مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان....حروب الهامش لا تحتمل أكثر من تفسير
نشر في حريات يوم 20 - 02 - 2018

الأفكار والسياسات مثلها مثل الكائنات الحية تنمو وتزدهر ويصاب بالوهن وتنقرض وفق البيئة المحيطة بها، البعوض تتكاثر فى البرك الآسنة وتتكاثر الذباب عند القاذورات،ومملكة النحل وخليتها لن تقوم إلا بوجود عبق ورحيق الزهور، ذات المنطق هو قانون الذى بموجبه تسود الأفكار والسياسات فى المجتمعات البشرية. فمع البيئة المواتية أىّ كان نوعها، صالحة أو طالحة إضافة لعامل الزمن، تتجذر الأفكار والسياسات إلى درجة الاستيطان كما تستوطن الملاريا فى البيئة المدارية الرطبة. وهكذا نبتت بذرة التهميش في تجربتنا السياسية، و تناسلت وتكاثرت من أمراض نفسية استوطنت في البلاد بفضل توافر بيئة خصبة بالانانية والعنصرية والكراهية وتحول إلى سياسات وأفكار قامت بسببها معارك جدلية وحروب دامية مزقت النسيج الاجتماعي وعصفت بوحدة البلاد .
الجدل حول مفهوم التهميش فى السودان وخاصة عند الملايين ممن حرمتهم الانظمة المتعاقبة من العيش فى حياة كريمة، بالنسبة لهؤلاء، لم يعد الجدل حوله مجرد ترف ذهني ترتاد إليه العقول حين تصاب بضجر أو ملل، ولا نظرية معقدة فى علم النفس أو السياسة تتصدى لها مراكز الدراسات والبحوث إنما هو تعبير عن واقع مؤلم سرق أحلامهم الجميلة بفعل فاعل وساقهم إلى ويلات حرب تجاوزت حد الإبادة والى حرمان تجاوز حد الأمية والفقر المستدامين واستيطان للاوبئة الفتاكة.
فى ظل هذه المأساة نما شعور عام بالظلم لدى مكونات واسعة من الشعب السودانى وظل هذا الشعور كامن على مدى عقود ومن ثَمّ أخذ طريقه إلى العلن وإنفجر فى ثورة بركانية على طول وعرض البلاد لمواجهة السياسات المركزية القابضة على مفاصل السلطة عبر وسائل مختلفة ، وتبعاً لذلك تحول الشعور إلى حروب دامية وسياقات جدلية وشعارات سياسية واحتل مصطلح التهميش حيزاً كبيراً وسط الذخيرة اللغوية فى السودان، بل وصار تداوله شائعاً عند عامة الناس والخاصة على حد سواء، وبشكل أعمق واكثر جدية بين الأجيال الصاعدة .
المستوى الذي برزت فيه فكرة التهميش على الساحة السياسية فى السودان ليس أقل من مستوى السرديات الطاغية فى الفكر السياسى الإنساني، مثل العلمانية والاشتراكية والليبرالية والرأسمالية، ولكن الفرق هو، أنّ جدلية التهميش لم تكتسب الصبغة العالمية وإن كان مضمونها مألوف فى بعض الدول الاقل نمواً ولكن ليس بحدة التى تميزت بها السودان. إذ أنّ الساحة السياسية السودانية هى البيئة التى نبتت فيها الفكرة وهى الحاضنة التي ترعرعت فيها ايضاً ولم يتم تداولها بكثافة خارج السودان مثل الأفكار العابرة للحدود وذلك بسبب توفر مناخ مواتٍ تهيمن عليه عناصر التهميش المتمثلة فى وجود مجموعة مركزية جغرافية، قوامها وشائج ثقافية،عرقية، اجتماعية امتزجت بشهوة إحتكار جامحة للثروة القومية ، مع توظيف السلطة كصمام أمان لوجودها ومن ثم أصبح لزاماً لهذه المجموعة أن تتصارع بعنف ضد مجموعات طرفية كبيرة ومتنوعة عرقياً وثقافياً تتوق إلى تحقيق الذات من خلال الإشراك الفعلي فى خاصيةٍ حيويةٍ ذات أبعاد ثلاثية ارتبطت فى الأصل بشروط وجود الإنسان فى الحياة، وهى السلطة، الثروة ، الذات.
من هذا الواقع نشأ مفهوم التهميش ولكنه لم ينبثق كفكرة سياسية تمتلك أدوات الصراع السياسي منذ الوهلة الأولى إنما نشأ كإحساس وشعور داخلي لدى مجموعات عانت من المشاركة الفعلية فى كثير من أوجه الحياة المختلفة وعبر حقب ومع تطور الوعي تبلور هذا الاحساس إلى فكر سياسي له أدواته الخاصة في المعركة السياسية التي تدور رحاها فى السودان.
فى اتون هذه المعركة ومع شدة تفاعلها انقسم المجتمع السودانى تقريباً إلى قسمين حول فكرة التهميش وطفق كل طرف يستخدم أدواته إما لإثبات وجهة نظره او دحض وجهة نظر الطرف الآخر، والمعركة هنا لم تكن متكافئة حيث أن المركز ومَنْ يقف معه بيدهم 99% من أدوات القتال بسبب استحواذ الفرص وفق ناموس life is access and success أى الحياة فرص ونجاح وبفضل نشاط معاكس كثيف لفكرة التهميش، نشبت الضبابية والشك مخالبها فى مدى معقولية ومنطقية ظاهرة الهامش فى السودان وساد عليها جدل حول ما إذا كان المقصود بالهامش هو جغرافيا أو مجموعات إثنية أو نقطة جغرافية يتم تحديد طول وقصر مسافتها بالعاصمة الخرطوم.
وبنفس التبرير طغى جدل عقيم حول ماهية المركز ويلاحظ فى هذا الصراع أن أدوات القتال التي يمتلكها أهل الهامش طيلة ست عقود الماضية تميزت جلها بالقتال الدائر في الأقاليم الطرفية في دارفور والجنوب وكردفان والنيل الأزرق والشرق مما ترسّخ في ذهنية كثير من أهل السودان البُعد الجغرافي لمفهوم الصراع بين الهامش والمركز أئّ طول المسافة من المركز هو الذي يحدد ماهية التهميش. أما الأدوات الفكرية كماً ونوعاً تم استخدامها بدرجة أكبر وأكثر فعالية بواسطة الطرف النقيض لفكرة الهامش وفى معظم الحالات لم يُستخدم الفكر لبرهان فكرة التهميش وفق قاعدة المعرفة المتعارف عليها، والتى تقوم على منهجية الفرضية والملاحظة ثم التحليل من أجل الوصول إلى استنتاجات إنما أُستخدم من أجل تشويش الفكرة وهزيمتها دونما اىّ اعتبار لدواعى الصراع وفداحة تكلفة الصراع من حيث الوقت والخسائر مادياً وبشرياً ونفسياً إضافة عن مهددات وحدة السودان.
مثله مثل أيّة أطروحة سياسية أو قضية مفاهيمية، حدث استقطاب واسع حول التهميش وتطور إلى حرب ضروس ادت الى تقطيع اوصال الوطن وارتكاب ابادات جماعية في مناطق الهامش المختلفة وآخرها الابادة الجماعية فى دارفور وفى سبيل تحقيق الذات قدمت مجموعات الهامش تضحيات رائعة سوف تنحت بصماتها على ذاكرة التاريخ بإيداع وروعة إزميل فدياس على صخرة الاوليمب. وعلى قدر الصراع الدموي أصبح هناك ايضاً صراع فكري، فلسفي عن ماهية التهميش ولا زال هناك غبار كثيف يكتنف الفكرة بسبب الهجوم الشرس الذى يقوم به الفكر المضاد للتهميش، وكثير من الذين يقفون على النقيض للفكرة يبررون بوجود التهميش فى معظم أجزاء السودان ويضربون دائما المثل بحالة الولايات التى تفتقر اصلاً إلى الموارد الطبيعية وهو تبرير غير دقيق إذا ما وضعنا مفهوم التهميش فى إطاره الثقافى،الاجتماعي أو إثبات الذات، وأهم من ذلك إمتلاك السيطرة على أدوات اتخاذ القرار فى الدولة، وقد بذل الدكتور أبكر آدم إسماعيل جهداً مضنياً لتسليط الضوء على الجوانب التى يراها الطرف الآخر ثغرةً لتسديد طعناته على الفكرة .
لكي نستوعب مقدار التصدع فى الوجدان السودانى يمكن أن نوسع الدائرة المجهرية للواقع السودانى عبر الانتقال من شعارات سياسية عامة إلى التفاعل مع الواقع وخاصة عند محطات لها الصلة بالأزمة الجاثمة على صدر الشعب السودانى. الجنوب طيلة حربها مع المركز و التى قُصدت عمدأً أن تُدبّج بحرب الشمال والجنوب قدمت صورة ناطقة لمستوى الصراع السياسى بين كتلة سياسية مسنودة بآلة الدولة ترفض الاعتراف بحق المواطنة لأهل الجنوب فى اطار معادلة الاشراك inclusivity و الاقصاء exclusivity وبين كيان معتبر للشعب السودانى يناضل لعقود من اجل أن يجد مكانته الطبيعية في الوطن. هذا على مستوى أصحاب القرار السياسي في الدولة أما على مستوى التفاعل مع الأحداث فى معترك السياسة، كثير من القوى السياسية فى السودان لم تتجاوب مع أطروحة التهميش كظاهرة اجتماعية سياسية ثقافية، بل شعار التهميش أصبح فى مناسبات كثيرة أحد الأسباب التى تبعد المسافات بين مكونات المعارضة السودانية ،بل هو من أقوى عوامل التصدع للوجدان السودانى وعبره عادة تتسلل مفردات الفرقة والشتات وتمنح لعامة أهل السودان مشروعية جواز استخدام عبارات مثل الشعوب أو القوميات عِوضاً عن كلمة الشعب الدالة على الوحدة والتماسك والوجدان المشترك.
التهميش فى السودان كمصطلح سياسي استمد شرعيته من أرض الواقع قبل أن تكون نظرية وفكرة أو سرد تاريخى وامامنا كما أشرت اليها حالة الجنوب وانتقل النموذج إلى مناطق مشابه لها فى دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق والشرق وكل هذه المناطق القاسم المشترك بينها انها تعاني من الإقصاء الذي تمارسه الحكومات المتعاقبة وظلت هذه المناطق تقاتل الحكومات فى سبيل الحصول على امتيازات ضرورية محتكرة تشكل هذه الامتيازات مركز الصراع بين القوى المتصارعة وبهذا المنطق يتجلى لنا مفهوم المركز بصورة مغايرة لما يصنعها الإعلام ويأخذ الفهم المجازى الذى يتجسد فى سياسات الدولة وسوف نعطي لاحقاً نماذج لتجارب حية من ممارسات التهميش فى دارفور بها سوغت مشروعية الصراع باسم التهميش.
كما أشرت فى البداية، التهميش وخاصة الحالة السودانية لا يحتاج إلى مجهود كبير أو الغوص في أعماق فلسفية لتقريب المفهوم فى أذهان الناس، وقد قلنا انه المعاناة الماثلة فى الحروب والحرمان وبالتالى التهميش مرتبط مباشرة بمصالح الناس وتفسيره أكثر وضوحاً فى سياسات الإشراك inclusivity والإقصاء exclusivity. والإقصاء أو قل التهميش هو حالة حرمان مجموعة من الشعب من حقوقهم الأساسية سواء فى الثقافة والهوية أو الثروة أو السلطة وهى ركائز ثلاثة مهمة عبرها يستطيع الإنسان أن يؤدي دوره الطليعي في المجتمع وهي أقرب الى الحاجات الغريزية وبفقدها يفقد الإنسان قيمته ويبدأ من لحظتها فى البحث عن القيمة المفقودة، بالضبط كمن يفقد السوائل فى جسده وتتحرك جراء ذلك غريزة الاشباع للعطش. وفى سبيل تحقيق إشباع الغرائز قد تكون هناك متاعب كبيرة ليس الفرد وحده يتحملها وإنما كل المجتمع. ونتيجة للتكلفة العالية في تحقيق الذات في مجتمع ذى مصالح مشتركة أو متناقضة مثل المجتمع السودانى تلجأ أفراده إلى وضع قواعد تتراضى حولها لدرء مخاطر الصراع. ومن هنا تنبع أهمية المشاركة inclusivity كشرط من شروط الاستقرار والأمن في مجتمع ذي مصالح مشتركة. وأية مجموعة مهما صغر حجمها أو قلّ وزنها ستشكل مصدر عدم الاستقرار فى حالة الإقصاء exclusivity والعكس صحيح. وبناءاً على هذه القاعدة قد تصل المجموعات التى تعانى من التهميش الآن إلى دائرة التحكم على ضرورات الوجود وقد يؤدى ذلك إلى إقصاء المجموعة المسيطرة على الوضع الآن، ومع ذلك لن يكون ذلك حلاً للمعضلة ولن يجلب الاستقرار فى البلاد وفق منطق الإقصاء والاشراك وسوف لن تستسلم أية مجموعة تجد نفسها خارج دائرة المشاركة وبهذا الفهم، التهميش ليس صفة لازمة لمكان بعينه أو لمجموعات محددة بقدر ما هو ممارسة سياسية تتعلق بحرمان أو إشراك الشعب فى متطلباته الأساسية الثلاث، تحقيق الذات والسلطة والثروة.
السودان قطر حافل بتجارب سياسية قاسية في اختلال التوازن وليس بوسع المرء حصرها فى أطار مقال واحد ولكن لا بأس أن نذكر جزء من هذه التجارب وأخص التعليق على ثلاث محطات كان شخصى الضعيف شاهد عليها فى فترة من تاريخ السودان المعاصر وهى تجارب لها علاقة مباشرة بدينامية المعركة السياسية بين دارفور والأنظمة المتعاقبة فى الخرطوم. ففى تجربة انتفاضة الفاشر الشهيرة عام 1981 فى عهد المشير جعفر النميرى اتخذت السلطة السياسية قراراً بتعيين حاكمٍ للاقليم من دون أحد أبناء دارفور في مخالفة واضحة لدستور البلاد الذي ينص على أن يتولى رئاسة كل أقليم أحد أبناء الأقليم. كانت مقامرة ولكن أية حماقة ومقامرة هذه أنْ تٌعرّض إقليم مثل دارفوربثقله السكاني الكبير ومساحته الشائعة وموقعه الجيوسياسي الخطير، تعرضه للشك فى ولائه ووطنيته؟ المشهد كان مستفزاً وصادماً لأهل دارفور وقد كنتُ طالباً فى الجامعة وقتئذٍ وشاركتُ فى الحراك المضاد للقرار من ضمن أنشطة الطلاب واتذكر كانت ملحمة وطنية فريدة من نوعها وإثر تلك الاحتجاجات انصاعت السلطة السياسة لرغبة أهل دارفور وتم تعيين السياسي المخضرم أحمد إبراهيم دريج حاكماً للاقليم.
اعتبر أهل دارفور التجربة خطوة ناجحة لانتزاع الاعتراف والحقوق من أهل المركز وفعلاً انهزمت سياسة الإقصاء exclusivity تحت ضغط رغبة وإرادة أهل دارفور وتحقق الإشراك inclusivity موقتاً ولكن لم يمض الإنتصار طويلاً أمام استراتيجية الإقصاء التى يتبناها المركز تجاه أقاليم بعينها، على وجه الخصوص أقليم دارفور. ففى صيف 1983 ومن ضمن الأنشطة الطلابية كنا برفقة رئيس اتحاد طلاب جامعة جوبا الزميل عبدالقادر محمد حسن وشخصي والزميل حسن الطيب فى مكتب نائب رئيس الجمهورية الفريق جوزيف لاقو لمحتُ رجلاُ حسن الهندام وبيده حقيبة سمسونايت أنيق يدخل مكتب نائب الرئيس دونما استئذان، فعرفت أنه السيد احمد ابراهيم دريج وقد وقف فى عتبة الباب ولم يتقدم إلى داخل المكتب محيّياً نائب رئيس الجمهورية طالباً منه رقم تلفون السفير البريطاني بالخرطوم قائلاً " Do you have the telephone number of the British Embassy? " والغريب كانت الإجابة من السيد جوزيف لاقو بلا. وحينها تساءل الزميل عبدالقادر عن من هو هذه الشخصية فأجبته " بأنًه
السيد دريج ،حاكم دارفور" . من ذلك المشهد تبين لى السيد دريج غادر الخرطوم مغاضباً فى فترة قصيرة لم تتجاوز 72 ساعة من مشاهدتنا له فى مكتب السيد جوزيف لاقو على خلفية أزمة بينه وبين المشير جعفر النميرى وجوهر الأزمة هو ممارسة الإقصاء وبالاحرى التهميش ضد السيد دريج من قبل النميرى ، إذ ظل حاكم دارفور على مدى شهور يتردد على مكتب رئيس الجمهورية من أجل مقابلته دون جدوى، لقضايا جوهرية وملحة تتعلق بالإقليم ومن ضمنها المجاعة التى كادت أن تصل إلى حافة الكارثة فى الإقليم.
أحداث الفاشر 1981 وما تبعتها من مغادرة حاكم الإقليم السيد احمد إبراهيم دريج للسودان مجبراً عام 1983 من المفترض كانت بمثابة جرعة علاجية فى محاصرة وهزيمة داء التهميش الذى ظل يعانى منه دارفور إلا أن الجرثومة صمدت فى وجه المعركة وفى غضون عقدين من الزمن خاض جيل جديد من ابناء الاقليم معركة التهميش مجدداً بأدوات بدت أكثر فاعلية من ذي قبل أجبرت النظام فى المركز على الجلوس على طاولة التفاوض ولأول مرة على أجندة مفصلة وفق القضايا الجوهرية الثروة والسلطة والهوية وانتهى التفاوض باتفاقية شهدت عليها أطراف دولية. إلا أن عمق جذور التهميش فى الدولة العميقة وقف حائلاً دون تطبيق الاتفاقية وبالرغم من النقلة النوعية فى مناهضة التهميش ظل الإقصاء هو سيد الموقف وقد عبر عنه الرجل الذى وقّع على اتفاقية أبوجا وأصبح كبير مساعدى رئيس الجمهورية بلغة ساخرة فى مناسبات مكررة بأنه ( مساعد حلة) وأن وجوده فى القصر لا يعدو أكثر من مشاركة اسمية، ومصداقاً لهذا الواقع كانت حركة التحرير الموقعة على اتفاقية أبوجا فى صدام مستمر مع نظام المؤتمر الوطنى حتى لحظة مغادرتها الخرطوم والعودة الى مربع الحرب، بل حدثت معارك عسكرية داخل العاصمة وسالت الدماء بين الطرفين فى أزقة الخرطوم نتيجة للإقصاء الذى يعتقد اهل الانقاذ يستمدون منه اسباب البقاء والمَنَعَة. ويُذكّرنى هنا مقال الدكتور عبداللطيف سعيد بعنوان " الترابى والصادق اصطدما بصخرة التضامن النيلي فتحطما " . المقصود هنا بالتضامن النيلى هو مؤسسة الدولة العميقة المتخمة على حساب الملايين العراة الجياع فى هوامش السودان.وايضاً انهارت اتفاقية أبوجا بعد أن اصطدمت بصخرة التهميش والساقية لا زالت مدوره بوقود الحروب في الهامش.
الصورة التذكارية لاساطين جهاز الأمن السودانى، وتبدو هي تشكيلة لمدراء الاقسام وتم تداولها بصورة واسعة فى مواقع اسفيرية كثيرة بتاريخ 16/02/2018 وكانت بمثابة وثيقة خطيرة ومهمة تقدم لنا بجلاء مادة حية عن التهميش نوعاً ومقداراً فى السودان وهى تجسيد حقيقى ومجسم ملموس للأرقام والإحصائيات التى وردت فى وثيقة الكتاب الأسود عن اختلال موازين الحكم فى البلاد وقد وردت تعليقات عديدة تصب فى اتجاه واحد هو أن السودان تقف على أرضية من الجهوية والعنصرية وقد علق عبدالمجيد ابو ماجدة من منبر الاستنارة، على الصورة قائلاً " يكاد يجزم المرء بان هؤلاء القادة جدهم واحد لم نرى فيها كوكو وادروب وابكر وإسحاق وودابوك وبالتالي لسنا عنصريين ولكن يجب ان يكون التغيير القادم يشمل كل المؤسسات عشان تكتمل اللوحة (السودانوية)." مع إنها صورة ناطقة بالتهميش، تكشف لنا فقط وجهاً لأبعاد غير مكتملة للتهميش فى السودان وهي بشكل مباشر تنطق بلغة السلطة السياسية أو مركز اتخاذ القرار وإن كانت السلطة تشكل الآلية الرئيسية للتحكم على الثروة ومحددات الهوية سواء فى اللغة أو الفنون والآداب ايضأً تظل هناك مجالات حيوية تعاني من اختلال بنيوي يتنافى مع واقع التنوع فى السودان، فالسودان فى تنوعه لا يجد نفسه فى مرآة الدولة الاعلامية والتمثيل الدبلوماسي ولا فى اللغات والموروث الثقافى الذى يجب أن يزدان به واجهتنا الاعلامية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.