تقول الكاتبة الصينية البريطانية “يونغ تشانغ” إنها كانت تعتقد وهي في الثانية عشرة أن الزعيم الصيني “ماوتسي تونغ” إله، وحاولت الانتحار لأنها لم تستطع أن تلمح وجهه خلال زيارة إلى بكين. لكن الكاتبة نفسها بعد أربعين عامًا من تلك الواقعة، وضعت سيرة ذلك الرجل واعتبرته أكبر قاتل جماعي في التاريخ. ويبدو أن البشر يفقدون وجودهم المستقل بمرور سنوات الحكم المطلق لحكامهم، ويصبح الزعيم قضيتهم المركزية التي تسيطر عليهم بشكل كامل ويصبح في نظرهم هو الإله. لذلك لم يكن غريبًا أن تسير الدبابات الأميركية بأمان في شوارع بغداد بينما وزير الإعلام في نظام صدام ينفي ما يراه الناس بعيونهم حول العالم مواصلاً تهديداته بذبح “العلوج”، حتى أصبح أضحوكة عالمية وصُنعت دمية على هيئته. فلم يكن الوزير العراقي يكذب، أعني أنه لم يكن واعيًّا بممارسته الكذب، بل كان يعيش في دوامة من الكذب والأوهام فلا يرى من حوله إلا الأباطيل. وفي حالة مشابهة لتأليه الزعماء، كان هناك زعيم ديني توهّم الناس لسنوات أنه ولي من الأولياء وقاب قوسين من العصمة، وأشيع أن صورته منعكسة على القمر، فأخذ الناس ينظرون إلى القمر من فوق أسطح منازلهم وهم يكبِّرون، وأشيع أن شعر رأسه موجود في المصاحف، وكان الناس يفتحون المصاحف فيجدون الشعر فعلاً، وهو شعر رؤوسهم الذي يتساقط بينما هم يقرؤون في المصحف، وفي أي كتاب يقرؤه المرء باستمرار. وأغلب الظن أن من تبقوا مع القذافي من أعوانه القلة القليلة من الليبيين الذين يرقصون في شوارع طرابلس الآن وهم يرفعون صوره ويهتفون باسمه ويصرخون بشكل هستيري، وكذلك أولئك الذين يفعلون مثل ذلك في عواصم عربية أخرى مبتلاة بزعماء على هذه الشاكلة، كل واحد منهم محاصر في قاعة محوطة بالمرايا من كل جانب، كلما اتجه نظره إلى مرآة منها، رأى زعيمه منعكسًا منها، إلى درجة أنه لا يتخيّل أن تستمر الكرة الأرضية في الدوران إلا بوجود ذلك الزعيم. فلو لم يكن الأمر كذلك، لما انتشرت في الإنترنت صور أشخاص ينتمون لأحد البلاد العربية التي تشهد احتجاجات شعبية عارمة وهم يسجدون لصور زعيمهم في خضوع تام كأنهم بين يدي الله عز وجل، ويقال إن أحد شيوخ الدين المعروفين من ذلك البلد، أفتى بجواز ذلك، وزاد فضيلته في تضليله بالقول إن المتظاهرين يريدون إسقاط الإسلام وليس النظام، وسمعت بأذني على إحدى الفضائيات الحكومية شخصًا يتصل ويدعي أنه شاعر ويقول شعرًا ركيكًا في زعيم بلاده الذي يواجه ثورة شعبية، يمجّده بكلام لا يقال إلا للخالق سبحانه وتعالى ويصفه بالرب ويصف حزبه بالدين، إلى درجة أن المذيع ارتبك ولم يعرف ما يقول. هناك في التاريخ، وفي وقتنا الحاضر، زعماء يستحقون الاحترام والتبجيل لأنهم احترموا شعوبهم ولم يبخلوا عليها بشيء، ولكن المفارقة أن التأليه عادة يكون لزعماء هم أقرب إلى المجرمين منهم إلى الأشخاص العاديين، وكلما أوغل الزعيم في الدماء كلما رفعه أتباعه وعلماء بلاطه درجة في سلم العظمة، وهو مثل قولك لرجل أصلع: يا “أبوزلف”. ما الذي دفع تلك الكاتبة الصينية إلى تغيير نظرتها لزعيم الصين الراحل من اعتباره إلهًا إلى مجرد أكبر قاتل جماعي في التاريخ؟ إنها في اعتقادي لحظة البصيرة التي تزول معها الغشاوة، ولا يزال الملايين في دول العالم الثالث على قلوبهم غشاوة نقلاً عن الأزمة