شهامة السودانيين في شيكاغو خففت مصاب صديقنا فتحي الضو….. كان اليوم الأخير من البرنامج الرسمي مخصصا لحلقة نقاشية حول حالة ووضع حرية الصحافة في أمريكا. أدار الحوار البروفيسور جوشوا فريدمان من جامعة كولومبيا، وتحدث في الموضوع ديفيد كانساس من صحيفة وول ستريت جورنال، والسيدة إيديث ليديرر من وكالة اسوشيتدبرس. وبدأ كانساس الحديث من تجربته الشخصية في العمل في أوروبا ثم من نيويورك، واشار إلى اتساع هامش الحريات في بلاد لا يوجد بها قانون للصحافة، ولا يوجد نظام لقيد وتسجيل الصحفيين، كما لا توجد مسؤولية جنائية في قضايا النشر يمكن أن تعرض الصحفي للسجن، وإنما هي قضايا مدنية تستوجب التعويض لو ثبت تضرر الشاكي. كما أشار إلى سهولة الحصول على المعلومات والوثائق في أمريكا حيث يوجد قانون لحرية الحصول على المعلومات، وسهولة تكوين مصادر في مجال اختصاص الصحفي. أما السيدة ليديرر فهي صاحبة تجربة ضخمة في العمل كمراسلة لوكالة أسوشيتدبرس داخل وخارج أمريكا، بما في ذلك آسيا وأوروبا، وتوجت ذلك بكونها أول مراسلة حربية أبان حرب فيتنام، حيث خاضت تجربة خطرة لكنها مميزة اضافت الكثير لسجلها المهني. وحين لفتت السيدة ليديرر الانظار بحديثها السلس عن تجربتها الكبيرة، كان عدد من زميلاتنا الصحفيات منبهرات بأناقتها الشخصية المميزة، رغم أنها تجاوزت السبعين. قراوند زيرو كانت زيارتنا لمنطقة “قراوند زيرو” التي كان بها برج التجارة العالمي، مقررة مسبقا وقبل ان نسافر إلى أمريكا، وتاريخها نهار يوم الخامس من مايو. لكن اثناء وجودنا هناك حدثت واقعة مقتل بن لادن، وقرر الرئيس أوباما استثمار القضية لرفع أسهمه في الانتخابات القادمة، وزيارة “قراوند زيرو” في نفس اللحظة والتوقيت خاصتنا. قال لنا منظمو الزيارة أنهم قد يفلحون في إقناع المكتب الصحفي للبيت الابيض بتضمين أسمائنا ضمن الصحفيين المرافقين للرئيس في جولته تلك، لكن المحاولة لم تنجح لأن أوباما طلب من البيت الابيض اختصار الوجود الإعلامي إلى أضيق نطاق ممكن. وهكذا وقفت مجموعتنا على أطلال برجي التجارة دون أن تتمكن من دخول المساحة المحاطة بوجود أمني مكثف. الغريب أن مجموعتنا كانت تضم السودان والسعودية وفلسطين والأردن والمغرب، وكلها بلاد متهمة بدعم الإرهاب، وربما المساهمة في ما حدث في 11 سبتمبر في نيويورك، لكن لم تكن هناك معاملة خاصة بنا، أقول ذلك لأننا تجاذبنا الحديث مع رجال الأمن، أثناء وجود موكب أوباما، وسألناهم عن كيفية الذهاب لمنطقة بروكلين القريبة. وتعرف رجال الأمن على لكنتنا غير الأمريكية وسألونا عن بلادنا، فأجبناهم. بل أن أحد رجال الأمن أصر على تلقيننا اللهجة التي يجب أن نحادث بها سائق التاكسي قائلا أن السائق لو اكتشف أننا غرباء فربما يستغلننا. منطقة “قراوند زيرو” لم تعد خالية، فهناك برج كبير يتم بناؤه تحت مسمى “برج الحرية” وتم تخصيص منطقة مجاورة لبناء نصب تذكاري لضحايا انهيار برجي التجارة، سيكتب عليه اسماؤهم. ليلة مقتل بن لادن كنا في واشنطون ليلة مقتل بن لادن، والحقيقة رغم كوني كنت مستيقظا في الساعة الواحدة صباحا، إلا أنني لم أكن أتابع التليفزيون، فنبهني الدكتور عبد الماجد بوب بمكالمة تليفونية من كاليفورنيا لأتابع التقارير التليفزيونية. ووجدتني بعد دقائق في ردهة الفندق مع مجموعة من الصحفيين وكأن تفكيرا جماعيا قادنا لذلك، ثم جاء الاقتراح: لنذهب للبيت الأبيض. كنا نسكن في فندق لا يبعد كثيرا عن البيت الأبيض، فهرعنا مشيا إلى هناك لنجد المئات من الناس قد سبقوننا، ومعظمهم، كما هو واضح، من شباب الجامعات، كانوا يغنون النشيد الوطني ويرقصون وهم يلوحون بالأعلام الامريكية. ربما لا يستطع الشخص القادم من منطقتنا فهم هذا الأمر، لأن التقديرات مختلفة. أسامة بن لادن ليس مجرد رجل حرب عصابات قام بعمل إرهابي، لكنه فعل أكثر من ذلك بكثير. هو قام بعمله داخل أمريكا نفسها، وأختار منطقة برج التجارة العالمي في نيويورك، عروس المدن الأمريكية، فبدا وكأنه يوجه رصاصة للقلب، ثم جاء حجم الضحايا الكبير من المدنيين من مختلف الطبقات والأعمار والألوان والجنسيات فأضاف عمقا جديدا للجراح. وفوق هذا وذاك فقد اختبأ بن لادن ومعه عصبة صغيرة من الأعراب في مكان ما، بحيث عجزت حكومة الولاياتالمتحدة بكل أجهزتها وامكانياتها عن العثور عليه، لذا كان فرح الأمريكيين مبررا ومسببا بكل ما ذكرناه. صبيحة اليوم الثاني وعندما توجهنا لمكان أنشطة احتفالات اليوم العالمي للصحافة في متحف الأخبار “نيوزيوم” كان معرض الصفحات الأولى للصحف الأمريكية، الذي يحتل مدخل المتحف، يحتله أسامة بن لادن اسما وصورة، وفي كل الصحف وبلا استثناء. المجموعة المسؤولة عن الزيارة لا يمكن الحديث عن الزيارة دون الإشارة للمجموعة المشرفة عليها وإخلاصها وتفانيها في العمل، كانوا، كما هو واضح، يجدون متعة في العمل، ولا يؤدونه كوظيفة فقط، لذلك فهم جاهزون لكل مساعدة ولأي طلب حتى لو كان شخصيا، الإجابة دائما نعم، أو سنحاول، لهم التحية: جوزيه سانتانا، الدكتورة أليسون مان، السيدة أندريا كوري والسيدة حي بي ليدي. البرنامج الشخصي من نيويورك ابتدأ برنامجي الشخصي الذي يشمل زيارات للأصدقاء والزملاء وصلة الأرحام، ولا عجب في ذلك، فلكل سوداني أرحام في أمريكا أينما اتجه. أخذني البرنامج الشخصي إلى عدد من الولايات، وقطع بي خريطة أمريكا بالعرض من الشرق إلى أقصى الغرب. من الفندق الذي كنت أقيم به في نيويورك أخذني قريبي بسيارته إلى نيوجيرسي التي تبعد حوالي 45 دقيقة فقط حيث قضيت ليلتي هناك، ومن جيرسي أخذت القطار إلى فيلادلفيا- بنسلفانيا في رحلة سريعة استغرقت حوالي ساعة ونصف فقط. وهناك ايضا قضيت يوما واحدا ثم اتجهت نهار اليوم الثاني إلى واشنطون، بالقطار ايضا، حيث وعدت الزملاء في اتحاد الصحفيين السودانيين بالولاياتالمتحدة بالحديث في ندوة عن الوضع السياسي الراهن. ما تزال أمريكا، سيدة العالم المتقدم، تضع القطار ضمن أهم وسائل النقل فيها، وتتعهده بالرعاية والعناية، وهو في الحقيقة أكثر الوسائل راحة، أكثر من الطائرة والسيارة، لكن عباقرة الاقتصاد والسياسة في السودان أعدموا السكة الحديد والقاطرات باعتبارها رموز لعهد التخلف. في واشنطون في واشنطون كان الصديق طارق الشيخ، رئيس اتحاد طلاب جامعة الجزيرة السابق، في انتظاري بالمحطة ليقلني لمنزل الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان، خبير قوانين المياه بالبنك الدولي، في واحدة من ارقى ضواحي واشنطون، حيث قضينا وقتا جميلا ومفيدا معه. مساءات واشنطون، وبالذات في عطلة نهاية الاسبوع لا تخلو من الأنشطة السودانية، ولعل جالية واشنطون الكبرى تعد من أنشط الجاليات السودانية في أمريكا، بتنظيماتها وتشكيلاتها المتعددة. في اليوم الأول لوصولي، السبت 30 ابريل، اصطحبني الصديق منتصر أبا صالح لندوة عن مشروع الجزيرة أقامها الاستاذ صديق عبد الهادي الذي يخصص كل وقته ومعرفته للدفاع عن المشروع ومزارعيه، وتوج ذلك بكتاب رصين ومفيد كان هو موضوع الندوة. في يوم عودتي لواشنطون بعد انتهاء البرنامج الرسمي، السبت 7 مايو، كانت هناك ليلة تضامنا ومؤازرة للشاعر الجميل محجوب شريف، تحدث عنه الناس بكل ما فيه من خير وجمال، وغنى له الموصلي وعمر بانقا وعاطف أنيس وكورال التحالف الديمقراطي، وغردت أوركسترا أوتار النيل بقيادة الموسيقار ميرغني الزين. في اليوم الثاني تحدثت لجمهور كبير في ندوة اتحاد الصحفيين عن الوضع السياسي الراهن، حيث قدمت رؤية وقراءة شخصية، وكنت سعيدا بلقاء ورؤية كثير من الزملاء الصحفيين، الخاتم المهدي، صلاح شعيب، عبد المنعم شيخ إدريس، علاء الدين بشير، محمد يوسف وردي، عبد الفتاح عرمان، حسن أحمد حسن، هذا إلى جانب كثير من الكتاب المداومين في الصحف والمواقع المختلفة: السفير علي حمد إبراهيم، ودكتور أحمد خير، إبراهيم علي إبراهيم المحامي، الدكتورة شذى بلة، الفنان تبارك شيخ الدين، نصر الدين كوستاوي، الناقد والقاص صلاح الزين، وكثير غيرهم. أما عمدة واشنطون الشاعر عزمي أحمد خليل فقد نجوت منه بكرامة البليلة، فقد هاتفني غاضبا كيف لا أبدا أيامي في واشنطون من منزله، هكذا يفعل الجميع، قالها لي بلهجة صارمة. وأعلن عدم اعترافه بقدومي حتى أصله في المنزل واقضي أيام الضيافة الشرعية، ثم بعدها لكل حادث حديث. لكن مع أكان ذلك في يومي الأخير في واشنطون، ووعدته بتنفيذ ذلك إن عدت لواشنطون، لكني لم أعد. وفي شيكاغو: من منزل الزميل والصديق صلاح شعيب خرجت فجر الاثنين التاسع من مايو إلى مطار دالاس في واشنطون متجها إلى صديقي فتحي الضو في شيكاغو. بيني وبين فتحي وأسرته خوة وصداقة ممتدة لأكثر من عشرين عاما، أقمت معهم في منزلهم باسمرا مرات كثيرة، وشهدت أبناءه رنا ورؤى واحمد يكبرون امامي، لم يكن الصغير داني قد ولد بعد، وامام نظر والدتهم السيدة الفاضلة وداد صديق رحمها الله ورزقها الجنات العليين. كنت أعلم بمرضها وأتابع حالتها من سنوات، كان فتحي يقول لي أنه يستمد صموده وصبره منها، تقوم من نوبة مرض مهلكة وكأنها كانت في غفوة صغيرة، لتتعهد بيتها وأسرتها بالرعاية والعناية، وتنشر بينهم المودة والرحمة والحنان والتفاؤل بالمستقبل. كانت زيارة فتحي ووداد في شيكاغو هي البند الأول في برنامجي، وكنت متلهفا لها وأنا اسمع عن تدهور الحالة الصحية للراحلة وداد، وقرأت الحالة في وجه فتحي حين استقبلني صباح الاثنين في مطار شيكاغو، قال لي من بين دموعه الغزار ” وداد تنسرب من بين أيدينا”. بعد ساعة كنت في حضرتها في المستشفى، أبكتني وهي تعتذر لي بأنها غير قادرة على استقبالي في المنزل وخدمتي وضيافتي كما اعتادت.، وتسألني عن زوجتي التي لم تراها ابدا “ماكنت تجيبا معاك عشان أشوفا”. قضينا يومين في المستشفى، كانت حاضرة ومستيقظة في اليوم الأول، وأوصت فتحي أن يأخذني للمنزل ويعد لي عشاءا ساخنا، قلت لها أنني سأعطيها تقريرا في الصباح عن أداء فتحي في المطبخ، لكن بعد ساعتين كنا نعود للمستشفى بعد تدهور حالتها ودخولها في نوبات اغماء وصعوبة في التنفسز نهار الأربعاء كان فتحي وبقية الاصدقاء هناك، ومن بينهم الرجل الفاضل الدكتور عبد العظيم صديق، يحثونني على السفر حسب خطتي المعدة إلى سان فرانسيسكو، طالما أن ايامي محدودة ولن أستطع أن أمدها، خرجت مكرها إلى المطار، وحالما هبطت مطار سان فرانسيسكو، أي بعد أربع ساعات، فتحت الهاتف لأهاتف فتحي، وكانت قد رحلت، رحمها الله. رغم الحزن الهائل، فقد كنت مطمئنا إلى حد ما على فتحي وأسرته، فما رأيته من السودانيين في شيكاغو أذهلني، ولو لم أر بعيني لما صدقت أنني في شيكاغو، ولست في إحدى قرى الجزيرة أو شمال السودان أو شرقه وغربه. المستشفى ملأى بعشرات السودانيين على مدار الأربع وعشرين ساعة، رجال ونساء وشباب من الجنسين من الذي ولدوا ونشأوا في أمريكا، حملوا أجمل ما في السودان من قيم واكتسبوا أفضل ما في أمريكا من صفات. جاهزون لكل خدمة وأي طلب، سيارات الشباب جاهزة لتوصيل كل من يريد الذهاب لأي مكان، وهم باقون ليلا بالمستشفى للطوارئ. وأسعدني أن كان من بينهم أسرة صديقنا الصحفي الراحل محمد حسن شطة، زوجته بشيرة، وأبناؤه ناصر وأحمد وأيمن. شكرا لهم جميعا ولقلوبهم العامرة بالشهامة والإنسانية. كاليفورنيا..كاليفورنيا عصر الأربعاء 11 مايو كان أحمد ابن الدكتور عبد الماجد بوب في انتظاري في مطار سان فرانسيسكو، وتولاني الدكتوور بوب بالرعاية طوال اليوم الأول ونصف اليوم الثاني، وكان دليلي إلى معالم سان فرانسيسكو وسواحلها، وسط المدينة وكوبري “قولدن قيت” المعلق، ومنظر سجن “الكاتاراتز” الشهير. كنت هناك لألتقي شقيقي الأكبر هاشم، والذي لم نلتقيه منذ خروجه من السودان عام 1990، والحقيقة لم يلتقيه من الأسرة إلا والدنا، رحمه الله، الذي قضى معه ستة أشهر في منتصف التسعينات. وسعدت بالتعرف بأصدقاء كثيرون لهاشم ولي، فرقت بيننا الأيام. اسعد أيامي الست في كاليفورنيا كانت في ضاحية مونتري الجميلة، التي يقيم فيها عدد كبير من السودانيين يعملون في معهد حكومي لتدريس اللغة العربية. المدينة صغيرة وجميلة وهادئة، تنام على ضفاف المحيط الباسفيكي، وتتنوع طبيعتها بين تلال وجبال ووديان، وتغطيها الخضرة. كنا ضيوفا بمنزل الكاتب والناقد عبد اللطيف علي الفكي وزوجته الفنانة والمخرجة مريم محمد الطيب، لكننا كنا أيضا ضيوفا على كل أهل مونتري الذين احتفوا بنا اي احتفاء، الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم وصديقنا حمدان جمعة والدكتور علي الهدي والدكتور الشاعر عبد الرحيم عبد الحليم، وعشرات غيرهم. ولأن السودان يسكن قلوب السودانيين أينما كانوا أو حلوا، فقد كانوا أيضا يريدون ان يسمعوا حديثا عن السودان، وقد كان ذلك بمكتبة المدينة.