رئيس حزب المؤتمر السودانى / ولاية الخرطوم يروى تفاصيل سوء المعاملة بزنازين جهاز الأمن هذه اللوحة رسمها معتقلٌ عراقي تمثل صورةً لزنزانة ارتادها على أيام النظام البعثي الذي كان يحكم العراق حينها، وعلق عليها لاحقاً بالقول ان الزنزانة كانت تسع لسبعٍ من الأشخاص في حينٍ أن من حشروا فيها تعدوا خمساً وثلاثين شخصاً كانوا يتناوبون الأدوار بين استلقائهم للنوم وما بين وقوفهم متيحين الفرصة لزملائهم لنيل فتاتٍ من الراحة. سألني كثيرون عن حال الزنازين في معتقلات النظام، ويبدو أنني سعيد الحظ في ان تهديني الاقدار هذه اللوحة لأنها تبدو إليّ أقرب ما يكون إلى وضع المعتقلات خصوصاً في معتقل كوبر الذي قضيت فيه أول اسبوعين من اعتقالٍ امتد لسبعٍ واربعين يوماً. عند الثانية صباحاً في تقديري للزمن، وعندما فتح باب الزنزانة التي كانت محطةً أولى بين اربع محطاتٍ اختارها سجانو النظام لي، تسمرت من هول التكدس البشري في ذلك المكان والعدد المهول من الأنفس التي ساقتها أقدار وطنٍ مجروحٍ وكليم إلى هذه البقعة الموحشة. مع انبلاج فجر ذلك اليوم، علمت أني اتقاسم غرفةً، لعل مساحتها تكون خمسة امتار عرضاً مع سبعةٍ طولاً، مع ثمانيةٍ وعشرين من الأنفس البشرية، وحيث أني لم أكن المعتقل الأخير ومع توافد المعتقلين كل يوم، جاءت لحظةٌ ما وجدنا فيها أن عددنا قفز ليكون اثنين واربعين شخصاً. هؤلاء الأربعون ونيف كان عليهم أن يتنابوا على حمامٍ واحد خُصص لهم داخل تلك الزنزانة، وكان واجباً أن ينتهزوا وأن لا يفرطوا أبداً في مساحةٍ تشغر لأي سببٍ ما ليمدوا عليها أجسادهم، وأضحى لزاماً أن ينام الواحد منهم وأصابع قدم زميله تتكيء على إذنه فيما تضرب أنفاس زميلٍ آخر خده الثاني بكل ضراوة لأن البين بينهما يدنو إلى صفرٍ من المسافات. كان السجانون يظنون أنهم يكرموننا بكأسٍ من الشاي الأحمر صبيحة كل يوم، هذا الشاي كان يصب لنا في أكوابٍ من البلاستك عبر إحدى نافذتي الزنزانة، كان الشاي لا يقتبس من الشاي الا اللون الأحمر، وكانت حالة الأكواب تشي أن من الافضل عدم استخدامها، فغالب الظن أن حرارة السائل المسمى بالشاي ستذيب رويداً المواد التي تم تصنيع هذا الأكواب منها، وأن طرائق حفظها واستعمالتها المتعددة تجعلها ملاذاً محبباً لكثيرٍ من البكتيريا والفطريات مما يلتصق على جدران الكوب الداخلي. في آخر يومٍ لي في تلك الزنزانة، تفاجأت أن لمبة الإضاءة الخاصة بالحمام كانت مطفأة لأن مقبس الكهرباء المتواجد خارج الغرفة كان في وضع الإطفاء، طيلة الأسبوعين التي قضيتهما هناك . كان قدامى المعتقلين يخبروننا أنهم ظلوا لما يفوق الثلاث من الأشهر يجأرون بالشكوى كل صباح مع موعد البلاغات مما كانوا يظنونه عطلاً كهربياً، كانوا يستحمون في ظلامٍ دامس، ويقضون حاجتهم ويغسلون ملابسهم في ذلك الظلام، وكان الواحد ينتظر فرصةً ربما تكون الثالثة فجراً او الثامنة صباحاً او الواحدة ظهراً او متى ما تبسم لك القدر لتنال حظوة الدخول لحمامٍ يتناوب عليه ما ينيف عن أربعين شخصاً يزيدون ولا ينقصون. بغض النظر عن نوعية الطعام ومناسبته او رداءته لإنسانيتنا، كان شكوانا لأطباء حنثوا قسم أبقراط وبدلوا فيه تبديلا ، اننا لا نجد ما نخرجه من فضلاتٍ طعام سجنكم هذا، هؤلاء الأطباء كانوا يأتوننا برفقة السجانين ويقفون على بعد أمتار من نافذة الزنزانة وبالكاد نسمعهم ويسمعوننا، كان منتهى علاجهم أن عليكم بممارسة الرياضة، في مكانٍ لا تجد فيه موطيء قدم، لعل أمعائكم تقوم بواجبها الذي تقاصرت عنه. أجمل الطعام ومحط احتفالنا يوم أن تكون وجبة العشاء هي الشعيرية، فرحتنا بهذه الشعيرية عندما تأتي تعادل فرحتنا بالعيد يوم صبيحته، وهي تأتي كما سائر الوجبات داخل دلوٍ من الحديد، يُفتح الباب لتخرج مجموعةٌ منا أمامه تحمل أوانٍ من الألمنيوم المقوى نفرغ فيه نصيبنا من الطعام. أحد أصدقائنا ممن وهبنا القدر صحبتهم في تلك الزنزانة كان كثيراً ما يتأمل الطير والعصافير والحمام عبر النافذة، كنت اسمعه يهمس دوماَ بلكنة أهل الشرق وهو يقول يا ليتني كنت طيرة فأطير وأنعم بالحرية، فهذه الحرية فعلاً أغلى من الذهب، كنا نتسابق ونتنافس ليكون أحدنا الفائز بأن يحمل صحن الطعام ليحظى بدقيقةٍ أو أقل وبمترٍ أو يزيد بقليل خارج الزنزانة في سبيل أن يوقن أن ذاكرة المشي لم تغب وحاسة شم الهواء خارج الحيطان لم تتعطل بعد. كانت أثمن أمانينا في لحظاتٍ ما أن يندهك أحد السجانين لتقاد إلى التحقيق رغم أنك تعلم أنه سيصيبك أذىً ما نفسياً وجسدياً، وكانت غاية الأحلام أن تأتيك زيارةٌ من ذويك رغم أنها قد تسقط بمعنوياتك إلى دركٍ أسفل، هذا السقف من الأماني والأحلام ما كان ليكون إلا لأنها فرصةٌ نادرة لتقف على قدميك ولتمش برجليك ولتقض لحظاتٍ معدودة خارج الزنزانة. شكراً لهذا الرسام والمبدع العراقي الذي أتاح لي أن أشارككم بعضاَ من تجربةٍ عايشتها في الأيام الماضية، وشكراَ لكل من زاملته في تلك الأيام فبهم ومعهم تعلمنا وعايشنا وصمدنا وخرجنا من سجنٍ صغير إلى سجنٍ هو أكبر ما دام أنه يُحكم ويُعبث به وبأقداره وبشعبه من قبل عصبة المؤتمر الوطني وجهاز أمنه الباطش. كلي يقين أنه سيأتي يومٌ ننعم فيه بحريتنا، نعيش فيه موفوري الكرامة وأحراراً فيما نريد ونختار، يومٌ سيجد فيه كل طفلٍ نصيبه من التعليم وكل مريضٍ حظه من العلاج وكل جائٍع حقه في لقمةٍ يتناولها هاديء الروح مطمئن البال.