كانت تزرع وتحصد،ثم تطحن وتطبخ،وتحلب الغنم في المساء،ولا تنام إلا بعد أن ينام الجميع. ثم قصفت الطائرات قريتها ذات ليلة،فتمكنت بمعجزة من الهرب مع أطفالها،قبل دقائق من إحتراق البيت وهجوم الجنجويد،وللأسف قتلت شظايا القنابل زوجها، بينما كانوا يفرون إلى المجهول. ولما أصبح الصبح كانت في ديار أخرى غير التي نشأت بها،ولما ساعدها أولاد الحلال في بناء قطية،في الخلاء،هجم عليهم البلدوزر بحجة السكن العشوائي المزيفة،ولكن الحقيقة تقول:( إن بعض الأغنياء أرادوا الاستيلاء على الأرض لفائدة مصالحهم الذاتية). ونامت مع أولادها في الشوارع والخيران،إلى أن ساقها أولاد الحلال مرة أخرى إلى بيت نائي غير مكتمل،لازال صاحبه هائماً في دول الإغتراب. غسلت هدوم الجيران ونظفت بيوتهم،وطبخت لهم،ومما يعطى لها كانت توفر الطعام لأسرتها،ولم تعدم من أعطاها الملابس القديمة أو الأحذية لفائدة أولادها، ولما فترت من العمل المضني،كانت "الكفتيرة" هي الأمل لسد الحيرة،وتوفير الطعام،وبعض المصاريف الإضطرارية للمرض وما شابه. جلست على ركن حيطة مؤسسة حكومية،أمام الكانون الحار،تبيع الشاي بالحاضر والدين،فداهمتها الكشة،بحجة النظام العام،وفرضت عليها الغرامة وسمعت كلاماً خشناً ومؤلماً. وتكفل أولاد الحلال أيضاً بدفع الغرامة واسترجاع(العدة)،لكنها ظلت مطاردة من مكان لآخر،والدمعة حفرت الوجنتين. ولم يحلم أولادها بالمدرسة،ولن يحلموا،ولم يشربوا من الماسورة ماء نظيفاً ولن يشربوا،ولن يتوظفوا في أي مرفق لأنهم بلا شهادات،ولن يدخلوا أي مستشفى لأن القروش مافي. ولو كان بيع الشاي عاراً ومنظراً مؤذياً،في الخرطوم ومدن السودان،فلماذا لا يتوقف القصف وتتهيأ الأسباب لترجع(ست الشاي)إلي قريتها الأصلية وتعوض عن بيتها الذي حرق،والغنمايات التي أهلكت. هذا المشهد يعبر عن حال الملايين من النساء في كل مكان في بلادنا،حيث صار النزوح سيد الموقف في ظل الحرب وانعدام التنمية . ليست وحدها ست الشاي التي تعاني،بل العاملات في المصنع،والزارعات في الحواشات،والطالبات،وربات المنازل،والقوانين تجلدهن بالسياط،وتحط من قدرهن،وتجعلهن مشبوهات مع سبق الإصرار والترصد. لكنها ليست معركة النساء وحدهن،فالنظام الحالي الذي يحتقر النساء،يذل الشعب بأسره،ويضطهده،ويمارس التقسيم علي الأساس الطبقي والإثني والديني،وعليه فهي معركة الغالبية المضطهدة ضد الأقلية المستبدة والفاسدة. في عيد المرأة العالمي التحية للسودانيات الجميلات الرائعات الأمهات والبنات، في كل شبر من بلادنا،مع الأمنيات بأن ينجلي ليل الظلم والمهانة إلي حيث فجر جديد من المساواة والعدل،تعمل فيه المرأة في كل مرفق بلا قيود،وتلبس ما شاءت دون حظر،سافرة أو لابسة طرحة،بالبنطلون أو الإسكيرت،والمجتمع والتقاليد الجميلة التي فيه،هي التي تحكم المعاملات والمظهر لا القوانين التي تضطهد المرأة كأنها كائن قادم من الفضاء.. غدا نكون كما نود أو كما قال الشاعر.