” مسئولية الحماية ” مصطلح نشأ في فضاء الثقافة الغربية، ينتقل الان الى الفضاء العربي محمولا بالجدل الساخن حول مشروعية الاستعانة بدعم خارجي ( تُقرأ أممي- غربي ) لانتفاضات الحرية العربية. الفكرة القاعدية وراء هذا المبدأ الذي أوشك في مرحلة من المراحل علي الارتقاء من مستوي العرف الي جزء من القانون الدولي، تقوم علي إن تعريف السيادة الوطنية يشمل ايضا مسئولية الدولة عن حماية مواطنيها، مايعني إن ثبوت تخليها عن هذه المسئولية عجزاً او قصداً يتطلب إيجاد وسيلة فوق – سيادية للحماية من قبل مرجعية ومعايير متفق عليها دوليا. وترد في حيثيات تسويغ هذا المبدأ سلسلة من الفظائع تبدأ عادة بالمحرقة النازية ضد اليهود مارة بمحرقة الخمير الحمر ضد سكان المدن في كمبوديا ثم المجزرة الصربية ضد المسلمين في سريبرينتسا وكورسوفو ومذابح الهوتو ضد التوتسي في رواندا. والمعروف إن مفهوم السيادة الوطنيه المقنن دوليا في الفقره 2 من المادة السابعة من ميثاق الاممالمتحده حول عدم السماح بالتدخل في شئون تقع ضمن الصلاحيات الداخلية لأى دولة، كان قد أرسى في معاهدة وستفاليا لعام 1648 إثر سلسلة من الحروب الاوروبية وجاء ميثاق الاممالمتحده الموقع عام 1945 ليكرسها. جذور فكرة ” مسئولية الحماية” تعود إلى نشوء مفهوم ” الجرائم ضد الانسانية ” مرتبطا بمحاكمات القادة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من أن ” معاهدة الابادة الجماعية ” التي تم توقيعها بعد ذلك بثلاث سنوات ألمحت لاول مرة الي إمكانية اختراق مبدأ تحريم التدخل الخارجي الا ان الامر توقف عند هذا الحد تحت تأثير عاملين هما صراعات الحرب الباردة والحساسية العالية لدي الدول الحديثة الاستقلال لأى توجه يشتم منه رائحة النيل منه. ومع انخفاض تأثير العامل الاخير بمرور الوقت وانتهاء الحرب الباردة خلال التسعينات، الذي انفجرت بعده ايضا عدة حالات اعتداء علي المجموعات الدينية المسلمة وغير المسلمة في يوغوسلافيا السابقة صدر نداء من كوفي أنان الامين العام السابق للامم المتحده عام 2000 ، تشكلت علي إثره ” اللجنة الدولية للتدخل وسيادة الدولة ” التي تولي رئاستها المشتركة الدبلوماسي الجزائري محمد سحنون والسياسي الاسترالي إيفانز، خرجت عام 2001 بتقرير عنوانه ” مسئولية الحماية”. سعي التقرير الى إيجاد صيغة مفهومية وقانونية تجمع بين احترام السيادة الوطنية ومسئولية الدول عن حماية المجموعات السكانية المعرضة للانتهاكات الفظيعة جراء المجاعات او الحروب الاهلية الخ.. الخ..وبينما يتراوح دور المجتمع الدولي، ممثلا في مجلس الامن، بين المبادرة بمنع وقوع الانتهاكات والتدخل القسري كملجأ أخير لمنع استمرارها، اقترح التقرير اشكالا متدرجة من التدخل تنتهى في حال فشلها الي التدخل القسري، مقترنة بالمسئولية الدولية عن إعادة بناء مايتهدم اثناء هذا النوع من التدخل. بالنسبة للاخير شدد التقرير علي ضرورة توفر شروط معينة : ضخامة الانتهاكات المتوقعة خاصة فيما يتعلق بالخسائر البشرية، ماإذا كانت هناك بدائل سلمية للتدخل العسكري، توفر الوسائل اللازمة لمثل هذا التدخل، تناسب حجم التدخل مع حجم الانتهاكات ثم تقدير حصيلته مقارنا بين إيجابياته وسلبياته. بقي من مقومات الصياغة النهائية لمبدأ ” مسئولية الحماية” كعرف دولي تبني مجلس الامن للمعايير المعنية. يذكر في هذا الاطار أن رؤساء الدول الاعضاء في الاممالمتحده كانوا قد أصدروا عام 2005 وثيقة مستوحاة من اعمال اللجنة، وافق عليها مجلس الامن فيما بعد، نصت علي التزامهم ب : “ اتخاذ خطوات جماعية بسرعة وحزم من خلال مجلس الامن تمشيا مع الميثاق، بما في ذلك الفصل السابع، علي اساس كل حالة علي حده وبالتعاون مع المنظمات الاقليمية المعنية اذا ثبت عدم كفاية الوسائل السلمية وتأكد عدم قدرة السلطات الوطنية علي حماية مواطنيها من الابادة الجماعية” ، مايعتبر التزاما بالفكرة الاساسية وراء مبدأ مسئولية الحماية. كما تتابعت علي منصة تأييد هذا المبدأ مجموعة من الشخصيات ذات الوزن العالمي مثل القس دزموند توتو ويوسكا فيشر ممثل حزب الخضر ووزير خارجة المانيا السابق، علماً بأن شخصيات افريقية مثل سيريل رامافوزا السكرتيرالسابق للاتحاد الوطني الافريقي واخري من اسيا وامريكا اللاتينية وروسيا شاركت في إعداد الوثائق. يمكن لاي مراقب للفضاء العام الرسمي وغير الرسمي العربي والمسلم عموما، ان يتوقع وصم عُرف ” مسئولية الحماية ” هذا بأنه غطاء جديد براق لتوسيع دائزة النفوذ الغربي. ومرد التعقيد هنا ان كل مايصدر عن الغرب يرن في العقلية السائدة لدينا بصدي استهداف الاسلام أوالعروبة أوالوطن، أو جميعها معا، بحيث يغدو من الصعب الفرز بين اصحاب المخاوف الحقيقية القابلة للنقاش وتلك المفتعلة دفاعا عن مصالح وافكار متحجرة تمثلها أنظمة وتوجهات البعد الواحد المنظمة حزبيا وغيرالمنظمة، يسارية كانت أو يمينية. ولكن يبقي السياق العام للجدل حول هذا الموضوع شبيها بذلك الذي دار من قبل حول موضوع حقوق الانسان حيث نبعت المقاومة/ الممانعة التي وجدها في البداية من نفس هذه الاوساط بحجة الخصوصيات الدينية والقومية قبل أن تصبح موضع قبول عام بل وتسجيل لبراءة اكتشافها في تراث هذه الخصوصيات. ومايمكن ان يضاف هنا ان هذا النوع من المفاهيم ليس اختراعا غربياً وانما هو اكتشاف لحاجات فرضها تطور الانسانية وتراكم تجاربها سبق إليه الغرب بحكم ترامي مساحات حرية التكفير والبحث العلمي لديه. لايتناقض هذا مع الاقرار بأن أي فكرة مهما كان نبلها وسلامتها معرضة للاستغلال بعكس مراميها او أن الحكومات الغربية تختلف عن الحكومات الاخري فيما يتصل بأولوية المصالح القومية علي الاعتبارات الإنسانية، ولكن هذا لايعني رفض الفكرة وانما توليد المناعة الذاتية اللازمة لإبطال مثل هذا الاستغلال ومن أهم أركانه فرز الحميد من الخبيث في دوافع الرفض نفسها. الخطأ في هذا الفرز ستنجم عنه خسارة تاريخية الابعاد إذ يعني تفويت فرصة توليد هذه المناعة. فهي مستحيلة دون ديموقراطية وهذه مستحيلة دون مجتمع أفراد متحررين من الاستبداد السلطوي المستدام والماضويات الدينية وغير الدينية التي يُرغِم الناس للهروب اليها منه. هذا مفاد تجربة مرحلة ماقبل- انتفاضات الحرية إذ تولت قيادة المجتمعات العربية فيها ضد النمط الاستعماري القديم ووريثه الحديث ( تُقرأ البريطاني -الامريكي ) حركات للاستقلال والبناء الوطنيين ناقصة التأهيل ديمقراطيا، فأنتهينا بعد نصف قرن ونيف الي هزيمة ساحقة تضاعف فيها حجم الهيمنة الغربية علي المقدرات الاستراتيجية السياسية والاقتصادية أميالا بينما تضاءلت مجتمعاتنا الي حضيض البؤس في العقل والروح ومطالب العيش اليومي. فرصة النهوض وتنمية قدرة الفرز والمناعة تتيحها الانتفاضات الحالية لانها تنطوى علي إمكانية تجاوز إسقاط الانظمة الشمولية الى تحدى الشمولية كنمط فكري وعقيدي إستنبتته عقود التسلط المديدة في المجتمع فأضحي قائماً حتي لدى بعض الاوساط المنتفضة نفسها. الاخوان المسلمون المصريون يتعرضون للضغط من جناحهم الشبابي بأتجاه نحو الصيغة التونسية التي توائم بين التحديث والدين بشكل لالبس فيه، بينما تتصدع مصداقية اليسار التقليدي بأصطفاف شافيز مع القذافي وبشار. هذان الوجهان للانتفاضات يعنيان إن بوابة الطريق من الحرية الي الديموقراطية قد انفتحت ولكن المسافة بينهما عندنا طويلة ومعقدة فنحن، لذلك، في حاجة لاتنكر لعون ( الخارج )،العاجل منه والآجل، بقدر الحاجة للتمييز بين الحميد والخبيث منه ومن رافضيه. من هنا ضرورة انتزاع ” مسئولية الحماية” من حلبة الممانعات الي طاولة التدبر الموضوعي العقلاني.