل الأعداء الذين يتواجدون داخل حركتك، فهم آخطر من أعدائك المعلومين، والأمر الثاني لاتقتل أسرى الحرب وعاملهم بإنسانية وأشرح لهم لماذا تحارب واطلق سراحهم، فإن عادوا الي حيث ما أتوا فإنهم سيكونون في الغالب رسل لحركتكم وسيحملون رسائل صحيحة. وحدثه عن كيف يحافظ عن أمنه الشخصي وأمن الحركة وعن رحتله الي نيويورك بعد إنتصار الثورة وعن إنها كانت أكثر أيام حياته أمناً، ولماذا كان ذلك؟.
وتحدث قرنق عن عمق كاسترو وثقافته وفكره وقوة إلتزامه بقضايا التحرر في القارة الإفريقية وطلب منه كاسترو زيارة نيكارجوا ولقاء دانييل أورتيغا وقادة السندويستا وهذه قصة آخرى وزيارته التي كانت سرية لم يعلن عنها أبداً وسنتطرق لها.
حينما خلقت الكاريزما ككلمة، فإنها قد صنعت وتم تفصيلها على مقاس فيديل كاسترو، فقد اشتهر فيديل بقوة شخصيته وعارضته، فهو أيقونة النضال الثوري في أمريكا اللاتينية وأكثر الشخصيات في ذلك الجزء من العالم التي أثرت في أجزاء اخرى لاسيما إفريقيا، ومن النادر أن يصبح إنسان أسطورة في حياته ومن هذه القلة النادرة كان فيديل كاسترو، وظل طوال حياته الطويلة جاذباً للأضواء وحتى لحظة موته، كانت أحاديثه وكتاباته ذات صدى عالمي وبعضها أخذ طريقه الي المؤسسات الدولية، مثل حديثه عن إعفاء ديون العالم الثالث وتناولتتها أجهزة الإعلام العالمي، حتى مقالاته الأخيرة عن زيارة أوباما الي اليابان وكوبا وفي مؤتمر حزبه الأخير ودع رفاقه وقال لهم " إنه لن يحضر المؤتمر القادم" ونسبت إليه أحاديث كثيرة وتنبؤات حول مختلف القضايا العالمية، وقد إستمتعت قبل سنوات بقراءة مقالة له عن خطر الإعلام الإجتماعي والإلكتروني عندما يتعلق الأمر بخصوصيات المجتمعات البشرية وتأثيره على الأخلاقيات والقيم البشرية المهمة، وظل جاذبا للأضواء ، وفي عيد ميلاده ال(90) قال " لم أكن أتوقع أن أصل الي هذه السن ولم يكن ذلك بسبب أي مجهود، كان ذلك قدري، ولكني سأموت مثل الاخرين قريباً" وقد تعرض لأكثر من (638) محاولة إغتيال، وبالفعل فإن دولة كوبا وأجهزتها وحزبه قد بذلوا مجهودات لتأمينه.
في الثمانينات قامت وحدة من الجيش الشعبي بوقف باخرة في النيل كان من ضمن ركابها العضو القيادي السابق بالحزب الشيوعي السوداني العم "قبريال أشواط" والذي ذهب مع وحدة من الجيش الشعبي، وفي الطريق حينما شعر بالتعب حمله الجنود كما حكى لي قبل سنوات عديدة أحد ضباط الجيش الشعبي، وكان أحد الجنود يتحدث بلغة الدينكا، وقال للآخرين أنظر الي هذا البرجوازي الذي نحمله، ولما كان العم قبريال وهو من بور وتلك هي لغته رد عليهم بنفس اللغة أنا مبسوط لانكم أصبحتم تعرفون إن هنالك شي اسمه برجوازي، لقد أمضيت عمري محاولا أن أوضح لكم إن هنالك فقراء وبرجوازية، المهم في هذا الأمر إن جون قرنق بمواهبه المعروفة اختار قبريال أشواط بعد إنضمامه للحركة كأول ممثل لها في كوبا، وذهب مع أوائل الدفع من الجيش الشعبي اليها، وقد ضمت تلك الدفع العديدين نذكر منهم الشهيد أيزك توت ودكتور مجاك أقوت والشهيد نيون كوج والشهيد أيزك أجوير وشول ماج والشهيد ومغني كتيبة بلفم الشهير الصديق لوال شول وتوماس دواس وبيانق دينق كوال والشهيد أوغسطينو سريسو إيرو (أقوت ملوال) ووالده كان عضواً في مجلس السيادة، وأيون ألير وبيار أتيم وكير قرنق وميوم كوج ووليم كونق وبيار كوال أيون وباري وأنجي وبن أدوهو وتعبان دينق قاي وأليو أيين ومارشال إستيفن والراحل بيير أكروك وبيتر فارنجانق وآخرين كثر لا تسعف الذاكرة تذكرهم، وجلهم أصبحوا قادة للحركة الشعبية.
والأهم في ذلك إن الذين ذهبوا الي كوبا كانوا من مختلف قوميات الجنوب، وكان ذلك منسجماً مع الفكرة الأساسية للبناء الوطني وخلق قيادة من كافة القوميات، وهو ما يحتاجه جنوب السودان والسودان لإنجاز عملية البناء الوطني، وحينما يأتي تقييم تجربة الحركة وما صاحبها من صعود وهبوط ستكون هذه التجربة جزء من عملية التقييم.
بعد قبريال أشواط تولى فاقان أموم مكتب الحركة لعدة سنوات في كوبا وبعده رامبنغ كآخر ممثل للحركة في كوبا.
فيديل إستطاع تحويل كوبا من جزيرة هامشية تعج بالفقراء والمواخير وطاولات القمار للقادمين من الساحل الأمريكي الي فاعل دولي مؤثر في الحسابات الإقليمية والدولية، وحقق نجاحاً واسعاً في الصحة والعلاج والسكن والتعليم والكهرباء، وبقت المآخذ عليه ونظامه فيما يتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية، وكانت له رؤية مختلفة لكل هذه القضايا تبناها حتى الرمق الأخير من حياته، ومن الثابت لنا جميعاً إن قضايا الديمقراطية والحقوق الأساسية تقع في صلب قضايا التقدم الإجتماعي ولا غني عنها لبناء مجتمع جديد.
كان فيديل أوسع من الحياة وتمتع بالجسارة والتأثير الكبير الذي تركه امتد الي أبعد من الجزيرة التي حكمها، وأثار إنتباه أصدقائه وأعدائه، لقد كان فناراً عالياً من فنارات الثورة العالمية وأحد عمالقة السياسة في القرن العشرين، وذو موقف واضح من قضايا الجماعات المهمشة وعندما رحل أرسل الكثيرين (هشتاق) من أمريكا اللاتينية يقول "#حتى_النصر_دائما_فيديل"، وبرحيله إنطوت صفحة طويلة من الكفاح الثوري العالمي، وحينما يكتب تاريخ تحرير إفريقيا من الإستعمار فإن فصل كامل سيأتي على مجهودات كوبا وفيديل لاسيما حينما يتعلق الأمر بالجنوب الأفريقي من أنقولا وموزمبيق ونامبيا وزمبابوي وجنوب إفريقيا والكنغو، وتظل معركة (كونتي كنفالي) أحد أكثر العلامات المضيئة التي ساهمت في هزيمة نظام التفرقة العنصرية بمشاركة مباشرة من الجيش الكوبي ضد جيش الأبارتايد.
وساهمت كوبا في التدريب السياسي والأكاديمي والعسكري لآلاف الأفارقة الذي شاركوا في معارك التحرير في القرن الماضي، ولازالت لديها علاقة مع كثير من بلدان القارة الإفريقية ولابد من القول فإن كوبا لم تسعى لربح أو مغنم في إفريقيا، وهذه حقيقة ناصعة ولعل زيارة مانديلا الي كوبا وزيارة كاسترو الي جنوب إفريقيا والإستقبال الواسع الذي وجده هي أعلى نقاط هذه العلاقة، وقد وقف كاسترو كذلك مع مصر والجزائر وليبيا وغينيا بيساو وغانا. وقد شارك تشي جيفارا الصديق الحميم لفيديل كاسترو في معارك الكنقو.
تلقى الشهيد يوسف كوة مكي وواني إيقا ولام أكول تدريباً خاصاً في كوبا كأعضاء في قيادة الحركة الشعبية للمساعدة في تأهيلهم لقيادة جبهات القتال لاحقاً في جبال النوبة والإستوائية وأعالي النيل، كما تلقى العشرات من ضباط الحركة الشعبية وقادتها تدريب عسكري وسياسي، وحينما عملنا في النيل الأزرق تحت قيادة سلفاكير ميارديت تم إرسال (34) ضابطاً من الذين تلقوا تدريباً في كوبا الي النيل الأزرق، إستشهد معظمهم وربما تبقى منهم أقل من عشرة أشخاص كان من ضمنهم الشهداء والأصدقاء الراحلين مجوك ماج وجيرمان أتير ودود دنق بيل ومبوتو ميان وجوركوج برج وأنياص أبينقو، وآخرين باعدت بيننا وبينهم المسافات والزمان منهم النقيب ين بديد وشول فطوط والنقيب بابور.
ولقد كان للحركة الشعبية وجود واسع في الجزيرة وقد ذهب أكثر من 300 من الشباب نساء ورجال للدارسة الأكاديمية وتخرج أكثر من 50 منهم في الطب والتمريض يعمل بعضهم أطباء في كندا وجنوب السودان، ودرس آخرين الزراعة والعلوم والإقتصاد والآدب وكانت تلك مساهمة قيمة، وقد درست العديد من النساء الجنوبيات في كوبا، ويوجد اليوم في مدينة جوبا نادي هافانا الذي يتحدث فيه الجميع من الشباب الجنوبيين باللغة الأسبانية، ولديهم حنين لتلك الجزيرة.
في زيارته الأخيرة قام جون قرنق بمساعدة من فيديل بزيارة سرية لنكاراجوا لم يعلن عنها وقد إلتقى رئيس نيكاراجوا الحالي دانييل أورتيغا وزملائه من السندونيستا، وزيارات قرنق الي كوبا وزيارته لنيكاراجوا تستحق الوقفة عند تقييم مشروعه وإرتباطه بحركات التحرر الوطني وعمق وإتساع رؤيته حتى وصل الي أمريكا اللأتينية، ومشروعه أبعد من مشروع الأنيانيا الأولى التي كانت حبيسة ما أسميه (بالمثلث الكولنيالي) جنوب – شمال، عرب – أفارقة، مسيحيين -مسلمين في تضاد لا يلتقيان، وقيمة قرنق مبيور إنه عبر خلف المثلث الكولنيالي للدعوة للسودانوية كرابطة مشتركة بين الجغرافيا والأديان والإثنيات والثقافات، وعلى مستوى العلاقات الخارجية نسجت تلك الرؤية الصلات بينه وبين قوى ثورة إقيليمية وعالمية وربطته بقضايا عصره أنذاك.
في وداع الدفعة الثانية التي ذهبت للتدريب العسكري في كوبا وفي فندق مدام أثيوبيا في ضواحي أديس ابابا، ذكر لي الشهيد الصديق مجوك ماج ذلك الإنسان المتميز والمتوقد الذهن إن جون قرنق قد حضر مع أروك طون اروك عضو القيادة العليا للحركة وكان غير سعيد بالإتجاه الذي إتخذته الحركة داخلياً وخارجياً، وقد أخذ يتحدث عن ما يمسى بمجموعة الضباط التقدميين داخل الحركة الشعبية، وفي ذلك اللقاء ذكر مجوك ماج إن أروك قد وجه إنتقادات للخط السياسي للحركة وللتدريب في كوبا ولكن قرنق القادر على إحتواء التناقضات خاطب الضباط وإقتصر حديثه في نقطتين، إنهم يجب أن يذهبوا الي كوبا لتحقيق هدفين مهمين أن يعودوا أكثر وعياً سياسياً بالسودان والعالم وأكثر نشاطاً ومعرفة عسكرياً لأداء مهامهم في الميدان بالإستفادة من التجربة الكوبية، ذكر مجوك ماج إنهم أدركوا ماذا يريد رئيس الحركة الشعبية، وقد أشاع التدريب في كوبا أجواء جديدة في داخل الحركة، وحرك كثير من المياه الراكدة وساهم في توسيع نظرة الكادر لكثير من القضايا وأمدت كوبا الحركة الشعبية بمعدات عسكرية وساهمت في بناء قدرات الشباب والقدرات السياسية والمادية بالجيش الشعبي، وقد إنقطعت العلاقة بعد التحولات الواسعة التي جرت في تسعينيات القرن الماضي بما في ذلك إنقسام الحركة الشعبية والتغيرات الإقليمية والدولية، وأذكر إنني حملت رسالة شفوية مفصلة لنائب وزير الخارجية الكوبي الذي زار أسمرا في بدايات الألفية الثالثة من الدكتور جون قرنق لفيديل كاسترو، وقد كان جون قرنق عازماً على إستعادة هذه العلاقة بعد إتفاقية السلام لاسيما في التعاون في مجالات الصحة والتعليم .
كذلك كان هنالك مجموعة من الأطباء الكوبيين الذين عملوا على تقديم الخدمات الصحية للجيش الشعبي والمواطنيين في مركز تدريب بلفم حتى نهاية الثمنينيات، إن العلاقة بين كوبا والحركة الشعبية هي علاقة تحتاج لتوثيق وللكتابة عنها للأجيال القادمة وللتاريخ ولايمكن فعل ذلك في مقال عابر، بل تحتاج الي كتاب كامل يتناول مختلف زوايا تلك العلاقة ومضامينها ويوثق لها على نحو دقيق من الذاكرة الجماعية، وودت في هذا المقال أن أعيد الي الذاكرة المعاصرة بعض الإضاءات عن ملامح تلك العلاقة، وإن فيديل كان هناك وقد وصل إهتمامه الي السودان.
إلتقى جون قرنق دي مبيور بالأستاذ محمد إبراهيم نقد في هافانا وأجرى نقاشاً مطولاً معه حول إمكانية خلق تحالف ديمقراطي إستراتيجي لإحداث تغيير جذري في السودان، وكان ذلك إمتداد لمناقشات سابقة جرت في أديس ابابا وتواصلت على نحو مستفيض في داخل التجمع الوطني الديمقراطي ومحافل آخرى، وهي نقاشات من المهم التوثيق لها كذلك لان الكثير من قضايا الأمس لازالت ماثلة وشاخصة اليوم، وحسن فعل الأستاذ الراحل محمد محجوب عثمان حينما تطرق للقاء أديس ابابا في كتيبه حول الجيش، وقد اتيح لي المشاركة في كثير من هذه المناقشات، وإطلعت على رؤية الدكتور جون قرنق في تلك المناقشات الهامة كما إستمعت وشاركت في الحوار مع شخصيات نافذة مثل الأساتذة الكبار الراحلين التجاني الطيب بابكر ومحجوب عثمان، ومن الضروري أن تجد تلك الحوارات التي جرت مع قوى اليسار وكذلك الحوارات التي جرت مع القوى الآخرى في التجمع الوطني الديمقراطي وخارجه بما في ذلك الإسلاميين في الحكم والمعارضة أن تجد حقها من التوثيق والمناقشة وإعادة التقييم، ولاسيما إن هنالك العديد من الباحثين الشباب المهتمين بهذه المجالات الذين بإمكانهم إستنطاق كل الذين شاركوا في هذه المناقشات، وقد رحلت شخصيات هامة منهم، وأتمنى من هذه المقالة القصيرة أن تلفت إنتباه البعض لأهمية بعض ما ورد فيها .
أخيراً رحل فيديل ومرت أيامنا مع قرنق مبيور كالخيال وإنطوت آمال وأحلام وخلفت آلام وهموم، ولكن أحلامنا ما تزال عصية على النسيان، ونتبعها في مناخ جديد وفي متغيرات سودانية وعالمية وتحديات جديدة، ولازال حلمنا بإتحاد سوداني بين السودانين وبين دولتين مستقلتين لايزال ماثلاً، ولا زلنا نحلم ونعمل للأخوة الشريفة وببناء دولة ديمقراطية للمواطنة بلاتمييز.
الخامس من ديسمبر 2016م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.