شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طَالِبَاتُ جَامِعَةِ السُّودَانِ ومُنَازَلةُ الهَوَسِ الدِّينِي! …
نشر في حريات يوم 18 - 07 - 2011


مِنْ الجُّزْئِي إلَى الكُلِّي:
السِّياسات (العليا) والسِّياسات (الدنيا) مفهومان سالكان في حقل العلاقات الدوليَّة بدلالة التمييز بين نوعين من القضايا، الأول قضايا التعايش السلمي، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، وما إلى ذلك، والآخر قضايا محاربة الإيدز، وغسيل الأموال، وما شابه. نفس هذين المفهومين يمكن استخدامهما في حقل الصِّراع الاجتماعي الذي تنتسب إليه الثورات، والانتفاضات، والهبَّات، وشتى أشكال التعبيرات الجَّماهيريَّة، واسعة كانت أو ضيِّقة، سلميَّة أو مسلحة، لكن مع الفارق، حيث يقع الاستخدام هنا بدلالة التمييز بين القضايا (الكليَّة الجذريَّة)، كالهدم السِّياسي، والبناء الوطني، والتغيير الاقتصادي، من ناحية، والقضايا (الجزئيَّة الآنيَّة)، كالمطالب النقابيَّة، والاحتجاجات الفئويَّة، والإجراءات الإصلاحيَّة، من ناحية أخرى. غير أنه، ولئن كان الفارق كبيراً بين النوعين الأوَّلين من قضايا العلاقات الدَّوليَّة، فليست ثمَّة هوَّة تفصل، في منظور السيرورة التاريخيَّة، بين (الكلي الجذري) وبين (الجزئي الآني) من قضايا الصِّراع الاجتماعي؛ إذ أن العلاقة بين هذين النوعين هي، في نهاية المطاف، علاقة (التراكم الكمِّي) ب (التغيُّر الكيفي)، أو، علاقة (مستصغر الشَّرر) ب (الحريق الشَّامل)، حيث يترتب الأخير على توفر قدر معيَّن من الأوَّل؛ وما من راشد، في جبهة الحكم أو المعارضة، يمكن أن يستهين بأثر وخطر علاقة كهذه!
(1)
ينتسب إلى النوع (الجزئي الآني) من قضايا الصِّراع الاجتماعي الكثير مِمَّا شهد السُّودان، على مدى السَّنوات الماضية، وما زال يشهد، من تعبيرات الحراك والتململ والتضجُّر العام الذي انخرطت فيه، وما تزال تنخرط، كتل وشرائح طبقيَّة، وفئويَّة، ومهنيَّة، ونوعيَّة، كالعمَّال والمزارعين، والأطباء والمعلمين، والطلاب والصحفيين، والنساء والمهمَّشين، والمعاشيين والمفصولين، وغيرهم، إزاء أوضاع وجدوها، وما زالوا يجدونها، بمعيار العدل والقسطاس، شائهة معوجَّة، في الاقتصاد والسِّياسة، كما في الاجتماع والثقافة.
ولعلَّ من أبرز هذه الحراكات (الجزئيَّة الآنيَّة) التي وقعت في بلادنا مؤخَّراً، والتي تنضاف، من كلِّ بُدٍّ، إلى (التراكم الكمِّي) الجَّاري حثيثاً، رغم أنها تكاد لا تلفت الأنظار المشغولة برصد دمدمة (الربيع العربي) الثوريَّة الهائلة وحدها، تظاهرات طالبات جامعة السُّودان للعلوم والتكنولوجيا، قبل نحو من شهر أو يزيد، احتجاجاً على قرار إدارتها بفرض زيٍّ موحَّد عليهنَّ، الأمر الذي كان من نتيجته أن دخلن في مشادَّات حامية مع الحرس الجَّامعي عندما منعهنَّ من الدخول لعدم إرتدائهنَّ الزِّي الموحَّد، رغم سماحه بدخول أخريات لا يرتدين الزيَّ الموحَّد، لكنهنَّ يرتدين ما تعتبره النخبة الإسلامويَّة الحاكمة (زيَّاً إسلاميَّاً)، في تمييز (أيديولوجي) صارخ لا علاقة له ب (ضبط المظهر الجَّامعي) مِمَّا سيق في تبرير القرار!
(2)
في مخاطبتهنَّ العامَّة أمام بوَّابة الجَّامعة أعلنت الطالبات عن رفضهنَّ الجهير لقرار الزِّي الموحَّد، ثمَّ ما لبثن أن اعتصمن أمام مكتب مدير الجَّامعة يطالبنه بإصدار قرار “ممهور بتوقيعه” يقضي بإلغاء هذا الزِّي. ومع أن اتحاد الطلاب سعى إلى (التهدئة) عبر اتصالات أجراها مع السَّيِّد المدير لإلغاء الزَّي الموحَّد “مع التأكيد على الزِّي المحتشم”، إلا أن الطالبات رفضن هذا الحل، باعتبار أن “الاحتشام لا يتحدَّد من منظور الهوس الدِّيني”!
مسعى اتحاد الطلاب إلى (التهدئة)، وهو الموالي لجبهة حُكم تحتوشها الأزمات من كلِّ حدب وصوب فتتركها لتنشغل بتحديد أطوال الفساتين، إنما يدلُّ على سداد القول بأن جبهتي الحكم والمعارضة كلتيهما يفترض أن تعنيا بمراقبة (التراكم الكمِّي) المرشَّح، في درجة منه، لإحداث (التغيُّر الكيفي)، تماماً كما يراقب سكان الجزر النيليَّة درجات ارتفاع منسوب المياه عند شواطئهم في مواسم السيول والفيضانات!
(3)
(اللائحة) المتضمنة ل (القرار) أو (الأمر) بالزِّي الموحَّد هي بمثابة (القانون) المراد له أن يسري في المحيط المحلي للجَّامعة؛ ولا يمكن، حسب طبيعة (النظام) الشُّمولي الحاكم، إلا أن تكون صادرة بمعرفة وتوجيه آليَّة السُّلطة السِّياسيَّة المكرَّسة لإدارة شأن التعليم العالي في البلاد، والتي اختارت، ولا بُدَّ، تجريب إنفاذ هذه (اللائحة)، ابتداءً، في جامعة واحدة كنوع من ال test case، بحيث يتوقف على مدى نجاحها أمر تعميمها، لاحقاً، في بقيَّة الجَّامعات والمعاهد العليا.
هذه (القوانين/اللوائح/الأوامر/القرارات) تستهدف، في العادة، وبوجه عام، بسط سلطان النظام الحاكم، سواء في المجتمع ككل، أو في أصغر وحداته (الجَّامعة في الحالة الماثلة)، إلى المدى الذي يمكن فيه تأطير سلوك المحكومين (الطالبات في الحالة الماثلة)، وضبطه على موجة أيديولوجيا الطبقة السائدة اقتصاديّاً وسياسيّاً، أو النخبة التي تمثلها، أي كتلة الأقليَّة، في المجتمع المنقسم على نفسه، بما في ذلك النطاق الضَّيِّق للفضاء الجَّامعي.
ورغم اجتهاد النظام في تصوير مثل هذه (القوانين/اللوائح/الأوامر/القرارات) كما لو كانت تمثل أرفع القيم التي تحكم علاقات الجَّماعة البشريَّة ومؤسَّساتها، فإن ذلك ليس صحيحاً، اللهمَّ إلا افتراضاً، فحسب، حيث أن مضمونها الحقيقيّ يعكس، فقط، جِمَاع (الأفكار/الآراء/التصورات/التقديرات) الأساسيَّة المنوط بها التعبير عن، وحماية، مصالح كتلة الأقليَّة؛ وهي مسألة لا يتمُّ الاعتراف بها، عادة، وإنما، على العكس، يجري تصوير هذه (القوانين/اللوائح/الأوامر/القرارات)، من قبل السلطة في المجتمع (إدارة الجَّامعة في الحالة الماثلة)، كما لو كانت نسقاَ متجانساً من السُّلوك الأخلاقي القائم على عناصر الحقِّ والخير والجمال، والنابع من ثقافة الجَّماعة كلها، والذي يحظى، لهذا السبب تحديداًً، ب (إجماعها) التلقائي.
غير أن زيف هذه الصُّورة سرعان ما يفتضح حين يتكشَّف أن نفاذه مدخول بأداء مؤسَّسات القمع وأدواته (الحرس الجَّامعي في الحالة الماثلة)، والتي ما من شكٍّ في كونها مقطوعة الصلة، تماماً، بأبسط معاني (التلقائيَّة الأخلاقيَّة)!
(4)
وإذن فهاتيك الطالبات لم يكتفين برفض بيان الاتحاد (المنسوب إلى النخبة الحاكمة)، والذي سعى إلى (التهدئة) من خلال اتصالات أجراها مع المدير (ممثل النخبة الحاكمة) بغرض إلغاء الزَّي الموحَّد “مع التأكيد على الزِّي المحتشم”، كما ورد في البيان، بل مضين إلى أبعد من ذلك بأن عبَّرن، من خلال هذا الرفض، عن مستوى رفيع من الوعي الاجتماعي حين قطعن بأن “الاحتشام لا يتحدَّد من منظور الهوس الدِّيني”!
هكذا ميَّزت الطالبات، في خطابهنَّ، بين (الدِّين) وبين (الهوس الدِّيني)، من حيث كون الأوَّل قيمة مطلقة والآخر ممارسة بشريَّة، فدفعن بقضيَّتهنَّ (الجزئيَّة الآنيَّة)، المتمثلة في رفض (لائحة) الزِّي الموحَّد باسم (الاحتشام)، إلى قلب معركة المرأة الأساسيَّة ضدَّ اضطهادها، وتحجيم دورها، والحط من قدرها، باسم قيم مطلقة، دينيَّة بالأخص، يجري تأويلها وشحنها بمفاهيم معادية لجنس النساء، من منطلق ثقافة الطبقة الاجتماعيَّة السَّائدة، وتحيُّزاتها الأيديولوجيَّة، والتي هي أبعد ما تكون، للمفارقة، عن جوهر تعاليم الإسلام نفسه الذي تزعم الانطلاق من منصَّته. فالخالق، حسب هذه التعاليم، قد كرَّم الإنسان من حيث هو إنسان، شاملاً جنس النساء كما جنس الرِّجال، بأن أوكل إليه عمارة الأرض، وجعله في مرتبةٍ أعلى حتى من الملائكة أنفسهم، ولم يتركه يضرب في هذه الأرض بلا هدى، بل زوَّده، رغم اختلاف الملل والنحل والثقافات، ب (بوصلة) الوجدان الجَّمعي العامَّة القائمة على مقايسات (الفطرة السليمة)، ووهبه نعمة (العقل) الذي هو مناط التكليف، مثلما وهبه نعمة (الحرِّيَّة)، فلم يقسره حتى على الإيمان به. ويلخِّص راشد الغنوشي الأمر بقوله: “أوكَل الخالقُ لهذا الكائن المكرّم بالعقل والإرادة والحرِّيَّة والمسؤوليَّة مهمَّة عمارة هذا الكون، واكتشاف طاقاته، وتسخيرها لتحقيق الخير والحق والعدل والمساواة والحرِّيَّة والمعرفة والثروة للجَّميع، وفق الضَّوابط والمناهج والقيم والعقائد التي جاء بها الرُّسل عوناً من الله ورحمة لهذا المخلوق حتى يحقق، بإرادته واختياره، سنن الله في حياته كما تحققت تلك السُّنن لدى الكائنات جبلة وغريزة .. (و) قد اكتسب (الإنسان)، بمقتضى ذلك التكريم، حقوقاً لا سلطان لأحدٍ عليها، ويحمل تكاليف لا انفكاك له منها” (محاور إسلاميَّة، القاهرة 1989م، ص 68).
واهمٌ، إذن، من يتصوَّر أن (القوانين/اللوائح/الأوامر/القرارات) تكتسب (قوَّة الشرعيَّة) لمجرَّد أن (سلطة) ما قد أصدرتها، ونصَّبت أداة قمع لإنفاذها، وليس بحسب المدى الذي تحظى فيه باحترام الناس، واستشعارهم الذاتي، بمحض (الفطرة السليمة) قبل كلِّ شئ، لواجبهم في الالتزام بها، كونها تعبِّر، إلى حدٍّ معقول عن أعمِّ القيم والمثل الأخلاقيَّة لأوسع الطبقات الشعبيَّة؛ والعكس صحيح، فكم من (القوانين/اللوائح/الأوامر/ القرارات) لا تستند إلا إلى (شرعيّة القوّة) المحروسة بأجهزة القمع، لا غير، ولهذا لا تحظى بذرَّة احترام في إطار البناء الأخلاقي العام لثقافة الشعب، أي جماع القيم الاجتماعيَّة التي تمثل أفضل عناصر القيمة في المنظور الأخلاقي الجَّمعي، والشكل المحدَّد للوعي الاجتماعي الذي لا يُفرض من خارج المجتمع.
(5)
إن أعجل تناول لمسألة نزوع السلطة عموماً، وإدارة الجَّامعة خصوصاً، إلى التحكم، باسم الدِّين، في زيِّ النساء، بما في ذلك الطالبات، لا يمكن أن يغفل ما يلوح فيه من نظرة مستريبة إلى المرأة كملوَّثة (بالفتح) وملوِّثة (بالكسر)، ومن تحيُّز ناشئ ضدَّها عن موقف فكري مترتب على أوضاعٍ اقتصاديَّة اجتماعيَّة ظالمة لها، بشكل عام؛ وهو موقف ذكوري متوارث، تاريخيَّاً، داخل الجماعة العربيَّة المسلمة في المنطقة، وفي السودان بالأخص، ومدخول بتأثيرات اغريقيَّة ورومانيَّة وفارسيَّة بعيدة كلَّ البعد عن جوهر تعاليم الإسلام، وتوجيهاته، ومقاصده الكليَّة، بشأن النساء. فوضع المرأة في إطار الحضارتين الإغريقيَّة والرومانيَّة كان، دائماً، وضع الكائن المهمَّش، أو هو، بالأحرى، وضع (المتاع المصون)، حتى لقد اعتبرت أفكار أرسطو حول تعليم المرأة، في مرحلة لاحقة من التطور، أفكاراً ثوريَّة. وكان الفرس أيضاً يعتبرون المرأة كائناً شريراً قادراً على جلب النحس وتخريب الدنيا، فكانت تعامل على هذا الأساس! ولقد وجد استضعاف المرأة وتهميشها في مجتمعات القرون الوسطى البربريَّة، الجيرمانيَّة، الصربيَّة والآريَّة، حيث سادت العقليَّة الثيوقراطيَّة، الاجتهادات الفقهيَّة الاكليروسيَّة التي تبرِّر ذلك الاستضعاف والتهميش.
أما الإسلام فقد اتخذ، على النقيض من ذلك، ومنذ فجره الباكر، موقفاً إيجابيَّاً من المرأة، إذ نَزَل القرآن الكريم منزِّهاً لها من صفات الشَّيطان الرَّجيم جالب الشرِّ التي كانت قد ألصقت بها: “فاستجاب لهم ربُّهم إني لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعض” (195 ؛ آل عمران). وتلفت فاطمة المرنيسي النظر إلى الآية الكريمة: “إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصَّادقين والصَّادقات والصَّابرين والصَّابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدِّقين والمتصدِّقات والصَّائمين والصَّائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعدَّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً” (35 ؛ الأحزاب). وبحسب إشارة المرنيسي فإن هذه الآية، على وجه التخصيص، تنصُّ بوضوحٍ “.. على أن الجِّنسين متساويان، وبدقة، بصفتهما أعضاءً في الجَّماعة؛ فالله يُفاضل بين هؤلاء الذين هم جزء من أمَّته، هؤلاء الذين لهم الحقُّ في ثوابه بدون حدٍّ. وليس الجِّنس هو ما يحدِّد فضله. إنه الإخلاص والرَّغبة في خدمته وطاعته” (الحريم السِّياسي النبي والنساء، ط 2، دار الحصاد، دمشق 1993م، ص 150).
(6)
هنا يبرز السؤال: من أين، إذن، تسلل مفهوم (الحريم/مصدر الشَّر) إلى تديُّن المسلمين العرب، عموماً، والمستعربين المسلمين السُّودانيين بخاصة؟! الإجابة: من تركيا العثمانيَّة. جاءنا هذا المفهوم في السُّودان، مثلنا مثل كل بلدان الشَّرق التي أخضُعت إلى تركيا العثمانيَّة، وألحقت بها، ليس من الإسلام، بل من ثقافة هذا البلد بالذات، والتي تأثرت، إلى حدٍّ بعيد، بثقافة القبائل الآريَّة النازحة من منطقة البلقان، حاملة معها الفكرة الفارسيَّة عن (المرأة الشَّر)، لتتلاقح مع الفكرة الرومانيَّة عن (المرأة المتاع)، لتنتج النظرة السَّالبة السَّائدة في معاملة الرَّجل الأوربي العادي للمرأة في الكثير من بلدان هذه المنطقة. لقد لعب انتهاء الخلافة الرَّاشدة، وتحوُّلها إلى مُلك عضود، بانتقالها إلى الشَّام وبغداد، أي إلى مركز الثقل في تأثير الحضارتين الرومانيَّة والفارسيَّة، الدور الأكبر في تعطيل الإسلام المستنير بشأن المرأة خصوصاً، والابتعاد عن أصوله في القرآن والسُّنة. وكان طبيعيَّاً، بعد أيلولة الخلافة إلى الباب العالي، أن تنداح دوائر الأثر السَّالب للثقافة العثمانيَّة، لتحلَّ محلَّ الدِّين، ولتطال الأصقاع التي انبسطت سلطتها عليها، ومنها السُّودان.
مقاومة الطالبات لمحاولة إدارة الجامعة فرض زيٍّ معيَّن عليهنَّ باسم (الاحتشام) تثير مسألتين مهمَّتين: فمن ناحية يعكس خطاب هذه المقاومة، وعياً بجوهر الإسلام يفوق، بما لا يُقاس، أطروحة الذهنيَّة الذكوريَّة المعادية للمرأة باسم الاسلام؛ ومن ناحية أخرى، ورغم انتساب هذا الحدث إلى السِّياسات (الدنيا) الجزئيَّة، كالمطالبات، والاحتجاجات .. الخ، فمن نافلة القول أن من لا يرى انطواءه، جدليَّاً، على بذرة السِّياسات (العليا) الكليَّة، كالهدم، والبناء، وما إليهما، غافل .. غافل!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.