القوة المشتركة تكشف عن مشاركة مرتزقة من عدة دول في هجوم الفاشر    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. حسناء أثيوبية تشعل حفل غنائي بأحد النوادي الليلية بفواصل من الرقص و"الزغاريد" السودانية    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    اللجنة العليا لطوارئ الخريف بكسلا تؤكد أهمية الاستعداد لمواجهة الطوارئ    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في ميلاد ثانئ لرؤية السودان الجديد
نشر في حريات يوم 28 - 10 - 2017


زين العابدين صالح عبد الرحمن
في ظل الأزمة الناشئة في الحركة الشعبية " شمال" كتب السيد ياسر عرمان ورقة تتكون من "ست و ثلاثين ورقة A4″ بعنوان " نحو ميلاد ثاني لرؤية السودان الجديد، قضايا التحرر الوطني في عالم اليوم" و هي ورقة جديرة بالقراءة و التعليق عليها، لأنها تتحدث عن أسباب الأزمة التي ضربت تنظيم الحركة الشعبية من وجهة نظر السيد عرمان و المجموعة المؤيدة لهم، و محاولة منه لوضع الأصبع علي مكامن الخطأ، و الورقة رؤية تعكس تصور عرمان للحل، و إن كانت الورقة بدأت سفرها النقدي من منصة التأسيس الأولي، إذا كان التأسيس الأول للحركة الشعبية عام 1983م، أو التأسيس الثاني للحركة الشعبية شمال بعد الانفصال عام 2011م، و الرجوع لمنصة التأسيس في البناء النقدي مهم جدا، لأنه يبين ماهية القاعدة التي حكمت عملية التأسيس، إذا كان التأسيس شيد علي قواعد ديمقراطية، أو إن القوة هي التي فرضت سطوتها علي التأسيس، لآن الوسيلة التي تم الاعتماد عليها سوف تفرض شروطها علي البناء التنظيمي في مستقبله. و تبقي هي الوسيلة التي يتم الرجوع إليها كل ما واجهت الحركة تحديات في مسيرتها السياسية، و الحركة استعصمت بالبندقية أكثر من العمل السياسي الذي يحدث وعيا وسط الجماهير.
في هذه القراءة سوف لن اتعرض لكل ما كتب في الورقة، باعتبار إن الورقة تناولت تاريخ تأسيس الحركة مرورا بجميع المراحل حتى انقلاب السيد عبد العزيز الحلو. ثم تقديم رؤية للحل الذي سماه السيد عرمان " نحو ميلاد ثاني لرؤية السودان الجديد" و هي خطوة جدير بالتقدير و الاحترام أن يقدم قيادي سياسي سفرا سياسيا نقديا لتنظيمه السياسي، يفتح من خلاله حوارا حول القضية بأفق سياسي فكري بعيدا عن المساجلات الشخصية، و التي تدفع المشتبكين فيها لتقديم إتهامات لبعضهم البعض، تجر وراءها مناكفات لا تفيد العمل السياسي في شيء. و لكن القضايا التي تأخذ الطابع الفكري تجذب ذوي الرآي و المعرفة. و إن كان الملاحظ منذ إنقلاب الإنقاذ و تكوين التجمع الوطني الديمقراطي، يتجنب المثقفون نقد الحركة الشعبية أو التعقيب علي مقولاتها، و الشخص الذي يقدم علي نقد الحركة الشعبية يعرض نفسه لألسنة حداد و إتهامات من سدنة الحركة، و رغم إن قيادات الحركة لا يعلقون علي ذلك و يكتفون بالصمت، لكنهم كانوا راضين علي ذلك السلوك المخل بحرية الرآي و مفارق للسلوك الديمقراطي، و كانوا يعتقدون إن ذلك يمثل حماية من الجماهير للحركة ضد الذين يتعرضون لها بالنقد. و إن كان تخوف المثقفين من نقد الحركة و سياساتها، هو بمثابة خيانة للمثقفين للمبادئ التي يناودن بها، هؤلاء السدنة هم أكثر خطرا علي الحركة من أعدائها.
يقول السيد عرمان في ورقته (تكونت الحركة الشعبية فى السودان من ثلاث مجموعات فى 10 أبريل 2011 وهى، القطاع الشمالي وجنوب كردفان و جبال النوبة والنيل الأزرق. لم تلتق قيادة هذه المكونات إلا بعد إعلان نتيجة الإستفتاء على حق تقرير المصير فى الجنوب وبعد خطاب البشير فى مدينة القضارف "ما عرف بخطاب الدغمسة". تلى ذلك أن عَقدت قيادتها مؤتمرا صحفيا فى الخرطوم، توج بإتفاق وإعلان عن ميلاد الحركة الشعبية فى السودان، وتم تكوين قيادة إنتقالية من المكونات الثلاث ويظل تطوير وإحترام توازن العلاقة بين المجموعات الثلاث لبناء حركة عضوية امراً لاغني عنه، وتم الإعلان عن لجنة لكتابة (المانفستو) الجديد والدستور، وبدأت خطوات فك الإرتباط مع الحركة الشعبية فى الجنوب سياسيا؛ وعسكرياً وإداريا، التى إكتملت لاحقاً) إن واحدة من اخطاء منصة التأسيس للحركة الشعبية " شمال" بعد الانفصال، إنها اعتمدت في التكوين علي المناطقية، و بالتالي الرجوع في الأزمة يبقي علي المناطقية، و هي الوسيلة التي اعتمدها عبد العزيز الحلو في صراعه مع رئيس الحركة الشعبية و أمينها العام، فالرجل أرتكز علي قاعدة التأسيس، عندما دعا مجلس تحرير جبال النوبة، و هو أحد الأضلاع الثلاثة المكونة للحركة الشعبية " شمال" لكي يساعده علي حسم خلافاته مع رئيس و أمين الحركة. و حتى إذا نظرنا للحركة الشعبية في مسيرتها التاريخية حتى اليوم في جنوب السودان، إن منصة التأسيس اعتمدت علي البندقية في حسم الصراع مع قيادات " انيانيا 2″ الذين يسميهم ياسر عرمان " القوميين الجنوبيين" حيث إن القيادات العسكرية التي حسمت الصراع عبر البندقية هم " سلفاكير مياردت و كاربينو كوانين و وليم نون" و الغريب أثنين منهم تم التخلص منهم بذات الوسيلة. و الثالث مازال يعتمد علي الوسيلة في حسم الخلافات السياسية. إذا إن منصة التأسيس تظل تفرض ذاتها علي الجميع، حتى عبد العزيز الحلو لم يكتف بقرارات مجلس تحرير جبال النوبة، و لكن ساعدته البندقية التي يقبض علي زنادها من جانب و الجانب الآخر، علو صوت القبلية، الذي أكد غياب الثقافة الديمقراطية داخل الحركة، إذا الرجوع لمنصة التأسيس بالنقد و ماولة البناء علي القواعد الديمقراطية هو الذي يؤسس لحركة تستطيع أن تنداح وسط الجماهير بالوعي و ليس بخوف افعال البندقية .
تناول عرمان في الورقة التغييرات التي حدثت في المنطقة، و أزمة الرسمالية و اخفاقات القوميين التي أدت إلي صعود الحركات الإسلامية و تقلقلها وسط القطاعات الجماهيرية، الذي أفرز حالة من التوحش للخطاب الرأسمالي و الشعبوي. و قال عرمان (فى هذا المناخ قامت الحركة فى السودان بالمحاولة الجريئة والشجاعة لبناء حركة ديمقراطية، فى مجمتع يعيش تحت قهر الإسلام السياسي. فبينما نجحت الحركة فى قضايا عديدة، إلا انها فشلت فى تحقيق هدفها الرئيسي الذى جذب الملايين وهو "بناء سودان موحد علمانى ديمقراطى" على أساس من المواطنة والعدالة الإجتماعية ولمصلحة جميع السودانيين. علينا الأخذ فى الإعتبار أن الحركة في السودان قد نشأت فى ظل وضع إقليمى مربك ومرتبك. شهد تأسيسها إنفصال الجنوب وإرتكاب النظام لجرائم حرب وإبادة جماعية فى دارفور. فالإنفصال والإبادة الجماعية حدثين يستدعيان إعادة النظر فى كامل المشروع الوطني و يشمل ذلك إعادة النظر فى تجربتنا والإستفادة من الدروس التى إستقيناها، وإن أستدعى ذلك الرجوع الى الوراء لكى نتقدم الى الأمام. لذلك لا بد أن نحاكم تجربتنا على نحو نقدى لا يهدم إلا بالقدر الذى يبنى فى إطار من الإلتزام القاطع برؤية السودان الجديد، وهذا ما نحن بصدده تحديدا) أعتمد عرمان في التحليل الذي ساقه على مرجعيته الفكرية، و في نفس الوقت يعبر عن عقلية سياسية متابعة للأحداث الجارية في المنطقة و في العالم، و انعكاسات ذلك علي القضية السودانية. لكن المحاولة الجريئة للحركة لبناء تنظيم ديمقراطي هذه فيها رآي. إن إشكالية الحركة منذ التأسيس و خروج المنفستو الأول عام 1983م، كانت الديمقراطية، التي شكلت كعب أخيل للحركة، التي أعتمدت علي الكارزما دون المؤسسية. و الدكتور جون قرن لم يفكر في الصراع السياسي الدائر في السودان من خلال منظور ديمقراطي، دلالة علي ذلك موقفه من الانتفاضة التي كان قد سماها " مايو2″ التي اعطت فرصة كبيرة لاعداء الديمقراطية أن يستغلوا موقف الحركة لهدم النظام الديمقراطي. إضافة إلي عدد من تصريحات الدكتور قرن و بعض القيادات الآخرى. في لقاء صحفي أجرته مجلة المجلة" العدد 67 يوم 10 مايو 1993م قال فيه الدكتور جون قرن عن الديمقراطية ( الديمقراطية لا تبقي في طليعة خياراتي، إنما هي رفاهية أخبئها لأيام السلم حين نخلع ثياب النضال المسلح، حتى الآن أنا قائد حرب عصايات، و لا اسمح لنفسي برفاهية يمارسها السياسيون في حلقة نقاش سياسي تنظيري) و يسمي الدكتور قرن الديمقراطية رفاهية، و غير مشغول بها، مما يؤكد إنها ليست في سلم أولويات الحركة. و غابت في منصة التأسيس، و اعتمد بديلا عنها البندقية لحسم الخلافات الناشبة، أو حتى الآراء المعارضة، هي الوسيلة السائدة حتى اليوم في حل خلافات الحركة " البندقية" و البندقية و الديمقراطية تياران متوازيان لا يلتقيان مطلقا، و إذا كان عرمان يرى غير ذلك عليه أن يشير إلي حركة واحدة في التجارب العالمية اعتمدت الكفاح المسلح و عندما وصلت للسلطة تنازلت و أقامت نظاما ديمقراطيا، فالكل الحركات التي تبنت الكفاح المسلح بعد نجاحها أسست حكما ديكتاتوريا عضودا، إن كان في كوبا أو في نيكاراجوا و في أثيوبيا و اريتريا و يوغندا و أخيرا جنوب السودان.
إن الديمقراطية كمصطلح لم يردد كثيرا في خطاب الحركة الشعبية، و خاصة في خطابات الدكتور جون قرنق، و هذا المصطلح عندما يتم تريده من قوي لها علاقة بالديمقراطية، يتأكد إنها تبحث عن مساومة سياسية و لا يتردد لأنه يشكل قاعدة مبدئية، عندما تقول القيادات في الحركة إن العلمانية و الديمقراطية هما الطريق الذي يؤدي للوحدة، فهي تدخل الديمقراطية بغرض المساومة. و إذا كانت الحركة اعتمدت الديمقراطية قضية مبدئية، و عملت علي تطبيقها في التنظيم، كانت غيرت كثيرا من مجرى العمل السياسي في البلاد، و في غترة تاريخية في عقد التسعينات كانت الحركة تفرض شروط العمل السياسي علي القوي السياسية، و كانت لديها فرصة أن ترسخ قواعد الديمقراطية في تلك البناءات التي تحتاج لكثير من الترميم، و كانت قد ساعدت علي إنتاج الثقافة الديمقراطية في المجتمع، و هي واحد من ركائز الوعي الجماهيري الذي يقود لعملية التغيير، لكنها أهملت الديمقراطية كمبدأ و ثقافة. إلي جانب إن الكادر الشمالي داخل الحركة أيضا كان مغيب، لأنه لم يكن جزءا من صانعي القرار في الحركة. إنما جميعهم تم استيعابهم في مكتب الدكتور جون قرنق كمستشارين إذا كان في الجانب السياسي، أو في الجانب الإعلامي، لذلك لم يستطيعوا أن يطرحوا رؤاهم بقوة داخل الحركة، فهي الفترة التي حاول ياسر أن يغض الطرف عنها.
في الورقة التي كان قد قدمها السيد استيف وند ممثل الحركة في أمريكا لمؤتمر واشنطن و نشرتها " مجلة مسارات" التي أصدرتها الحركة في عددها الأول يقول فيها ( لقد ظهرت الحركة الشعبية في الجنوب، يقودها جنوبيون. و قد عملت الحركة من أجل بناء كادر شمالي لتأكيد أهدافها و شخصيتها الوطنية، و هذا أيضا تم تجاهله ليس لآن الشماليين لا يوافقون علي هذه الدعوة، لكن لأنهم لا يمكن أن يحرروا أنفسهم من العقلية النعصرية. و قد قاد هذا الأمر لزيادة " جنوبة" شخصية و شكل الحركة، و قد أمسك الجنوبيون بالفرصة، و عملوا علي إضفاء طابعهم علي الحركة، و جنوبة أجندتها بقدر ما أمكنهم ذلك، و هذه طبيعة اللعبة السياسية الديمقراطية) إذا كانت الأجندة المطروحة من قبل الحركة هي أجندة النخب الجنوبية و ليست أجندة شاركت فيها كل القوي المؤمنة بخط الحركة، الأمر الذي يؤكد غياب الممارسة الديمقراطية كفكر و كتنظيم داخل الحركة، و هذا الغياب قدر ظهر في الصراع المسلح في دولة جنوب السودان، و كان متوقعا أن يحدث في الجانب الأخر للمشهد.
في منصة التأسيس الثانية التي اعتمدت المناطقية كأساس للتأسيس، أيضا لم تؤسس الحركة علي المبادئ الديمقراطية، صحيح إن ياسر عرمان أصبح يردد المصطلح كثيرا في تصريحاته، لكن لم يوجد علي الأرض كممارسة، و حتى رفض مالك عقار تسليم الرئاسة في الجبهة الثورية لدكتور جبريل إبراهيم يؤكد إن الديمقراطية كثقافة في الحركة تكاد تكون غير موجودة. يقول عرمان في ورقته (الجماهير التى إستقبلت قرنق فى الساحة الخضراء كانت تتطلع لحلول لقضاياها المتمثلة فى السلام والطعام والمواطنة المتساوية والحريات وحقوق الإنسان والصحة والتعليم والمياه والسكن،وإنصاف النساء وتوفير فرص العمل للعطالة، اى تحسين شروط الحياة. تقع كل هذه القضايا فى صلب برنامج السودان الجديد. يمكن القول بكل ثقة إن قرنق كان على أعتاب تجاوزالمطالبة بحق تقرير المصير بعد ان توفر له جمهور لتغيير كل السودان فى الساحة الخضراء) خلاف البعض مع الحركة الشعبية و أنا منهم، إنهم يقدمون الحرية و الديمقراطية علي المطالب الأخرى خلافا لقناعات قيادات الحركة، باعتبار إن الديمقراطية تؤسس للعقل الحر و توفر البيئة الصالحة للإبداع بكل جوانبه. لكن قيادات الحركة في كل تياراتها المتصارعة تقدم مطالب أخرى علي قضية الديمقراطية، و ها هو عبد العزيز الحلو يطرح قضية " تقرير المصير" في صمت كبير من قوي المعارضة و من المثقفين السودانيين الذين يترددون كثيرا في نقد الحركة. نرجع لحديث السيد عرمان و ما حدث للدكتور جون قرن من استقبال في الساحة الخضراء، و يقول عرمان إن هؤلاء كانوا يطالبون و يتطلعون إلي الحرية و احترام حقوق الإنسان. فهل الحركة حاولت أن تحقق لهم ذلك؟ لكن الحصل العكس….! عندما ساومت الحركة المؤتمر الوطني بقبول الاستفتاء و إجراه في موعده، علي أن توافق الحركة علي إجازة القوانين المقيدة للحريات. و كنت أتوقع أن يتطرق إليها عرمان، فهي القوانيين التي يتم بها مصادرة الصحف حتى الآن، فهي الغائبة تماما من ورقة السيد عرمان. المسألة الثانية إن الحركة الشعبية " شمال لم تنقد التحول الذي حدث عند النخب الجنوبية و استبدال السودان الجديد الموحد بالانفصال. أليس النقد يعد ركيزة الأساسية للديمقراطية، و لكن سماها عرمان أهداف القوميين الجنوبيين.
يقول عرمان في ورقته ( يجب تقيّيم اى مشروع سياسى ونجاح وفشل قادته بالأهداف التى طرحوها، والنتائج التى حصلوا عليها، طرحت الحركة الشعبية لتحرير السودان مشروع السودان الجديد لتحقيق "دولة علمانية ديمقراطية موحدة جديدة". لم يتحقق هذا الهدف الرئيسي لأسباب عديدة سنتناول أهمها. لذلك يتوجب على كل الذين ناضلوا تحت رايات المشروع وعملوا لعقود طويلة لتحقيقه، ومن واقع إلتزامهم والوفاء للشهداء وللجرحى، ولكل تضحيات شعبنا، الإعترف بداية أننا لم ننجح فى تحقيق الهدف الرئيسى للمشروع. كما يتوجب علينا أن نبحث عن الاسباب التى قادت لذلك، وأن نصل الى تقييم شامل نقدي ودقيق لما جرى على مستوى الرؤية والممارسة، وأن تكون أعيننا مبصرة للمتغيّرات العديدة التى حفل بها عالمنا الوطنى والإقليمى وعلى أمتداد الكرة الأرضية، وأن نجرى مراجعة دقيقة وأمينة تضعنا على أعتاب بداية جديدة) هذا قول يخالف السائد في الثقافة السياسية السودانية، لآن السياسيون السودانيون تعودوا أن يهربوا إلي الأمام، أو أن يبحثون عن شماعات يعلقون عليها أخطائهم، لقد أدمنوا التبرير. الأمر الذي جعل التجارب السياسية تخفق، و كل الريات التي رفعتها النخب السياسية سقطت و فشل تحقيقها. و إشكالية الحركة منذ منصة التأسيس الأولي كانت قد فارقت طريق النجاح لشعاراتها، لأنها أسقطت الديمقراطية من حساباتها، و حتى في منصة التأسيس للحركة الشعبية " شمال" أيضا اسقطت راية الديمقراطية، و هي السبب الرئيس الذي أدي لتفككها. و المحير في الأمر إن القيادات تعرف إن الديمقراطية هي النظام الذي يسمح بالمساومة في معالجة القضايا الخلافية بين القوي السياسية، دون اللجوء للعنف أو الانقسامات، و إشكالية السياسي السوداني لا يتعظ إلا بعد فوات الأوان. إن كل القوي السياسية السودانية يسارها و يمينها قد مرت بتجارب الانقسامات، و يعود ذلك بسبب غياب الممارسة الديمقراطية، رغم شعاراتها المرفوعة. و تمر كأن شيئا لم يحدث، لآن الكل يستبطن الثقافة الديكتاتورية بصورها المختلفة، و الحركة الشعبية ليست استثناء.
و حول رؤيته لحل الأزمة في الحركة الشعبية، يقول عرمان ( يجب أن نبنى حركة تحرر وطنى فى ثوب جديد، آخذين التجارب البشرية، والتطور التكنولوجى الهائل الذى يختصر كثير من مهام البناء الصعبة فى الماضي. فالتيارات والأحزاب الحديثة يمكن أن تبنى على قوى إجتماعية جديدة، إذا إستوعبت وفق برنامج جاذب التحولات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية العميقة فى المجتمع مثل تجربة "جيرمى كوربن" فى بريطانيا و"بيرنى ساندرز" فى الولايات المتحدة الأمريكية و"ماكرون" فى فرنسا،الذين صعدوا فوق موجة تيارات إجتماعية جديدة ناهضة على رأسها الشباب) إن عرمان مايزال متخندقا في مرجعيته الفكرية، فالثورية و التقدمية مصطلحات تجاوزتها المجتمعات، و إن التجارب التي ذكرها عرمان، هي تجارب قد تمت في مجتمعات ديمقراطية، درجة الوعي الجماهيري تفوق 90% من الشعب، و هذه الشعوب تدرك مصالحها تماما، و لا تتعامل مع السياسة من خلال الفروض القبلية و العشائرية و الطائفية، إنما يتحدد موقف أية شخص وفقل للمصلحة الخاصة و العامة، التي تحفظ الأمن الاستقرار الاجتماعي، و نحن أمة ماتزال تبحث عن هويتها، و تتحكم في الناس العواطف الأولية، إذا كانت راجعة إلي القبيلة أو الزعيم أو الحزب. لكن أولويات القوي السياسية السودانية يجب أن تعرف كيف تصنع الوعي لمجتمعها، و أن تستبدل عقل البندقية بالعقل السياسي القادر علي الإبداع في صنع أدواته الصالحة لعملية التغيير.
يلامس عرمان العصب الحي للمشكل، عندما يقول (فى غياب الديمقراطية الداخلية، والمحاسبة الصارمة على الأخطاء، التى أرتكبت فى حق الجماهي،ر وحق التنظيم فى تجربة الحركة، ولد آثاراً سلبيةً تحتاج الى إجتراح طرق جديدة فى معالجتها. إن كل ما ذكرناه آنفاً لا ينف أهمية الدور الحاسم الذى لعبه الكفاح المسلح، لاسيما فى مواجهة نظام فاشى مثل النظام الحاكم فى الخرطوم، الذى يقوم على العنف وإحتكاره. إن الحركة تحتاج أن تدرس بعمق الأثر السلبى للقبلية كأيدلوجيا والفساد وتأثيرهما على التجربة. سأتناول هذ القضية الهامة بشكل تفصيلى فى وقت آخر) إن الإشكالية المهمة في العمل السياسي السوداني هي غياب الديمقراطية، و إذا كان السيد عرمان في ورقته يطالب عضوية الحركة أن يتناولوا الأزمة بمنهج نقدي، لمعرفة الأسباب التي أدت الحركة أن تفشل في تحقيق مقاصدها، و الدراسة النقدية و التقييم لا يصبح مفيدا في غياب حرية الرآي و الممارسة الديمقراطية، و هذا الذي كانت تفتقده الحركة منذ التأسيس الأول، إن القيادات السياسية التى لا ترغب في الديمقراطية دائما تلجأ إلي وسائل أخرى غيرها تساعدها علي حسم خلافاتها بالقوة، و غياب الديمقراطية هو السبب الذي عطل العقول المنتجة.
غياب الديمقراطية في كل القوي السياسية، و خاصة في أوقات الأزمات تفتح المجال لصعود قيادات متواضعة في قدراتها، و هؤلاء يساعدون الحاكم و الزعيم علي السير في اتجاهات مغايرة، و هي التي أضعفت المعارضة، و هي التي أثرت في فاعلية القوي السياسية. و الموضوع يحتاج إلي قراءات أخرى، ربما يكون وجهات نظرها أفضل، لكن إشكالية النخب المثقفة تحجم عن تناول موضوع الحركة بالنقد، و إلا كانت الورقة وجدت التناول من العديد من المثقفين، باعتبارها أول دراسة نقدية تخرج من الحركة، و تتطلع لرؤية الآخرين. و في الختام أن الورقة تعد دراسة جادة لتقييم تجربة الحركة، و كما قال عرمان يجب الرجوع لمنصة التأسيس. و نسأل الله حسن البصيرة.
سوف نعود للورقة في القريب العاجل، باعتبار هناك قضايا تحتاج للقراءة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.