“”أمسحو كلو”، هكذا نطق أحد أبطال مسرحية “أبيض وأسود” في إشارة لكل تاريخ السودان، وهي عبارة حملت من السخرية ما حملت، واحتوت على نقد لاذع وواع؛ لما ظللنا نمارسه في حق هذا البلد الممكون ، أو “المسكون” بالألم والجراحات المثخنة ، فكل من سنحت له فرصة ، أو ابتسم له الحظ، ولو ساعة غفلة، يسعى لكتابة التاريخ برؤيته، أو يمحو ما سبقه من “أنتصارات”، أو ” أمجاد”، فيوق دوران عجلة التاريخ عند المحطة التي ركب فيها هو قطار الزمن المسرع. ونظرة لكل مناهجنا الدراسية وخطبنا السياسية تعكس هذا الواقع، وهو واقع زاد قتامةً مع مجئ نظام “الانقاذ” بليل دامس تحت أزيز المدافع، فكان أن اتخذ منظرو “الانقاذ “سياسة لفصل الذاكرة، وطمس معالم التاريخ، فحطموا ما أعتبروه ” أصناماً” مثل تماثيل “الجندي المجهول”، أو البطل عثمان دقنة، ووصل حد الجهل تغيير اسم احدى داخليات جامعة الخرطوم ؛ وازالة اسم البطل العظيم ” تهراقا”، من لافتة الداخلية الشهيرة، وتحويلها إلى اسم أحد كوادر الانقاذ، ولسنا ضد منح أي من تريد ” الانقاذ” شرف تمجيده، وحفر اسمه في ذاكرة التاريخ، لكن كان من الأفضل تأسيس مشروع جديد، وترك ما كان قديما!، وهي تفعل ذات الشيئ مع المدارس التي أعطت أسماء غير تلك التي كانت تحملها. واليوم؛ السابع والعشرين” لا أحد يحدثنا في كتب التاريخ عن معركة اسمها معركة “النهر”، وهي أهم معارك السودانيين في مقاومة الاستعمار البريطاني، وقادها ثوار يمثلون لون طيف السودان من الجنوب، وجبال النوبة، وأقصى الشمال؛ في وقت وصفهم “عنصريو” ذلك الزمان بأنهم ” المنبتين” وأبناء الشوارع”، احتجاجاً على هوية القادة الوطنيين!. وأولئك “العنصريون” هم أسلاف دعاة الحرب والمستثمرين اليوم في الكراهية والعنصرية، فلا غرابة أن لا نجد اشارةً تذكر في مناهجنا الدراسية، وخطبنا السياسية لبطولات أولئك الناس “الاستثنائيين” وهم الذين ولدوا من أصلاب أناس “عاديين” لا يحملون “رأسمال رمزي”، أو يدعون النسب “لوجهاء قريش ولصحابة النبي محمد صل الله عليه وسلم!. ومعركة النهر وقعت عند مستشفى العيون الحالى ، وبعد نفاذ الذخيرة طلب القائد عبدالفضيل الماظ، وهو سليل قبيلتي النوير والمورلي، من الذين تحت إمرته الانصراف، وواصل المعركة وحد لساعات طوال ، و لم يجد الجيش الانجليزى طريقة للقضاء عليه إلا عبر إستخدام المدفعية، وهدم مبانى المستشفى فوقه وإستشهد القائد عبدالفضيل الماظ فوق مدفعه (( المكسيم )) وهو يومذاك ابن (28)عاما فى ريعان الشباب ، لا غرو فالماظ قد أخذ من النوير شجاعتهم، ومن المورلي قوتهم، مثلما أخذ رفيق دربه علي عبد اللطيف ” شموخ الدينكا” ، قوة “بأس النوبة”، ومثلما حمل عبيد حاج الأمين “حضارة النوبا” ، وبالمناسبة فان عبيد حاج الأمين يرقد في ضريح بمدينة واو حاضرة بحر الغزال منذ 78 عاماً ، ليؤكد أنه أحد جسور التواصل بين الجنوب والشمال، والماضي والحاضر والمستقبل، شأنه شأن رفاق دربه الأشاوس. وهو تاريخ طويل بدا منذ أكثر من 7 ألف عام، كتبه بمداد من نور بعانخي وتهراقا وكشتا ودنقس وجماع والمهدي وعبد الفضيل وصحبه، فمن يستطيع فصل هذا التاريخ؟. ومن يجروء على تقسيم هذه “البطلولات”؟. اتمنى أن يكون هذا التاريخ ” مدخلاً لعلاقة جديدة بين الشمال والجنوب؛ مهما كانت نتيجة استفتاء تقرير المصير، ودعوة للسلام الاجتماعي والتعايش السلمي، فمهما انفصل الجنوب فهو لن يذهب بعيدا، لأنه مربوط مع الشمال ” بأوتاد” مثل تلك التي لا تكسر، ولا تقلع، مهما ؛ فعل من يخطط “لفصل الذاكرة”، وطمس التاريخ ، أو “أمسحو كلو”.